Tag Archives: History of Iraqi Insurance

Researching History of Women in Iraq’s Insurance Sector

البحث عن تاريخ عمل المرأة في قطاع التأمين العراقي في خمسينيات القرن العشرين: محاولة أولية

مصباح كمال

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2021/10/Misbah-Kamal-Women-in-Iraqi-Insurance-in-the-1950s-IEN.pdf

http://iraqieconomists.net/ar/2021/10/05/%d9%85%d8%b5%d8%a8%d8%a7%d8%ad-%d9%83%d9%85%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%ad%d8%ab-%d8%b9%d9%86-%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d8%b9%d9%85%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d8%a3%d8%a9-%d9%81/

أزعم أن قطاع التأمين العراقي كان سبّاقًا، قياسًا بشركات التأمين العربية، في توفير فرص لعمل النساء ليس فقط في أقسام الطابعة والاختزال والسكرتارية التقليدية، وهو الذي يرد في بال العديد عند الحديث عن دور المرأة في مجال العمل في شركات التأمين وغيرها من الشركات، وإنما في الأقسام الفنية.[1]  وقد حاولت جمع بعض المعلومات عن تاريخ عمل المرأة في قطاع التأمين العراقي وفي شركة التأمين الوطنية[2] بشكل خاص في خمسينيات القرن الماضي لتوثيق دور المرأة في المرحلة التأسيسية للشركة.

وقد تجمَّعت لدي بعض المعلومات الأولية التالية اعتمادًا على ما ذكرته لي باسمة البحراني[3] (عملت في شركة التأمين الوطنية في الفترة 1952-1955 وتركت العمل بعد زواجها من المرحوم حمدي التكمجي، 1929-2020). تذكر من زميلاتها في الشركة في أوائل الخمسينيات: آيتن الرحال، بثينة حمدي (خريجة كلية الإدارة والاقتصاد، تزوجت عبد الرحمن بهجت الذي كان يعمل في شركة التأمين الوطنية في قسم المحاسبة. تقيم الآن قي عمّان. في الفترة التي عملتُ فيها في التأمين الوطنية، 1968-1977، كانت بثينة حمدي مديرة الحسابات الأقدم)، فوزية قطان (أخت كريم القطان، مدير عام المصرف التجاري. توفيت قبل فترة قصيرة).

ذكرت لي أيضًا زميلة عملت معها في قسم الحريق في الشركة اسمها سمير أميس (الاسم غير كامل وغير دقيق)، وأخرى اسمها روز (الاسم غير كامل).

استفسرت من باسمة البحراني عن معرفتها بـ سعاد نايف برنوطي إلا أنها لم تعرفها؛ ربما لأن برنوطي التحقت بشركة التأمين الوطنية بعد 1955 أو أنها كانت تعمل في أحد فروع أو مكاتب شركة تأمين أجنبية في بغداد.

جاء في شهادة لمرزا مجيد مراد خان، وهو من المخضرمين في قطاع التأمين العراقي، أنه كان يعمل في أوائل الخمسينيات في شركة ملاحة بريطانية تقع مكاتبها في شارع السموأل قرب مقر غرفة تجارة بغداد القديم اسمها Strick and Ellerman وكان لها قسم للتأمين وفيه تعلم مبادئ التأمين.  وكتب التالي:

تمَّ ترقيتي عام 1956 إلى طاقم الموظفين staff في قسم النقل Shipping Department الذي كان يديره مدير يهودي اسمه شاؤول شكر.

كان قسم التأمين يديره شخص يهودي اسمه سليم عوبديا، أو بالحقيقة شالوم.  كان ذو أخلاق عالية تساعده موظفة يهودية تزوجها لاحقاً بالرغم من فارق العمر الكبير بينهما.[4]

وهذه هي الشهادة الوحيدة المتوفرة لدي عن عمل المرأة في مجال التأمين، في قسم التأمين في شركة ملاحة أجنبية، خارج شركة التأمين الوطنية.

كتبت لمنعم الخفاجي (24 آب 2021)، وهو أيضًا من المخضرمين، مستفسرًا منه إن كان له معلومات عن السيدات اللائي عملن في قطاع التأمين العراقي وفي شركة التأمين الوطنية بشكل خاص في الخمسينيات.  كتب معتذرًا لأنه التحق بالعمل التأميني في آب 1963 وليس له معلومات عن العاملات في حقبة خمسينات القرن الماضي وكتب:

ولكن أتذكر موظفة من حقبة الخمسينيات امتد عملها في شركة التأمين الوطنية إلى الستينيات وربما السبعينيات من القرن الماضي أسمها الآنسة ليلى نبهان واعتقد انها لبنانية استقرت في العراق، وأخرى أرمنية للأسف خانتني الذاكرة لا أتذكر أسمها ربما اسمها إليزابيث [بدروس].[5]

لقد ثبَّت بهاء بهيج شكري بعض المعلومات عن هؤلاء العاملات المتميزات في حوار معه إذ قال:

أثناء وجودي في قسم الإدارة، علمت أن الشركة تتكون من ثلاثة أقسام رئيسية هي: قسم التأمين البحري وقسم الحريق والحوادث وقسم ضمان الموظفين، وقسمين آخرين هما: قسم الطيران وقسم السكرتارية.  وكان هناك ثلاث سكرتيرات في هذا القسم هُنَّ: الآنسة سامية ساعور، خريجة كلية الملكة عالية قسم السكرتارية وتعمل سكرتيرة خاصة للمدير العام؛ والآنسة ليلى نبهان، خريجة نفس الكلية وتعمل ضابط ارتباط بين المدير العام وأقسام الشركة؛ والآنسة سعاد برنوطي، خريجة كلية الآداب فرع الأدب الإنجليزي، وتعمل ضابط ارتباط بين المدير العام ووسطاء إعادة التأمين.[6]

في كتابه بحوث في التأمين كتب بهاء بهيج شكري عن سعاد برنوطي وخصّها بالثناء على معرفتها الفنية، وكتب أن الآنسة سعاد برنوطي كانت من أوائل النساء اللواتي عملن في حقل التأمين.  كُنّ دقيقات في عملهن، متمكنات منه بكل اقتدار.  وفي هذا الصدد يذكر الأستاذ بهاء في هامش الصفحة (32) من كتابه اعلاه:

كان في الشركة [شركة التامين الوطنية] مكتب للسكرتارية، يعتبر مسؤولًا عن متابعة تنفيذ جميع الأمور التي تتعلق بقرارات مجلس إدارة الشركة.  وكانت تعمل فيه ثلاث موظفات على مستوى عال من الكفاءة والإلمام بالاتصالات الدولية اثنتان منهن خريجات كلية الملكة عالية والثالثة خريجة قسم الأدب الإنكليزي في كلية الآداب في جامعة بغداد.  وكن يجدن الانكليزية كتابة وقراءة وتحدثا إجادة تامة.  واثنتان منهم تجيدان الاختزال والتنظيم المكتبي.  وكان لدى هذا المكتب كتيب يتضمن قائمة بأسماء وعناوين شركات إعادة التأمين في العالم.

وعند مبادرته لتأسيس مركز دراسي في شركة التأمين الوطنية ساعدته سعاد برنوطي في تأسيس هذا المركز ثم أصبحت مديرة للقسم الفني في الشركة.

وخصَّ سعاد برنوطي بتعريف في هامش منفصل:

كانت إحدى الموظفات الثلاث في مكتب السكرتارية.  وهي خريجة كلية الآداب في جامعة بغداد فرع الأدب الإنجليزي.  تجيد اللغة الإنجليزية إجادة تامة.  وتتمتع بأخلاق عالية وشخصية قوية نافذة تفرض احترامها على كل من يتعامل معها.  وبعد انقلاب 8 شباط 1963 استقالت من الشركة وسافرت إلى الولايات المتحدة فحصلت على شهادة الدكتوراه.[7]  وهي الآن [2012] أستاذة في قسم الدراسات العليا في إحدى الجامعات الأردنية في عَمّان.  وقد كانت الدكتورة برنوطي ساعدي الأيمن، إذ أصبحت مديرة القسم الفني والقائمة بأعمال قسم إعادة التأمين بعد أن تم تجزئة مكتب السكرتارية إلى قسمين.  وقد كنت أتشاور معها في كل ما أريد القيام به قبل أن أقدم مذكرة به إلى المدير العام.[8]

ويذكر بهاء بهيج شكري في الحوار معه المناسبات التي كانت فيها سعاد برنوطي ساعده الأيمن وشريكته في اجتراح الأفكار.

فعند حديثه عن تعديل اتفاقيات إعادة التأمين لأنها كانت مجحفة بحق شركة التأمين الوطنية يأتي على ذكرها.  اقتبس مطولًا مما ذكره بهذا الشأن لأنه يلقي الضوء على جانب من تاريخ الشركة:

لقد عينت معاونا للمدير العام للشؤون الفنية فور عودتي من لندن، فكان اول عمل قررت القيام به هو العمل على تعديل اتفاقيات إعادة التأمين، إذ تبين لي خلال فترة تدريبي لدى سيتي بورنك [C T Bowring] كم كانت شركة التأمين الوطنية مظلومة بالاتفاقيات المبرمة بواسطة الوسطاء المذكورين.  وبالرغم من امتناني للاهتمام الذي لقيته من السادة سي تي بورنك خلال فترة تدريبي لديهم، إلا ان المصلحة الوطنية هي فوق المشاعر والاعتبارات الشخصية.

حاولت في البداية الاستعانة بالسيد بيرسي سكويرا، معاون مدير التأمين البحري، إلا انه نصحني ان أستعين بالآنسة سعاد برنوطي لأنها، كما قال، اكثر خبرة منه في موضوع إعادة التأمين، ولأنها هي صلة الوصل بين الشركة والسادة سي تي بورنك، ولم اكن اعرف سعاد برنوطي شخصيا، بل كل ما كنت اعرفه انها سكرتيرة في مكتب سكرتارية المدير العام، فاتصلت بها وأخبرتها بعزمي على إعادة النظر في علاقة الشركة بالسادة سي تي بورنك، وطلبت منها ان تعاوني بذلك، فأبدت كامل استعداها لمعاونتي في ذلك، فنجحنا في إبرام اتفاقيات جديدة مغطاة من أربع أسواق عالمية هي السوق السويسري والألماني والإنجليزي والسوفياتي، وكانت هذه هي بداية علاقتي العملية بالآنسة سعاد برنوطَي التي استمرت حتى يوم ٨ شباط ١٩٦٣.[9]

ويأتي على ذكرها في نفس الحوار مرة أخرى في سياق بدء اتفاقيات إعادة التأمين الجديدة حيث يقول:

بدأ العمل بذلك في نهاية سنة ١٩٥٨ إذ تم الاتصال بكل من الشركة السويسرية لإعادة التأمين والشركة الألمانية (ميونخ ري)، فأوفدت الشركة السويسرية السيد كاشان، وهو من خبراء إعادة التأمين البارزين، فاشتركنا أنا وسعاد برنوطي بالتفاوض معه بإشراف المرحوم عبد الوهاب الدباغ مدير عام الشركة، فكانت هذه المفاوضات مدرستي الثانية في إعادة التأمين بعد التدرب في سيتي بورنك.

كما يأتي على ذكر سعاد برنوطي عندما سأله المحاوران حول صحة ما قيل بأنه رُشح ليكون مديراً عاماً لشركة إعادة التأمين العراقية، وفيما إذا كان له أو لغيره دور في تأسيس هذه الشركة سنة 1960:

بعد تأسيس شركتين للتأمين من قبل القطاع الخاص سنة ١٩٥٩ هما شركة بغداد للتأمين وشركة التأمين العراقية تدارست أنا والآنسة سعاد برنوطي العمل على تطوير سوق التأمين العراقي، فاتفقنا على ثلاثة محاور هي: “١” تشريع قانون جديد لشركات ووكالات التأمين يتماشى مع ما حصل من تطور في سوق التأمين، و”٢” تطبيق التأمين الإلزامي من حوادث السيارات، و”٣” تأسيس شركة عراقية لإعادة التأمين.  وقد وافق المدير العام لشركة التأمين الوطنية على الفكرة عند عرضها عليه ووافق مجلس إدارة الشركة ووزارة التجارة عليها.  فشرّع قانون جديد للشركات سنة ١٩٦٠ كما شرع قانون آخر في نفس السنة لتأسيس شركة إعادة التأمين العراقية وتأخر تشريع قانون التامين الإلزامي لأسباب لا مجال لذكرها هنا.[10]

وعندما سأله المحاوران إن كان للمرأة دور/أدوار مهمة في شركة التأمين الوطنية، كان جوابه:

بصورة عامة يمكنني القول بأن نسبة الكفاءة في الجنس الناعم أعلى منها في الجنس الخشن، ومن المتميزات، حسب التسلسل، الآنسة سعاد برنوطي والآنسة إيزابيل بدروس والآنسة سامية ساعور.  وقد أتيت على ذكرهن في ثنايا أجوبتي على أسئلة أخرى.[11]

تذكُرُ مي مظفر، الشاعرة والقاصّة، في شهادتها عن تجربتها في شركة إعادة التأمين العراقية الآتي:

التحقت بالعمل في شركة إعادة التأمين في الأول من تشرين الأول 1961 … في تلك المرحلة المبكرة كنا نتدرب مع خبيرة تأتينا من شركة التأمين الوطنية وهي الآنسة سعاد برنوطي، التي حصلت فيما بعد على بعثة حكومية ونالت الدكتوراه في مجال التأمين من أمريكا.[12]

سعاد برنوطي شخصية فذة في تاريخ التأمين العراقي، ارتبط عملها بالمرحلة التأسيسية لقطاع العراقي، وقدمت له العديد من الأفكار التي أسهمت في تطوير القطاع كما أشار بهاء بهيج شكري لها.  وهي، من بين أخريات، من مُخرجات نظام التعليم في العهد الملكي (1921-1958) الذي سيتعزز بعد ذلك وينتشر معه تعليم الإناث.  وقد أنصفها بهاء بهيج شكري وهو يؤرخ تجربته التأمينية والنشاط التأميني في العراق، وكنا، هو وأنا، نُمنّي أنفسنا تحقيق اتصال معها إلا أن جهودنا لم تنجح.  وقد حاول الاستفسار من ناشر كتبها والجامعة التي درَّست فيها في عمّان إلا أن جهوده لم تثمر عن معلومات ملموسة.  إن بهاء بهيج شكري شاهد على تاريخ التأمين في زمانه، وما يكتبه يستحق كل التقدير ويشكّل أساساً للمؤرخين للتوسع في بحث هذا التاريخ،[13] وله فضل تعريفنا بسعاد برنوطي.

لقد كان للمرأة دورها المهم في مختلف جوانب النشاط التأميني، وكان البعض منهن، على قلَّتهن، يحتلن مواقع متميزة في شركة التأمين الوطنية على وجه التخصيص وفيما بعد في شركات أخرى، أذكر منهن، مع حفظ الألقاب والاعتذار من اللاتي لا أعرفهن أو أتذكر أسماؤهن: سعاد نايف برنوطي، بثينة حمدي، هدى سلمان الصفواني، سهير حسين جميل وغيرهن.  ومما يؤسف له أن هذا الدور لم يخضع إلى الدراسة أو البحث الأكاديمي.

إن كان أرشيف شركة التأمين الوطنية محفوظًا فإنه سيكون المصدر الأساس لبحث تاريخ عمل المرأة في الشركة.  لعل أحد الباحثين من الشباب يتولى مثل هذا البحث وفي ذات الوقت ينير جانبًا من تاريخ التأمين العراقي في سياقه الاقتصادي الاجتماعي.

نتمنى ممن له معرفة بالمرحلة التأسيسية لقطاع التأمين العراقي تقويم المعلومات التي أوردناها في هذه الورقة وتنبيهنا على أي خطأ في التوثيق وإضافة ما لديهم من معلومات.

29 آب 2021


[1]إيمان عبد الله شياع، “النصف الآخر: دراسة أولية لدور المرأة في شركة التأمين الوطنية،” موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/2016/02/03/%d8%a5%d9%8a%d9%85%d8%a7%d9%86-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%87-%d8%b4%d9%8a%d8%a7%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b5%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%a2%d8%ae%d8%b1-%d8%af%d8%b1%d8%a7%d8%b3%d8%a9/

[2] تأسست شركة التأمين الوطنية سنة 1950 وبدأت مزاولة أعمالها سنة 1952.

[3] لقاء في لندن بتاريخ 21 آب 2021.  سأذكر جميع الأسماء مع حفظ الألقاب.

[4] ميرزا مراد مجيد خان، “أيامي الأولى في التأمين،” مرصد التأمين العراقي:

[5] منعم الخفاجي، رسالة شخصية بتاريخ 25 آب 2021.

[6] تيسير التريكي ومصباح كمال، ذاكرة التأمين العربي-حوارات، الجزء الأول، فصل الحوار مع بهاء بهيج شكري (بيروت: منتدى المعارف، 2019)، ص 23-24.

هؤلاء السكرتيرات كن يجمعن بين المهارات اللغوية والمعرفة الفنية، ولذلك كنَّ يتمتعن بموقع متميز داخل تنظيم الشركة، كما يتبين من توصيف بهاء بهيج شكري هنا وفي أماكن أخرى من كتاباته.

[7] ولدت سعاد نايف برنوطي في 7 حزيران 1936.  عملت في أكثر من قسم في شركة التأمين الوطنية ومنها قسم إعادة التأمين.  غادرت العراق سنة 1963 وحصلت في وقت لاحق على شهادة دكتوراه في إدارة الأعمال من جامعة كاليفورنيا، لوس انجليس.  ألفت العديد من الكتب، بعضها كتب منهجية معتمدة في بعض الجامعات العربية، ونشرت الدراسات في مجلات محكمة، وأشرفت على العديد من رسائل الدكتوراه في الجامعات الأردنية، ويرد ذكر بعض مؤلفاتها في أطاريح جامعية.  درّست في الجامعات الأردنية.  فيما يلي ثبت ببعض مؤلفاتها:

ادارة الموارد البشرية – إدارة الأفراد (2007)

الأعمال: الخصائص والوظائف الإدارية (2008)

إدارة الأعمال الصغيرة: أبعاد الريادة (2008)

الإدارة: أساسيات إدارة الأعمال (2009)

نشرت هذه المؤلفات في عمّان من قبل دار وائل للطباعة والنشر والتوزيع، وقد أعيد نشر بعضها.

معظم هذه المعلومات مستمدة من الإنترنيت.

[8] بهاء بهيج شكري، بحوث في التأمين، ص 37.

[9] تيسير التريكي ومصباح كمال، ذاكرة التأمين العربي-حوارات، الجزء الأول، ص 28.

[10] تيسير التريكي ومصباح كمال، ذاكرة التأمين العربي-حوارات، ص 35.

[11] تيسير التريكي ومصباح كمال، ذاكرة التأمين العربي-حوارات، ص 31.

[12] مي مظفر، “شهادتي عن تجربتي في شركة إعادة التأمين العراقية،” موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/2017/02/16/%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%b8%d9%81%d8%b1-%d8%b4%d9%87%d8%a7%d8%af%d8%aa%d9%8a-%d8%b9%d9%86-%d8%aa%d8%ac%d8%b1%d8%a8%d8%aa%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%b4%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%a5%d8%b9%d8%a7%d8%af%d8%a9/

[13] رسالة من الكاتب لبهاء بهيج شكري أرسلت له في 3 آذار 2017.

Compulsory Motor Third Party Liability Insurance-Notes on the Position of the President’s Office and the Iraqi Bar Association

رئاسة الجمهورية ونقابة المحامين ومشروع تعديل قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات رقم 52 لسنة 1980

مصباح كمال

نشر في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

مصباح كمال*: رئاسة الجمهورية ونقابة المحامين ومشروع تعديل قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات رقم 52 لسنة 1980 – شبكة الاقتصاديين العراقيين (iraqieconomists.net)

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2021/08/Misbah-Kamal-Compulsory-Motor-Insurance-Comment-on-Iraqi-Bar-Association-IEN.pdf

هذه الورقة ليست بحثًا في موضوع تعديل قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات بل جملة ملاحظات على سلوك رئاسة الجمهورية والدور المناط من قبلها لنقابة المحامين لاقتراح تعديل القانون.  سيلاحظ القارئ/ة كثرة الاقتباسات وتبريري لها هو التعريف بها وتسهيل متابعة المصادر من قبل المهتمين.

يبدو أن الذاكرة التاريخية مفقودة لدى رئاسة الجمهورية ونقابة المحامين إذ أنهما لم يذكرا أن مشروع تعديل قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات رقم 52 لسنة 1980 وتعديلاته (فيما يلي قانون 1980) كان معروضًا للمناقشة أمام مجلس النواب سنة 2015.[1]  ومن خلال قراءة المخاطبات بين مكتب رئاسة الجمهورية ونقابة المحامين، كما نشرتها النقابة في موقعها الإلكتروني، نكتشف بعض ما هو غريب بالنسبة لنا.  ففي تقديمها لهذه المخاطبات بتاريخ 9 تموز 2021 تذكر النقابة أن

رئاسة الجمهورية تخاطب نقابة المحامين لصياغة مشروع [تعديل] قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات، والنقابة تكمل المشروع لغرض إرساله لمجلس الدولة ومناقشته تمهيداً لإرساله لمجلس النواب العراقي لأجل تشريعه.[2]

ليس واضحًا لماذا تتولى رئاسة الجمهورية مخاطبة نقابة المحامين لصياغة مشروع لتعديل قانون 1980 خاصة وأن صلاحيات رئيس الجمهورية محددة حصرًا في المادة 73 من الدستور، فقد جاء في الفقرة ثالثًا من هذه المادة أن رئيس الجمهورية “يصادق ويصدر القوانين التي يسنها مجلس النواب، وتعد مصادقا عليها بعد مضي خمسة عشر يوما من تاريخ تسلمها.”[3]

وبهذا الشأن من المفيد أن نقتبس الفقرة التالية من دراسة إسراء صالح داؤد[4]

أولًا ـــ فيما يخص مقترح نقابة المحامين الذي قدمته مؤخرًا إلى مجلس النواب [مكتب رئيس الجمهورية] الذي يؤخذ عليه ما يلي:

1)     كان يفترض أن يقدم إلى ديوان التأمين باعتباره الجهة المختصة قانونًا فيما يخص إعداد القوانين والأنظمة والتعليمات، حيث نصت المادة 8 من قانون تنظيم أعمال التأمين رقم 10 لسنة 2005 المعدل على أن: “يتولى رئيس الديوان: سادساً – إعداد مشاريع القوانين والأنظمة والتعليمات المتعلقة بأعمال التأمين ورفعها إلى الجهات المعنية”، وهذا بحد ذاته مخالفة قانونية وكان على مجلس النواب إحالة المشروع للديوان حسب الاختصاص لغرض دراسته.[5]

ترى هل أن رئاسة الجمهورية تتصرف خارج نطاق السلطة المخولة لها في الدستور؟  وهل هناك خلط أو عدم دقة في ممارسة الصلاحيات.[6]

بافتراض أن رئاسة الجمهورية تتمتع بصلاحية صياغة مشاريع للقوانين مباشرة من خلال مستشاريها أو من خلال الاعتماد على هيئات مختصة، ترى هل قامت بدعوة شركة التأمين الوطنية، التي تقوم، وبقوة القانون، بإدارة صندوق التأمين الإلزامي وتسوية مطالبات التعويض الناشئة من حوادث السيارات، أو شركات التأمين الأخرى ممثلة بجمعية التأمين العراقية، أو ديوان التأمين، لتقديم رؤيتها لتعديل قانون 1980؟

عندما تنهض الحاجة إلى تغيير قوانين قائمة يتم اللجوء في العديد من أسواق التأمين المتقدمة إلى إصدار دعوات للاستئناس بأفكار الاطراف المتأثرة بهذه القوانين وكذلك أصحاب الاختصاص.  وقد تلجأ إلى إصدار أوراق استشارية consultation papers لتحفيز النقاش.  لكن شيئًا من هذا لم يحصل بالنسبة لمشروع تعديل القانون.  هذا الوضع، لو كان تقييمنا له صحيحًا، يؤشر على غياب رؤية لدى رئاسة الجمهورية لتعديل القانون، ولذلك فإنها أحالت الموضوع إلى اجتهاد نقابة المحامين.  أما لماذا نقابة المحامين وليس غيرها فهو ما سنناقشه لاحقًا.  جاء في كتاب رئاسة الجمهورية إلى النقابة بتاريخ 16 حزيران 2021[7]

إشارة لكتابكم ذي العدد (2162) في 9/3/2021، تفضلكم بإعداد مشروع قانون لتعديل قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات رقم (52) لسنة 1980، متضمناً المبادئ والأسس التي وردت في كتابكم أعلاه وإرساله إلى مجلس الدولة لمناقشته بحضور الوزارات والجهات المعنية تمهيداً لإحالته إلى مجلس النواب للتصويت عليه، للتفضل بالاطلاع واتخاذ ما يلزم.

يلاحظ على هذا الكتاب غياب إيجاز/ملخص لما تريده الرئاسة من تعديل القانون ونطاق عمل النقابة بهذا الشأن، والاكتفاء بالـ “المبادئ والأسس” التي وردت في كتاب النقابة (هذا الكتاب ليس متوفرًا لنا).  يعنى هذا أن المهتمين بالموضوع، خارج الرئاسة والنقابة، ليس لهم دور إلا أثناء مناقشة مجلس الدولة بحضور [ممثلي] “الوزارات والجهات المعنية” [ربما يكون ديوان التأمين أو جمعية التأمين العراقية من بينها وكذلك من يمثل شركة التأمين الوطنية].  ويعني هذا أيضًا أن رئاسة الجمهورية قد تركت للنقابة تقرير التعديل على قانون 1980.

لقد اجتهدت النقابة في تقديم جملة من المقترحات لتعديل القانون[8] ضمت موضوعات سبق وأن كانت موضوعًا للمناقشة في ثمانينيات القرن الماضي،[9] وقد كتب عن بعضها مؤخرًا موفق حسن رضا[10] وإسراء صالح داؤد.[11]  إن ما قدمته النقابة تدوير لأفكار كانت متداولة لدى شركات التأمين الخاصة وبعض الكتاب، لكن النقابة قامت بتجميع هذه الأفكار في ورقة واحدة دون الإشارة إلى من قام بالكتابة عنها سابقًا.

لم يكن مقترح النقابة خاليًا من مصلحة يصبُّ لصالح المحامين.  ففي تقديمها للمخاطبات مع رئاسة الجمهورية عبَّرت عن هذه المصلحة كما يلي:

يذكر أن إقرار هذا القانون سيوسع من موارد عمل المحامين عن طريق إقامة دعاوى التأمين، أمام المحاكم المختصة.

ومنشأ هذه الموارد الجديدة هو إلغاء اللجان القضائية لتقدير التعويض واقتراح “تقدير تعويض الأضرار من قبل محاكم البداءة في محل الحادث” كما جاء في البند الثالث من المبادئ التي جاءت بها النقابة

يتم تقدير تعويض الأضرار من قبل محاكم البداءة في محل الحادث وتلغى اللجان القضائية في شركة التأمين الوطنية التي تتولى تقدير التعويض حاليا ليتم احتساب التعويض من قبل المحاكم اعتمادا على خبراء مختصين تحددهم المحكمة لضمان التعويض المتناسب مع الضرر الحقيقي، إذ في المحاكم الاعتيادية يستطيع المتضررون الاستعانة بالمحامين لإيضاح مدى الضرر وضمان تعادل التعويض المقدر مع الضرر الحقيقي بخلاف الحال في اللجان الاقتصادية التي تكاد تكون تعويضاتها محددة ومتماثلة رغم اختلاف الأشخاص واختلاف إصاباتهم.  ويعود جزء من ذلك إلى غياب دور المحامي (القضاء الواقف) في الوصول لتقدير التعويض الفعلي اذ عل فرض وجود محامي فإن دوره يقتصر في الوقت الحاضر على تقديم استمارة طلب التعويض وجلب الأوراق التحقيقية والتقارير الطبية وتستقل اللجنة في تقدير التعويض الذي يكاد يكون متماثلا إضافة لقلته وعدم تناسبه مع الضرر ذلك الضرر الذي يهدف التأمين تعويضه.

لقد كان بهاء بهيج شكري سباقّا في النقد الصارم للقانون بشكل عام ولهذه اللجان خصوصًا[12]   إذ كتب أن

ضآلة مبالغ التعويضات التي درجت تلك اللجنة المذكورة على تقديرها لم تكن لتغطي 10% من الضرر الفعلي الذي يصيب الشخص المضرور، مما أعاد “النظام العشائري” المعروف بنظام “الفصل والدية” للظهور والذي سبب إعادة تطبيقه إرهاقًا كبيرًا لمالكي المركبات، هذا النظام الذي اختفى نهائيًا بتشريع قانون التأمين الإلزامي القديم وما رافقه من إلغاء نظام دعاوى العشائر.[13]

وكتب أيضًا أن

… تشكيل هذه اللجنة يتعارض مع النظام العام إذ أن المدين (شركة التأمين الوطنية) هو واحد من أعضائها، فلا يجوز قانونًا تنصيب المدين حكمًا للبت في حقوق الدائن (المضرور)، وقد ثبت من مستوى مبالغ التعويض التي كانت هذه اللجنة تقدرها مدى الإجحاف الذي لحق بحقوق المضرور.[14]

جاء تأسيس اللجان القضائية بموجب قرار مجلس قيادة الثورة (المنحل) رقم 815 بتاريخ 20 حزيران 1982[15] للحيلولة دون التربح من مطالبات التعويض من قبل المحامين.  كتب موفق حسن رضا الآتي بهذا الشأن:

لقد أستغل البعض عدم معرفة المتضررين بحقوقهم وسهولة الحصول عليها، فبرزت ظاهرة متابعة الحصول على التعويض، على الرغم من سهولتها، لقاء أتعاب مبالغ فيها، قرب البعض منها الى نصف مبلغ التعويض.  لذلك كان لابد من التحرك لحماية هذه الشريحة من المواطنين وقطع الطريق على من يحاول استغلالها، فقد أستقر الرأي على تشكيل لجان تختص بالنظر في تقدير التعويض وفقا لأحكام قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات رقم 52 لسنة 1980 تتشكل من ثلاثة أعضاء برئاسة قاض وعضوية حقوقي من شركة التأمين، وجامعي من المؤسسة العامة للرعاية الاجتماعية، ويطعن بقرارات هذه اللجان أمام محكمة التمييز.  وحدد القرار المذكور أتعاب المحاماة بنسبة لا تتجاوز 10%، وبحد أقصى مقداره 500 دينار.

لقد كان عمل اللجان ينصب بشكل كلي على تقدير التعويض، آخذين بعين الاعتبار ظروف كل متضرر، ذلك ان مسؤولية شركة التأمين عن تسديد التعويض ثابته، بصرف النظر عن توفر ركن الخطأ.  وبات من الممكن للمتضررين أن يحصلوا على التعويض خلال فترة قصيرة جدا، بعد أن كان البعض من المتضررين ينتظرون سنين للحصول على التعويض من خلال المحاكم.[16]

وهو ما أكدته مؤخرًا إسراء صالح داؤد:

من خلال عملي كعضو للجنة القضائية عن شركة التأمين الوطنية فإن اللجنة القضائية لها الصلاحية في اتخاذ ما يلزم في حسم التعويض بالاستعانة بالخبراء او كسماع الشهود…الخ متى ما اقتضت الضرورة ذلك، علما أن شركة التأمين تتحمل أجور الخبراء

إن ظاهرة متابعة الحصول على التعويضات في حالات الحوادث الشخصية والمسؤولية المدنية معروفة في العديد من أسواق التأمين ومنها أسواق التأمين في البلدان الغربية.  فقد عرفت الولايات المتحدة ما يعرف بظاهرة مطاردة سيارت الإسعاف ambulance chasing، من قبل محامين أو من يمثلونهم، التي تنقل المصابين إلى المستشفيات بغية الحصول على توكيل لمتابعة مطالباتهم مع شركات التأمين لقاء أتعاب تُستحصل من مبالغ التعويض، وفي المحصلة النهائية يصبح المحامي شريكًا مع الطرف النتضرر للانتفاع من مبلغ التعويض الذي تقدمه شركة التأمين أو تقضي به المحكمة المختصة.[17]

وكان لاستشراء دور المحامين في أول عهد قانون 1980 في المبالغة بالمطالبة بالتعويض أثره على تقييد هذا الدور من خلال تأسيس اللجان القضائية للبت في تقدير التعويض.

يبدو أن الإشكاليات التي تنطوي عليها تشكيل اللجان القانونية وإجراءاتها حقيقية، كما بينها بهاء بهيج شكري وأشارت إليها نقابة المحامين.  لكن مجرد الإشارة إليها أو إبراز التناقض في تشكيلها الذي “يتعارض مع النظام العام إذ أن المدين (شركة التأمين الوطنية) هو واحد من أعضائها، فلا يجوز قانونًا تنصيب المدين حكمًا للبت في حقوق الدائن (المضرور)” كما يقول بهاء بهيج شكري، ليس كافيًا.  فهناك حاجة ملحة للتقييم التاريخي لعمل هذه اللجان مع دراسة حالات.  إن المقتربات النقدية لمضامين القانون ولتجربة التطبيق ودور شركة التأمين الوطنية لم يلقَ حتى الآن ما يستحقه من اهتمام قانوني واقتصادي وتأميني (خاصة في الجانب الاكتتابي بخطر تأمين المسؤولية المدنية الناشئة من حوادث السيارات، وهو جانب مُغيّب بقوة القانون إذ أن الاكتتاب القائم يقتصر على مجرد تحديد العلاوة على سعر الوقود).  وكما كتبت في مقال سابق “ربما آن الأوان لمناقشة الآثار الاقتصادية لقانون سنة 1980 على شركة التأمين الوطنية المفوضة بتسوية المطالبات بالتعويض وعلى شركات التأمين وتقييم السجل التاريخي لهذا القانون.”[18]  وكذلك إخضاع تجربة تطبيق القانون منذ 1980 لتحليل اكتواري.

إن أطروحة بهاء بهيج شكري بعدم جواز تنصيب المدين (شركة التأمين الوطنية) حكمًا للبت في حقوق الدائن (المضرور) صائبة لكنها ليست سببًا كافيًا لإلغاء اللجان القضائية، إذ أن إعادة تشكيل هذه اللجان، من خلال تعديل القانون الحالي، باستبعاد ممثل شركة التأمين الوطنية من عضويتها واستبداله بممثل آخر يتمتع بالاستقلالية، من خارج الشركة، يضع نهاية لتضارب المصالح.  إن تعديل تركيبة اللجان بحاجة إلى دراسة مستقلة ووضع قواعد وضوابط لعملها وتحصينها من أية مؤثرات تنتقص من استقلاليتها.

وفيما يخص اطروحته حول عودة “النظام العشائري” المعروف بنظام “الفصل والدية” للظهور بسبب ضآلة مبالغ التعويضات التي كانت الجان القضائية تقدرها فإنه بحاجة إلى دراسة سوسيولوجية وإحصائية.  وبهذا الشأن من المفيد، كمؤشر على مثل هذه الدراسة، ما كتبه سليم الوردي:

منذ أواسط الستينات من القرن الماضي، وضحايا حوادث السيارات يتقدمون بمطالبات التعويض إلى شركة التأمين الوطنية، بموجب قانون التأمين الإلزامي على السيارات.  وكان لتطبيقات هذا القانون دور ملحوظ في خلق الشعور لدى المواطنين في الحق المدني والمطالبة به.  وتشير الإحصاءات أن تعويضات مجزية نسبياً كانت تدفع لضحايا حوادث السيارات. كان معدّل التعويض الذي يدفع سنة 1980 زهاء 3500 دينار بما يقابل 11900 دولار أميركي.  بينما أصبح معدل مبلغ التعويض زهاء 5350 دينار في سنة 1995، أي بما يقابل (بسبب التضخم الجامح) في حدود 3 دولارات فقط.  ولم يعد من المعقول أن يقتنع الضحايا بمبلغ تعويض تافه كهذا. وقد طالبت شركة التأمين الوطنية ديوان الرئاسة بتعديل قسط التأمين المحسوب بمعدّل عشرة فلوس على اللتر الواحد من وقود السيارات عندما كان سعر اللتر 90 فلساً.  ولكن ديوان الرئاسة أصر على عدم التعديل وإبقاء السعر من دون زيادة، على الرغم من ارتفاع سعر لتر الوقود إلى عشرات المرات.  بما يعني فعلاً أن ديوان الرئاسة لم يكن يكترث بانفضاض أصحاب الحق المدني من ضحايا حوادث السيارات عن شركة التأمين، وانصرافهم لتسوية حقهم المدني بأسلوب الفصل العشائري، الذي يحقق تعويضات أكبر بمئات الأضعاف.[19]

أما أطروحة نقابة المحامين لإلغاء المجالس القضائية واللجوء إلى المحاكم فإنها لا تقوم على دراسة موثقة منشورة.  من المعروف أن مطالبات التعويض عن الأضرار لا تنتهي دائمًا للبت أمام المحاكم في العراق وغيره من بلدان العالم.  كما أن اللجوء إلى المحاكم ليس حلًا سحريًا وكما كتبت إسراء صالح داؤد فإنه

قد يتسبب في التأخير ويستغرق وقتاً لحسم تسوية التعويض، وإذا ما علمنا أن العديد من الدول سارية في التوجه في فض النزاعات عبر هيئات الوساطة والتحكيم قانونيًا أو اتفاقيًا، إذ أن المطالبة أمام المحاكم تتطلب سلسلة من إجراءات عند التقاضي، فضلًا عن أنها تثقل كاهل طالب التعويض بالرسوم والمصاريف القضائية وأجور المحاماة والخبراء إذا ما قورنت بأعمال اللجنة القضائية.[20]

وفي حين ان الإجراءات القضائية تنطوي على تكلفة مالية، تتحملها شركة التأمين والطرف المتضرر، فإن إجراءات التأمين بما فيها تسوية المطالبات بالتعويض لا يترتب عليها مثل هذه التكلفة، إضافة إلى خلوّها من التعقيدات القضائية.  وهذا بالإضافة إلى التلكؤ في إصدار الأحكام القضائية.  ومن المفيد هنا أن نقتبس ثانية مما كتبه موفق حسن رضا أنه

بات من الممكن للمتضررين أن يحصلوا على التعويض خلال فترة قصيرة جدا، بعد أن كان البعض من المتضررين ينتظرون سنين للحصول على التعويض من خلال المحاكم

بعد نشر مقالي “ملاحظات سريعة ودعوة للمناقشة حول التأمين الإلزامي من حوادث السيارات” أثار معي أحد زملاء المهنة في العراق سؤالين:

في محاولة للاقتراب من هذين السؤالين قدمت الملاحظات التالية.

في الفترة التي شرع أثناءها قانون سنة 1980 كان قطاع التأمين العراقي يتكون من شركتين: الشركة العراقية للتأمين على الحياة (شركة التأمين العراقية حاليا) المتخصصة بتأمينات الحياة وشركة التأمين الوطنية المتخصصة بالتأمينات العامة.  لذلك وفي سياق تركيبة سوق التأمين آنذاك فإن تكليف التأمين الوطنية بإدارة صندوق التأمين الإلزامي وبوظيفة التعويض يكون أمرًا مفهومًا.

ليس هناك ضرورة ماسة كي تقوم شركة التأمين الوطنية بإدارة الصندوق والتعويض، فبالإمكان إنشاء صندوق خاص تجمع فيه أقساط التأمين، المستوفاة من سعر الوقود، لتسديد المطالبات منه.  وبهذا ينتفي دور التأمين الوطنية أو أي شركة/شركات تأمين أخرى، إذ يمكن تفويض إدارة الصندوق لهيئة مستقلة لا علاقة لها بأي من شركات التأمين العامة أو الخاصة.  وهذا يتماشى مع توجهات القانون إذ أن القانون ألغى الوظيفة الاكتتابية التي تقوم بها شركات التأمين في تقييم الأخطار ووضع الشروط والأسعار المناسبة للتأمين عليها.  وبهذا المعنى ليس هناك مبرر لأن تقوم شركة التأمين الوطنية بوظيفة التعويض.

فيما يخص الجانب الآخر من سؤالك: مشاركة شركات القطاع الخاص في وظيفة التعويض فإن المشاركة غير ممكنة.  أقول هذا مسترشدًا بما هو معهود في حالات مشاركة شركتين أو أكثر في الاكتتاب بخطر ما (co-insurance) ومن ثم الاتفاق بينها على أن تكون إحداها هي الشركة القائدة (leading company) في وضع الشروط والأسعار وتسوية التعويضات.  مثل هذه المشاركة غير ممكنة في ظل قانون 1980 سواء ما تعلق بالاكتتاب أو التعويض.

بالنسبة للنظام السائد بفضل قانون 1980، كيف يمكن لشركات القطاع الخاص المشاركة في وظيفة التعويض وهي لا تستلم أقساط التأمين الإلزامي للمسؤولية المدنية الناشئة من حوادث السيارات؟

على أي حال، إن الموضوع يحتمل الكثير من النقاش، وهو بحاجة إلى مشاركة طيف واسع من ممارسي التأمين والقانونيين والاقتصاديين وغيرهم.

إن الإبقاء على القانون وحتى تعديله كما ترغب رئاسة الجمهورية وكما تقترح نقابة المحامين لا يسمح بقيام دور لشركات التأمين الأخرى للتأمين على المسؤولية المدنية الناشئة من حوادث السيارات إذ أن الوظيفة التعويضية تظل محصورة بشركة التأمين الوطنية.

إلغاء القانون يعني التراجع عن مبدأ الحق المفترض بقوة القانون، وليس العقد، للشخص المتضرر (الطرف الثالث) بالحصول على التعويض باعتماد قاعدة تحمل التبعة وإقصاء ركن الخطأ لتحديد قيام المسؤولية على مسبب الضرر.

كما أن إلغاء القانون يعني اللجوء إلى التأمين التجاري لحماية الذمة المالية للمؤمن له تجاه من يتسبب بتضرره في بدنه أو في ممتلكاته؛ أي استعادة نموذج قانون التأمين الإلزامي من المسؤولية المدنية الناشئة من حوادث السيارات رقم 205 لسنة 1964 مع تحديثه، وهو القانون الذي عملت شركة التأمين الوطنية من أجل تحقيقه في ذلك الوقت.

من المؤسف أن مشروع تعديل قانون 1980 لم يخضع لنقاش عام ربما كان سيرشح منه سرداً لتجارب شخصية، وآراء لأطراف مستقلة، وأخرى تأمينية وقانونية واقتصادية، وتحليل لتأثير القيم الاجتماعية على ثقافة التأمين.

25 آب 2021


[1] راجع: مصباح كمال، “وقفة مع مداخلات مجلس النواب العراقي في القراءة الثانية لمشروع قانون تعديل قانون التأمين الالزامي من حوادث السيارات رقم (52) لسنة 1980،” مجلة التأمين العراقي:

https://misbahkamal.blogspot.com/2015/07/iraqi-parliament-debates-amendment-of.html

لعل رئاسة الجمهورية ونقابة المحامين قد تباحثا بشأن مشروع التعديل السابق ولهما مخاطبات بشأنه ولكن ما هو متوفر لي لا يشير إلى ذلك.  أرجو ممن يتوفر على معلومات أفضل الكشف عنها لتصحيح الموقف.

[2] موقع نقابة المحامين: https://lawyers.gov.iq/news/1775/

[3] دستور العراق الصادر عام 2005:

https://www.constituteproject.org/constitution/Iraq_2005.pdf?lang=ar

[4] جميع الأسماء ستذكر مع حفظ الألقاب.

[5] اسراء صالح داؤد، “دعوات لمشروع جديد لقانون التأمين الإلزامي من المسؤولية المدنية عن حوادث السيارات،” موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2021/08/مشروع-قانون-جديد-للتامين-الالزامي-من-المسؤولية-المدنية-عن-حوادث-السيارات-IEN-Edit-3.pdf

[6] من المفيد هنا قراءة ما كتبه هادي عزيز علي: “رسالة الى السيد رئيس الجمهورية المحترم … عن قانون العقوبات الجديد،” ودفاعه عن دور القضاة، المدى:

https://almadapaper.net/view.php?cat=245433

[7] راجع نص كتاب رئاسة الجمهورية الملحق بهذه الورقة.

[8] راجع ما قدمته نقابة المحامين لرئاسة الجمهورية تحت عنوان “مقترح تشريع قانون جديد للتأمين الإلزامي من حوادث السيارات” الملحق بهذه الورقة. هذا العنوان يذكر “مقترح تشريع قانون جديد” في حين أن المطلوب هو تعديل القانون القائم.

[9] أشرت إلى بعضها في ورقتي “ملاحظات سريعة ودعوة للمناقشة حول التأمين الإلزامي من حوادث السيارات،” موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2021/07/Misbh-Kamal-Compulsory-Motor-Insurance-IEN.pdf

[10] راجع: موفق حسن رضا، “تعقيب على مقال “ملاحظات سريعة ودعوة للمناقشة حول التأمين الإلزامي من حوادث السيارات،” موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2021/07/Muwafaq-H.-Ridha-Comulsory-Motor-TPL-Law-52-of-1980-critical-comments-final.pdf

[11] راجع: إسراء صالح داؤد، مصدر سابق.

[12] بهاء بهيج شكري، “مبحث خاص: ملاحظات حول قانون التأمين الإلزامي العراقي رقم 52 لسنة 1980،” فصل في كتابه التأمين من المسؤولية في النظرية والتطبيق (عمان: دار الثقافة، 2010)، ص 582-598.

[13] شكري، ص 585-586.

[14] شكري، ص 594.

[15] نص القرار منشور في مجموعة قوانين التأمين الإلزامي على السيارات في البلاد العربية، القاهرة: الاتحاد العام العربي للتأمين، 1996، ص 153-154.

[16] موفق حسن رضا، مصدر سابق.

[17] للتعريف بهذه الظاهرة راجع:

https://en.wikipedia.org/wiki/Ambulance_chasing

[18] مصباح كمال، مصدر سابق.

[19] د. سليم الوردي مقتربات إلى المشروع السياسي العراقي، 1921-2003 (بغداد: د.ن، 2005)، ص 107.

[20] إسراء صالح داؤد، مصدر سابق.

A Note on the National Insurance Company and Production

ملاحظة على شركة التأمين الوطنية وإنتاج أعمال التأمين

مصباح كمال

نشرت في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2021/07/Misbah-Kamal-NIC-Insurance-Production-Comment-of-Israa-Saleh-Daoud-IEN.pdf

http://iraqieconomists.net/ar/2021/07/26/%d9%85%d8%b5%d8%a8%d8%a7%d8%ad-%d9%83%d9%85%d8%a7%d9%84-%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%b4%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a3%d9%85%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%88/

قرأت مؤخرًا تقريرًا نشرته وكالة الأنباء العراقية بتاريخ 8 تموز 2021 تحت عنوان “التأمين الوطنية توضح إجراءاتها الخاصة بتعويض المتضررين من الحرائق.”  https://www.ina.iq/129852–.html تضمن حديثًا مع الآنسة إسراء صالح داؤد، مدير عام الشركة.  وقد نقل التقرير معلومات مفيدة للمهتمين بالتأمين وللقراء عمومًا.

توقفت عند فقرة نقلها كاتب التقرير عن مدير عام الشركة ذكر فيها أنها تؤكد أن

أي شركة او مخزن او مول يرغب بالتأمين عليه مراجعة شركة التأمين ويملأ استمارة طلب التأمين وهناك لجنة كشف من الشركة تتولى إجراء الكشف لتقييم الخطر وتسعيره وتحديد القسط.

ظاهريًا ليس هناك ما يستدعي التساؤل عن الإجراء الذي تتبعه شركة التأمين الوطنية: مراجعة طالب التأمين للشركة للحصول على التأمين الذي يرغب به.  ولكن عند التأمل والتحليل نرى أن المضمر في هذا التأكيد هو أن الشركة لا تسعى إلى الإنتاج بل تنتظر أن يأتي إليها المؤمن لهم المرتقبون، طالبو التأمين، لتقوم بالتأمين على أموالهم ومسؤولياتهم.  والمضمر أيضًا افتراض وجود وعي بأهمية شراء الحماية التأمينية لدى طالبيها، لكن واقع الحال يشير إلى ضعف هذا الوعي إلا لدى القلة من الأفراد والشركات التي تلجأ إلى شركة التأمين للحصول على وثيقة تأمين من مخاطر معينة.  هذا الواقع، ضعف الوعي بالتأمين، يقضي أن يأتي التعريف بأهمية الحماية التأمينية من شركات التأمين ذاتها ومن وسطاء ووكلاء ومنتجي أعمال التأمين.

ربما جاء هذا التأكيد في غفلة، أو من نظرة متوارثة إلى وظيفة إنتاج وثائق التأمين في شركات التأمين العامة تعززت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.  من معرفتنا البسيطة بالمدير العام للشركة نرى أن ما نقل عنها ليس دقيقًا، وهو ما نرجوه، فهي حريصة على تقدم شركتها وتقدم جميع شركات التأمين في العراق.  فقد عملت مؤخرًا، كما علمت، على ضمان تمثيل شركات التأمين الخاصة في اجتماعات مركز التدريب المالي والمحاسبي الذي يعمل على إقامة مؤتمر تحت شعار “إصلاح قطاع التأمين في العراق.”[1]  كما علمت بأنها تعمل على إعادة النظر بنص وثيقة التأمين على حياة المقترضين لضعف الصياغة وعدم الدقة في بعض المواضع.

من بين الانتقادات التي كانت تُوجّه لشركات التأمين العامة في العراق هو أنها، بفضل احتكارها لأعمال التأمين، لا تسعى إلى الإنتاج بل تنتظر طالبي التأمين ليأتوا إليها، وأن هذا الوضع يفسر عدم شيوع التأمين كما يجب.  وهذا انتقاد غير منصف وكان الهدف منه دائمًا هو الاستهانة بالقطاع العام والتقليل من دوره في النشاط الاقتصادي.  ففي الفترة ما قبل 2003، وخاصة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت شركة التأمين الوطنية، وبفضل إداراتها، تنتهج الخطط الإنتاجية[2] وتعمل على تحقيقها من خلال منتجي الشركة (كان للشركة قسم متخصص يحمل اسم قسم الإنتاج) ومن خلال ما يقرب من عشرين وكالة للتأمين.[3]  في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة في تسعينيات القرن الماضي انحسرت أعمال هذه الوكالات وألغيت الاتفاقيات مع التأمين الوطنية.  ربما لم يكن الوضع مختلفًا بالنسبة لشركة التأمين العراقية (كان اسمها حتى أواخر ثمانينيات القرن المنصرم الشركة العراقية للتأمين على الحياة)، وكان معروفً عنها قوة جهازها التسويقي.

ومن أجل إبراز أهمية شركات التأمين الخاصة فإنها تُقارن مع شركات التأمين العامة، فالأطروحة السائدة هي أن الشركات الخاصة لا تنتظر أن يأتيها طالب التأمين بل هي التي تبحث عنه وتعمل على إقناعه بشراء الحماية التأمينية.

لعل التأكيد المنقول عن مدير عام شركة التأمين الوطنية الذي اقتبسناه يعزز هذه المقارنة إذ يبدو أن النهج الاستباقي proactive approach في إنتاج أعمال التأمين لدى شركات التأمين العامة، وخاصة شركة التأمين الوطنية في الفترة ما بعد 2003، صار مفقودًا وفي أحسن الحالات ضعيفًا.

ولعل ما يؤيد هذه الصورة هو قانون تأسيس شركة التأمين الوطنية رقم 56 لسنة 1950 الذي لا يزال نافذًا.  فالمادة 7 من القانون تقضي بأن

على دوائر الحكومة والمؤسسات الرسمية أن تعهد حصراً إلى الشركة بمعاملات التأمين التي تجريها.

وهذا القانون هو ما يتعكز عليه منتقدو الشركات العامة في الادعاء أن أعمال التأمين تأتي إلى شركة التأمين الوطنية دون جهد من قبلها.

لكن الصفة الحصرية تقتصر على “دوائر الحكومة والمؤسسات الرسمية” أي أن معاملات التأمين الأخرى تبقى مفتوحة للمنافسة بين شركات التأمين العامة والخاصة.  كما أن هذه الدوائر والمؤسسات قلما تلجأ لشراء التأمين.  ويمكن أن نذكر هنا أن معظم المستشفيات لا تشتري حماية تأمينية، مثلما أن العديد من المشاريع الحكومية لا يؤمن عليها.

إن أحكام هذا القانون تتضارب مع قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005، وهو ما حاولنا دراسته.[4]  فالمادة 81 من قانون 2005 تؤسس لإطلاق حرية التأمين:

أولاً- لأي شخص طبيعي أو معنوي عام أو خاص الحق في الاختيار بشراء منتجات التأمين أو خدماته من أي مؤمن أو معيد تأمين ما لم ينص القانون على خلاف ذلك.

ثانياً- لا يجوز اجبار شخص طبيعي أو معنوي عام أو خاص على شراء منتجات خدمات التأمين من مؤمن أو معيد تأمين أو وكيل أو وسيط أو مقدم خدمات تأمين محدد، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك.

التضارب بين أحكام القانونين ما يزال قائمًا رغم التوجه الاقتصادي لحكومات ما بعد 2003 لبناء نظام اقتصادي رأسمالي بإرشادات من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتحرير السوق وتعزيز التنافس بين الوحدات الاقتصادية وإعلاء دور القطاع الخاص (وإشاعة النهب والفساد والفقر والتفاوت الطبقي الحاد).  وهو ما يستدعي تنظيم المنافسة بين شركات التأمين العامة والخاصة على أسس اقتصادية وإزالة التنافر بين القوانين.  هذا بافتراض أن مشاريع الخصخصة أو الدمج بين الشركات العامة لم تعد قائمة في جدول أعمال الحكومة.

إن إزالة العوائق القانونية سيوفر الأرضية المناسبة لقيام منافسة حقيقية بين شركات التأمين العامة والخاصة.  وهنا تنهض مسألة كيفية حفاظ شركات التأمين على حصتها من الأعمال وسبل زيادتها، والخروج من رقدة انتظار مجيء طالب التأمين إليها.  لو ظلت شركة التأمين الوطنية على موقف انتظار طالب التأمين ليأتي إليها ستخسر الكثير من الأعمال لمنافسيها.

من المتوقع أن لا يظل حال قطاع التأمين العراقي على ما هو فيه الآن من ترهل وضعف في الموارد والقدرات الفنية إن تطورت شركات التأمين الخاصة نحو الأحسن، أو تم السماح بدخول شركات التأمين الأجنبية[5] عندها ستتراجع مكانة شركة التأمين الوطنية مالم تستلهم شيئًا من تراثها السابق، وتستفيد من الأدوات الحديثة لتسويق المنتج التأميني، وترفع مستوى خدماتها.

لنتذكر هنا أن د. سليم الوردي، الذي ترأس قسم التخطيط والمتابعة، ساهم على المستوى الفكري في إشاعة مفاهيم وتطبيقات تخطيط الإنتاج في شركة التأمين الوطنية وتسويق المنتجات والخدمات التأمينية في عقد السبعينيات وما بعدها.  فقد قام بترجمة وإعداد كتاب تسويق التأمين، وقبلها تعاون مع زملاء آخرين في تأليف كتاب تسويق خدمات التأمين.[6]

وقبل ذلك، لنتذكر حكاية أوردها الأستاذ عبدالباقي رضا في رسالة للكاتب اقتبس مقاطع مطولة منها لقيمتها التاريخية وما تنطوي عليه من مغزى.  ففي رسالة له جوابًا على سؤال عن ادارته للشركة كمؤسسة حكومية أو شركة تجارية، كتب الآتي:

سؤالك عن ادارتي الشركة كمؤسسة حكومية أو شركة تجارية يستحق وقفة خاصة.  تعلم انني عملت في القطاع الخاص مع مجموعة نشطة وطموحة ولم أحلم اني سأتحول للعمل في القطاع الحكومي وفجأة جاء التأميم وأصبحت مديراً عاماً لشركة حكومية.  بعد سنة وأكثر وأنا في شركة بغداد للتأمين حصل حريق كبير في سوق دانيال للأقمشة والتهم الكثير من المحلات التي كان مؤمناً عليها لدى شركتنا.  بعد أن أخمد الحريق وبانت أضراره الكبيرة بادرت إلى استحداث مكتب لتسوية التعويضات داخل السوق وأظن أن رفعت الفارسي كُلّف بإدارته وباشرنا بتسوية التعويضات موقعياً وعاجلاً مما كان له أثر طيب في نفوس أبناء السوق وكذلك المسؤولين.  من جهة أخرى وجهنا الجهاز الانتاجي في الشركة لحصد نتائج عملنا بإجراء التأمين على المحلات غير المؤمن عليها فكانت حملة انتاجية فريدة وناجحة.  هذا الأسلوب لم يكن بالإمكان الاستمرار عليه خاصة بعد ان تخصصت الوطنية، ذات الإرث الروتيني الحكومي، في أعمال التأمين العام.  لا أدري إذا كنتَ عاصرت الزوبعة التي أثارها ضدي بعض البعثيين وأدت الى احتجازي والزملاء موريس منصور وبصري محمد صالح ورفعت الفارسي[7] في الأمن العامة لمدة أسبوع بأمر محكمة الثورة التي وقفنا أمامها متهمين، قبل ان تقرر رئاسة الجمهورية غلق القضية بنصيحة بعض العقلاء من القيادات الاقتصادية التي كان يستشيرها رئيس الجمهورية في اجتماع أسبوعي معها.

في التحقيق الذي اجرته معي لجنة خاصة برئاسة وحيد إبراهيم، الذي أصبح فيما بعد وكيلاً لوزارة المالية لفترة ما، أنهيت افادتي الطويلة على سؤالها الأول بعبارة “إذا كنتم تريدون أن تُدار شركة التأمين كدائرة ضريبة الدخل فأنا لا أصلح لإدارتها وابحثوا عن غيري لها.” (التأكيد مني، م. ك.)

لقد أنجزت الكثير في هذا الاتجاه، مع ذلك ينبغي أن لا يغيب على البال إن إدارة مؤسسة حكومية لا بد أن تخضع الى ضوابط ملزمة وهي تخضع لرقابة أعلى سلطة رقابية في البلد هي ديوان الرقابة المالية ولا يمكن بأي حال من الأحوال مجاراة مرونة وحرية مؤسسة القطاع الخاص التي تخضع في أحسن الأحوال لمراقبة مراقب حسابات أهلي.  اعتقد انني بذلت ما أملك من ثقة لأدير الشركة بمرونة متميزة.[8]

ولي أن أضيف إلى ذلك ما كتبه الزميل العزيز محمد الكبيسي، الخبير في تسويق منتجات التأمين على الحياة، اقتبس فقرات قصيرة منه.  في ورقته بيَّن الفرق بين بيع وثائق التأمين والتسويق الذي أشار إليه بأنه ذلك “المزيج التسويقي المكون من عمليات:

1)    مسح السوق وتحديد الطلب.

2)    تهيئة وتأهيل رجال البيع (Sale Force).

3)    وضع الخطة الإعلامية السنوية ومتابعة تنفيذها.

4)    وضع الخطة الإنتاجية (القريبة والبعيدة) ومتابعة تنفيذها.

5)    تطوير المُنتج (Product) بمواكبة رغبات السوق.

6)    وأية جوانب أخرى حسب طبيعة السوق ومتطلباته.”

وتأكيده على أن زبائن الشركة في الفروع الاخرى زبائن مرتقبين في تأمينات الحياة، والعكس صحيح.  ويستدلُّ على ما جاء في عرضه الشيّق لتخطيط الإنتاج وإعداد المنتجين ومسائل أخرى بأنها ليست تنظيرًا إذ

يكفي إننا [في الشركة العراقية للتأمين على الحياة] كنا نحقق في زمن الحرب العراقية الإيرانية (عندما كان الأستاذ عبد الخالق رؤوف مديرها العام) نسبة نمو وصلت إلى 17% سنويا.  وكانت لدينا خمسة وأربعين ألف وثيقة حياة مختلط سارية المفعول مع عشرات المشاريع الجماعية وآلاف وثائق الحوادث الشخصية الملحقة بوثائق الحياة.  وكان لدينا 24 فرع جغرافي، واحد في كل محافظة وسبعة فروع في العاصمة بغداد.  وكان عدد المنتجين (المندوبين) المتعاقدين يصل إلى (180) عنصرا.[9]

من المؤسف أن تاريخ التأمين العراقي لم يبحث، وما هو منشور عنه يتوزع على كتابات متناثرة ولم تكتب أصلًا لتوثيق وتحليل هذا التاريخ.[10]  نبحث في التاريخ ليس لإعادته بل استنباط الدروس منه، وتعريف الجيل الحالي من العاملات والعاملين في النشاط التأميني به.  وقد قرأت في مكان ما علق بذاكرتي أنه لا مفر من استخدام المقارنات كوسيلة للمساعدة في التوضيح.

21 تموز 2021


[1] للتعريف بهذا المؤتمر راجع: مصباح كمال، “مركز التدريب المالي والمحاسبي ومؤتمر إصلاح قطاع التأمين في العراق،” موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2021/05/Misbah-Kamal-Conference-Financial-Acounting-Training-Centre-IEN.pdf

[2] سليم الوردي، “معايشتي لتجربة التخطيط في شركة التأمين الوطنية،” فصل في كتاب كتابات اقتصادية في التأمين، إعداد وتحرير مصباح كمال (مكتبة التأمين العراقي، 2017)

كتب د. سليم الوردي هذه الدراسة لتكون فصلاً في مشروعي لكتاب يكتب على شرف الأستاذ عبد الباقي رضا festschrift.  إلا أن هذا المشروع لم يتحقق حتى الآن لأن من توسمت فيهم المساهمة فيه خذلوني باستثناء المرحوم الوردي والسيدة إيمان عبد الله شياع.

وقد قمت بضم هذه المقالة لكتاب في استذكار أ. د. سليم الوردي، 1942-2016، إعداد وتحرير مصباح كمال (مكتبة التأمين العراقي، 2016)، ص 44-55.

[3] مصباح كمال ومشاركة منذر الأسود وفؤاد شمقار، “وكالات التأمين في العراق: محاولة أولية لاستثارة البحث،” مجلة التأمين العراقي: http://misbahkamal.blogspot.co.uk/2010/01/1.html

[4] مصباح كمال، “قراءة أولية لمشروع حصر تأمينات الدولة بشركة التأمين الوطنية،” موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/2018/02/21/%d9%85%d8%b5%d8%a8%d8%a7%d8%ad-%d9%83%d9%85%d8%a7%d9%84-%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d8%a3%d9%88%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%85%d8%b4%d8%b1%d9%88%d8%b9-%d8%ad%d8%b5%d8%b1-%d8%aa%d8%a3%d9%85%d9%8a/

[5] المادة 29 من قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006 لا تجيز الاستثمار في قطاع التأمين إذ تنص على ما يلي:

“تخضع جميع مجالات الاستثمار لأحكام هذا القانون باستثناء ما يأتي:

اولا: الاستثمار في مجالي استخراج وانتاج النفط والغاز.

ثانيا: الاستثمار في قطاعي المصارف وشركات التأمين.”

[6] جارلس دوفت، تسويق التأمين، ترجمة وإعداد د. سليم الوردي (بغداد: مكتبة البلورة، 2002).

سليم الوردي، علاء عبد الكريم البلداوي وجبار صبري محمد العنبكي، تسويق خدمات التأمين (بغداد: هيئة المعاهد الفنية، 1993).

أشكر نجل المرحوم سليم الوردي، زيد، على إرسال هذين الكتابين ضمن كتب أخرى من مكتبة والده بعد رحيله عن دنيانا سنة 2016.

[7] كان الثلاثة، مع آخرين، من أركان شركة التأمين الوطنية عندما كانت تحت إدارة الأستاذ عبدالباقي رضا (1966-1978) ويحتلون مواقع فنية في الشركة.

[8] عبدالباقي رضا، رسائل في السيرة الذاتية والتأمين، 2013، ص 66-67. يضم الكتاب مجموعة من الرسائل لي أعدتها كتاب للنشر لكن الأستاذ عبدالباقي آثَر وقتها على عدم النشر.

[9] مقتطفات من ورقة عن جوانب من تسويق تأمينات الحياة كتبها سنة 2005، غير منشورة، محفوظة لديَّ بانتظار قيام الفرصة لنشرها.

[10] كتب الزميل فؤاد عبدالله عزيز ثلاثة عقود في شركة التأمين الوطنية فصَّل فيه تجربته الممتدة من 1966 إلى 1996 عندما نقل إلى ديوان وزارة المالية، وبعدها الى إدارة مركز التدريب المالي والمحاسبي، وفي عام 1998 الى إدارة شركة إعادة التأمين العراقية.  اضطر إلى مغادرة العراق إلى البحرين بسبب الاقتتال الطائفي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.  حتى الآن لم ينشر كتابه.

Compulsory Motor Third Party Insurance in Iraq-invitation for discussion

ملاحظات سريعة ودعوة للمناقشة حول التأمين الإلزامي من حوادث السيارات

مصباح كمال

نشرت في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/2021/07/05/%d9%85%d8%b5%d8%a8%d8%a7%d8%ad-%d9%83%d9%85%d8%a7%d9%84-%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a7%d8%aa-%d8%b3%d8%b1%d9%8a%d8%b9%d8%a9-%d9%88%d8%af%d8%b9%d9%88%d8%a9-%d9%84%d9%84%d9%85%d9%86%d8%a7%d9%82/

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2021/07/Misbh-Kamal-Compulsory-Motor-Insurance-IEN.pdf

(1)

يعتبر التأمين الإلزامي من المسؤولية المدنية الناشئة من حوادث السيارات موردًا مهمًا لشركات التأمين، وأضيف له في العقود الثلاثة الماضية التأمين الصحي.  نجد ذلك في العديد من أسواق التأمين العربية بعد أن صار التأمين في هذين الفرعين إلزاميًا، كما هو الحال في معظم أسواق الخليج.

بالنسبة للعراق فإن هذا المورد قد توقف مع صدور قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات رقم 52 لسنة 1980 (أصبح نافذًا اعتبارًا من 1 كانون الثاني 1981) إذ صار التأمين تلقائيًا دون الحاجة لتقديم طلب للتأمين أو إصدار وثيقة للتأمين.  لقد كان هذا القانون تشريعًا متقدمًا في فلسفته إذ اعتمد على مبدأ تحمل التبعة كأساس لالتزام شركة التأمين بدفع التعويض للطرف المتضرر بدلًا من اعتماد المسؤولية القائمة على أساس الخطأ المفترض القابل لإثبات العكس.  وثبتّ القانون أطروحة قيام علاقة قانونية بين شركة التأمين والمؤمن له بدلًا من العلاقة العقدية إضافة إلى جوانب أخرى.

ويغطي هذا القانون المسؤولية الناشئة من حوادث السيارات تجاه الإصابات البدنية، بضمنها الوفاة، التي تلحق بالشخص الثالث.  أي أن نطاق القانون لا يشمل الأضرار المادية التي تلحق بممتلكات الشخص الثالث ومنها هيكل السيارة.

بفضل التعديلات التي أدخلت على هذا القانون فقد تم الاستغناء عن إصدار وثيقة تأمين، وفي سنة 1987 أنيطت جبابة “أقساط” التأمين الإلزامي للشركة العامة لتوزيع المنتجات النفطية، إحدى شركات وزارة النفط.  وتأخذ هذه الأقساط شكل إضافة زيادة بواقع 15 فلسا على كلفة شراء البنزين و 20 فلساً على زيت الغاز.  كانت الشركة تقوم “بتجميع مبالغ الزيادة على أسعار الوقود وتسديدها بعد استقطاع حصتها البالغة نصف بالمائة من هذه الزيادة بأقساط ربع سنوية بواقع 68% إلى شركة التأمين الوطنية وتبلغ 10,2 فلس من مبلغ الزيادة و 32% إلى الموازنة العامة (رسوم إجازة التسجيل) وتبلغ 4,8 فلس من مبلغ الزيادة.”[1]

أنيطت وظيفة تسوية المطالبات بالتعويض لشركة التأمين الوطنية، وكانت حتى أواخر ثمانينيات القرن المنصرم الشركة الوحيدة التي تمارس أعمال التأمينات العامة، ثم أجيزت الشركة العراقية للتأمين على الحياة، بعد تعديل اسمها إلى شركة التأمين العراقية، للاكتتاب بأعمال التأمينات العامة والحياة، كما أجيزت شركة التأمين الوطنية للاكتتاب بأعمال التأمين على الحياة.  وبفضل قانون الشركات رقم 21 لسنة 1997 تأسست شركات تأمين خاصة (تأسست أول شركة خاصة سنة 2000).  لكن جميع الشركات، العامة والخاصة، لم يكن يحق لها، بسبب القانون رقم 52 لسنة 1980، الاكتتاب بأعمال التأمين على المسؤولية المدنية من إصابات الأشخاص الناشئة من حوادث السيارات.  وبذلك لم يعد تأمين هذه المسؤولية موضوعًا للتأمين التجاري.

لقد جاء تحميل قسط التأمين على وقود السيارات للتغلب على أعباء الجباية على شركة التأمين وعلى مالكي السيارات وما قد يترتب عليها من إجراءات إدارية وقانونية.[2]  وترافق ذلك مع وقف إصدار وثيقة للتأمين إذ انتفت الحاجة إليها بعد أن صارت المسؤولية مؤمنة بقوة القانون.

(2)

لكن تطبيق القانون، وكما كتبنا في مكان آخر، كشف عن بعض العيوب.  ومنها ضآلة التعويضات المدفوعة للمضرورين، فالتعويضات كانت بشكل عام دون القيمة الحقيقية لآثار الإصابة الفعلية.  وبهذا الشأن كتب المحامي بهاء بهيج شكري أن هناك عيباً أساسياً في قانون 1980 مقارنة بالقانون القديم (قانون التأمين الإلزامي عن المسؤولية المدنية الناشئة من حوادث السيارات رقم 205 لسنة 1964) فقد كتب أن

“ضآلة مبالغ التعويضات التي درجت اللجنة المذكورة [لجنة تقدير التعويض المكونة من قاضٍ من الدرجة الثانية وعضوين يمثلان شركة التأمين الوطنية ودائرة الرعاية الاجتماعية] على تقديرها لم تكن لتغطي 10% من الضرر الفعلي الذي يصيب الشخص المضرور، مما أعاد “النظام العشائري” المعروف بنظام “الفصل والدية” للظهور والذي سبب إعادة تطبيقه إرهاقاً كبيراً لمالكي المركبات.  هذا النظام الذي اختفى نهائياً بتشريع قانون التأمين الإلزامي القديم وما رافقه من إلغاء نظام دعاوى العشائر.”[3]

وهناك جوانب أخرى في قانون 1980 رصدها الأستاذ شكري في دراسته: إشكالية تحديد الخطأ الجسيم، الحوادث المسببة بسيارات مجهولة، اختزال تحديد قسط التأمين بعلاوة على سعر البنزين المستهلك مما يخلق إشكالية تتمثل بعدم وجود تناسب حقيقي بين حدة الخطر وكلفة التعويض حسب نوع المركبات واستعمالاتها وغيرها من العناصر الاكتتابية التي تؤخذ اعتيادياً بنظر الاعتبار لتحديد سعر التأمين   الخ.

(3)

يظل هناك سؤال حول كفاية حصيلة أقساط التأمين المُحوّلة إلى شركة التأمين الوطنية لتمويل مطالبات التعويض قائمًا.  ففي سنة 2018 كان حجم أقساط التأمين الإلزامي 8,560,070,000 دينار في حين بلغت التعويضات المسددة 9,530,558,000 دينار، أي بعجز مقداره 970,488,000 دينار، كما في الجدول أدناه.

اقساط تأمين الزامي سيارات (2018-2019) [4]

ألف دينار

20192018اسم الشركة / السنة
9,157,3678,560,070شركة التامين الوطنية

تعويضات تامين الزامي سيارات (2018-2019)

ألف دينار:

20192018اسم الشركة / السنة
6,620,7419,530,558شركة التامين الوطنية

وشهدت سنة 2017 أيضًا عجزًا بمقدار 2,032,976,000 دينار كما في الجدول أدناه.  في حين شهدت السنوات من 2013-2015 فائضًا نظرًا لهبوط عدد المطالبات بالتعويض.

اقساط تأمين الزامي سيارات (2016-2017)

ألف دينار:

20172016اسم الشركة / السنة
7,565,5878,190,273شركة التامين الوطنية

تعويضات تامين الزامي سيارات (2016-2017)

ألف دينار:

20172016اسم الشركة / السنة
9,598,5637,955,606شركة التامين الوطنية

إن التقلب في نتائج الاكتتاب بأعمال التأمين ظاهرة معروفة، وتلجأ شركات التأمين إلى التحوط منها وتصحيحها من خلال إعادة النظر بالسياسة الاكتتابية وتعديل الأسعار اعتمادًا على التجربة السابقة.  هذا هو الوضع في أسواق التأمين المفتوحة، ولكن عندما تقوم الحكومة بوضع الأسعار في تأمين المسؤولية من حوادث السيارات فليس أمام شركات التأمين غير الضغط على الحكومة لتعديل الأسعار لتتناسب مع خبرة الخسارة وعدم تعريض بعض شركات التأمين للعسر المالي.

ليس لشركة التأمين الوطنية سلطة تقديرية لإعادة النظر بسعر تأمين المسؤولية المدنية للإصابات من حوادث السيارات إذ أن سلطتها مقيدة بقوة القانون.  ما تستطيع أن تقوم به هو الضغط على الحكومة لتعديل السعر أو زيادة النسبة المخصصة لها (68%) أو تقليص حصة الموازنة العامة (32%) لتوفير رصيد كافٍ لتسوية التعويضات.

(4)

ليس معروفًا إن كان تحميل أقساط التأمين على وقود السيارات قد خضع أصلًا لدراسات اكتوارية لخبرة الخسارة، وما يتعلق بها من تكاليف، في فرع التأمين من المسؤولية المدنية (الإصابات البدنية) الناشئة من حوادث السيارات، وإسقاط نتائج هذه الدراسات على كفاية أقساط التأمين، التي تجمعها الشركة العامة لتوزيع المنتجات النفطية، لتقوم شركة التأمين الوطنية باستخدامها لتمويل التعويضات.  لقد اعتمدت اللجان التي درست الموضوع في الماضي على معادلة بسيطة، قد يعتبرها البعض ساذجة، تعتمد على “تقسيم أقساط التأمين السنوية على مجموع الاستهلاك السنوي من الوقود.”[5]

في مرحلة متأخرة قام اثنان من ممارسي التأمين العريقين، فؤاد شمقار ومنذر عباس الأسود، بتفكيك معيار مبلغ مبيعات الوقود كأساس لاستيفاء القسط في دراستهما لمشروع قانون تعديل بعض احكام قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات رقم 52 لسنة 1980 المعروض على مجلس النواب لإقراره والذي تم قراءته الاولى بتاريخ 2-5-2015.  ومما جاء في المادة ـ 4 ـ اولاً في مشروع التعديل الآتي:

يستوفى قسط التأمين الالزامي على المركبات بنسبة (0.003) ثلاثة بالألف من مجموع مبالغ المبيعات الفعلية لشركة توزيع المنتجات النفطية من البنزين وزيت الغاز عدا المجهز الى وزارة الكهرباء وتودع المبالغ لدى الشركة لحين توزيعها.

ومما جاء في ورقتهما النقدية:

ان المبلغ الواجب استيفاءه كقسط للتامين لقاء التلقائية في التأمين يكون بنسبة الفية من قيمة مبيعات المنتجات النفطية من البنزين وزيت الغاز ولا نجد من الصواب اعتماد اية نسبة سواءً أكانت مئوية او الفية على مبلغ المبيعات واعتماد ذلك كأساس لاستيفاء القسط ذلك للأسباب التالية:

1- ان اعتماد مبلغ قيمة المبيعات تجعل من مبلغ القسط متأرجحا غير ثابت مع رفع سعر اللتر الواحد من مادة البنزين وزيت الغاز او القيام بخفض السعر في حين ان القسط الواجب استيفاءه يجب ان يكون ثابتا غير متأرجح.

2- ان عدم ثبات القسط وتأرجحه بين الصعود والنزول طبقا لبيع اللتر الواحد من البنزين وزيت الغاز يؤدي الى عدم تحقق ثبات الرصيد المتحقق لدى شركة التامين الوطنية في المحفظة الخاصة بالتامين الالزامي لدى الشركة وينعكس ذلك سلبا على نتائج هذه المحفظة.

3- لقد جاء النص بالإعفاء المطلق لصالح وزارة الكهرباء من استيفاء النسبة المحددة على الكميات من البنزين وزيت الغاز التي يتم تجهيز الوزارة بها. ان الاعفاء المطلق غير المقيد غير صحيح، ويجب قيد هذا الاعفاء فقط بالكميات التي تجهز بها الوزارة والتي تستخدم فقط في تشغيل محطات توليد الطاقة اذ لا يستبعد استخدام جزء من المنتجات في سيارات الوزارة وبالتالي الاستفادة من تلقائية التامين دون تسديد القسط المستحق عن التلقائية والتغطيات التي يوفرها القانون عند ذلك نكون قد أفشلنا السبب الموجب للإعفاء الذي هو التخفيف من على كاهل الوزارة لجزء من الكلف والنفقات التي تصرف على توفير الطاقة.

4- ان الطريقة الواجب اتباعها في استثناء القسط المستحق على مالك السيارة يجب ان يكون بفرض مبلغ زيادة على سعر اللتر الواحد من البنزين وزيت الغاز بدلا من اعتماد نسبة من حصيلة البيع اذ ان زيادة حدة الخطر وحصول الحوادث لا علاقة لها بمبلغ سعر البيع بقدر ما لها من علاقة بالكميات التي تستخدم من البنزين وزيت الغاز، عليه لا بد من فرض القسط على اللتر الواحد من البنزين بمبلغ 1250 دينار عن كل لتر من البنزين ومبلغ 1500 دينار عن كل لتر من زيت الغاز. ولم يكن هذا الامر امرا غائبا على مشروع القرار (رقم 955)، تأريخ القرار 23-2-1987 الصادر عن مجلس قيادة الثورة (المنحل) وذلك بتوزيع مبلغ قسط التامين والرسم السنوي عن تجديد اجازة تسجيل السيارة بطريقة توزيعها على مقدار ما تستهلكه السيارة من الوقود.[6]

لقد أشارا في الفقرة 4 من ورقتهما إلى مبدأ مهم في الاكتتاب وهو:

ان زيادة حدة الخطر وحصول الحوادث لا علاقة لها بمبلغ سعر البيع بقدر ما لها من علاقة بالكميات التي تستخدم من البنزين وزيت الغاز.

إلا أنهما لم يتوسعا في الشرح والتعليل، على سبيل المثل، قولهما إن حدة الخطر تتأثر بكميات الوقود المستخدمة، فشراء المزيد من الوقود يعني اشتداد استخدام السيارة وبالتالي زيادة احتمال تعرضها للحوادث.  إن معايير الاكتتاب بتأمين المسؤولية المدنية الناشئة من حوادث السيارات عديدة، وتشترك شركات التأمين بأخذ معايير معينة بعين الاعتبار ومنها: عمر السائق، مواصفات السيارة وقوة محركها، النطاق الجغرافي لاستعمال السيارة، أغراض الاستخدام: التنقل الشخصي أو لأغراض تجارية، وخبرة خسارة طالب التأمين― وكل ذلك مفقود في نظام فرض علاوة على سعر البنزين وزيت الغاز كمعادل لقسط التأمين.

إن الاعتماد على معيار واحد لتحديد قسط التأمين (كمية الوقود المستخدم) يساوي بين مالكي/سائقي السيارات كافة.  مثل هذا المقترب يلغي فرصة التقييم الاكتتابي لطلب التأمين وتطبيق أسعار وشروط مختلفة تعكس عدم التناظر في البيانات الاكتتابية الخاصة بالسيارة ومن يستخدمها.

بقوة القانون فإن تسعير خطر التأمين على المسؤولية المدنية ليس مهمة فنية اكتتابية لتقييم حدة الخطر المؤمن عليه وإنما أمراً خارجياً صادرًا من المُشرّع يفترض أن كل من يسوق سيارة متساوياً مع أقرانه.  هذه المساواة قسرية، متعسفة، بفضل تسعير أوامري لا ينهض به واقع الحال في المجال التأميني.

قد يكون تبرير/تعليل هذا الأمر الخارجي للتسعير قائمًا على مبدأ حماية المستهلك من سوء استخدام شركات التأمين لحقها في تطبيق ما تراه سعراً مناسباً ربما ينطوي على إجحاف بحق المؤمن له خاصة عندما يفتقر سوق التأمين إلى منافسة بين شركات التأمين فيما يخص الأسعار والشروط ومستوى الخدمات (في ظل المنافسة غير التامة أو الاحتكار).

ربما يقوم التبرير/التعليل على أن وظيفة مؤسسة التأمين هو تمويل الضرر الذي يصيب البعض من مساهمات مجموع المؤمن لهم― أي من أقساط التأمين التي تجمعها الشركة― وأن جباية أقساط مقطوعة ثابتة هي من باب الدعم المتبادل cross-subsidization بين أصحاب السيارات لخدمة هدف أعلى: تعويض ضحايا حوادث السيارات.  ولهذا يتعين على كل مالكي السيارات، بغض النظر عن مواردهم المالية ومدى مسؤوليتهم عن الضرر، المشاركة بالتساوي في تحمل عبء تعويض ضحايا حوادث السيارات.

في غياب التأمين فإن مسبب الضرر يكون مسؤولاً عن تعويض المضرور، ومن المرجح أن يتحمل كل من مسبب الضرر والطرف المتضرر العبء المالي للضرر الحاصل خاصة عندما يكون الوضع المالي لمُسبب الضرر ضعيفًا وعندها فإن تقليص حجم تعويض الضرر يصبح واردًا ليتناسب مع قدرته على الدفع.  ويأتي التأمين الإلزامي لتحقيق العدالة في تعويض المضرورين من حوادث السيارات.

بما أن السيارة مصدر لمخاطر متزايدة فإن تشريعات العديد من البلدان تقضي بتطبيق قواعد المسؤولية الصارمة strict liability حيث تنشأ المسؤولية بغض النظر عن خطأ مرتكب الضرر؛ وهكذا فإن مالك السيارة يصبح مسؤولًا عن الأضرار دون إخضاع المدعى (الطرف المتضرر) لاختبار الإهمال test of negligence.  وقد جاء قانون 1980 ليتماشى مع هذه القواعد ربما لقناعة أن السيارة تمثل خطرًا كامنًا ومصدرًا للحوادث.[7]

(5)

لقد مهّد صدور قانون الشركات رقم 21 لسنة 1997 لتأسيس الشركات الخاصة، وبفضله تأسست أول شركة تأمين خاصة سنة 2000 ثم تأسست شركات تأمين أخرى (أزيد من ثلاثين شركة خاصة في الوقت الحاضر، معظمها هزيلة فنيًا وماليًا).  لكن هذه الشركات وبسبب قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات لسنة 1980 لا يحق لها الاكتتاب بأعمال تأمين المسؤولية المدنية (الإصابات البدنية بما فيها الوفاة) الناشئة من حوادث السيارات.  لكنها تستطيع الاكتتاب بتأمين المسؤولية المدنية (الأضرار المادية لأموال الشخص الثالث) وكذلك تأمين السيارات التكميلي (الشامل).

لو كانت “الأقساط” التي تضاف إلى سعر الوقود تجبى من قبل شركات التأمين، كما كان عليه الوضع قبل صدور القانون 52 لسنة 1980 الذي ألغى قانون التأمين الإلزامي من المسؤولية المدنية الناشئة من حوادث السيارات رقم 205 لسنة 1964، لكانت شركات التأمين قد راكمت هذه الأقساط وربما ساهمت بالتنمية الاقتصادية بافتراض عدم تعرض محفظة التأمين على السيارات للخسارة.  ولكان هذا الوضع قد خلق تنافسًا بين شركات التأمين على الأسعار والخدمات التأمينية.  بالطبع، فإن اشتراك العديد من شركات التأمين بمزاولة تأمين المسؤولية المدنية من حوادث السيارات يخلق معه مشاكله الخاصة التي تحتاج إلى ضوابط صارمة من قبل المشرع ومن هيئة الرقابة للحيلولة دون الإجحاف بحقوق المؤمن لهم إضافة إلى إجراءات أخرى.

(6)

حسب علمي لم يخضع قانون سنة 1980 لمراجعة اقتصادية وقانونية نقدية من قبل شركات التأمين.[8]  ربما بالإمكان الجمع بين بعض أحكام قانون 1980 مع قانون جديد لتأمين المسؤولية المدنية الناشئة من حوادث السيارات لإشراك جميع شركات التأمين في الاكتتاب بتأمين الإصابات من حوادث السيارات.  ربما آن الأوان لمناقشة الآثار الاقتصادية لقانون سنة 1980 على شركة التأمين الوطنية المفوضة بتسوية المطالبات بالتعويض وعلى شركات التأمين وتقييم السجل التاريخي لهذا القانون.

أرجو ألّا يفهم من هذا أنني ضد قانون 1980 بالمطلق، لكنني أتمنى من المهتمين بإصلاح قطاع التأمين العراقي الاستفادة من تجربة أسواق التأمين الأخرى والمفاهيم والممارسات التي تنتظم إدارة مطالبات التعويض فيها، والتركيز على النتائج الأولية ومآلات القانون التي كانت متوقعة وقت صاغتها وتلك التي كانت خارج التوقع.  لقد صدر قانون 52 لسنة 1980 عندما كانت التأمينات العامة، ومنها التأمين على السيارات والمسؤوليات المدنية الناشئة من حوادثها، محصورة بشركة واحدة هي شركة التأمين الوطنية إلى جانب شركة التأمين العراقية على الحياة التي اختصت بتأمينات الحياة.  مع تغيير بنية السوق بفضل قانون الشركات رقم 21 لسنة 1997 وتأسيس شركات تأمين خاصة حصل ما يشبه الاختلال في التوازن بين شركات التأمين من حيث حرمان شركات التأمين الأخرى من لعب أي دور في تأمين المسؤوليات.

ربما ليس المطلوب الآن إيجاد حل آني سريع لهذا الخلل لأننا لا نملك معرفة يقينية بمجرى التطور، بل العمل على بدء النقاش المفتوح في الموضوع ورفع مستواه، وخلق قناعة بضرورة مراجعة قانون 1980 وتشخيص المشاكل المهمة.

تموز 2021

ملحق

“خطر السيارة وخطر الذهنية خلف مقودها”

مستل من دراسة قديمة تناولنا فيها ما تمثله السيارة من خطر كامن تحت عنوان ثانوي “خطر السيارة وخطر الذهنية خلف مقودها،” تضمنت الدراسة أيضًا استطرادات حول حوادث السيارات.[9]  وهو يضم ملاحظات يمكن أن تنطبق على السيارات.  اقتبس من هذه الدراسة الفقرات التالية:

الإعلانات البراقة والجذابة في زماننا ترسم لنا صورة جميلة عن السيارة ننسى معها أن السيارة ماكنة تنطوي على مخاطر عديدة، وتحمل مع جمالها وفائدتها الوظيفية قدْراً كبيراً من التهديدات لسائقها وركابها والناس عموماً والبيئة وكذلك الأموال الخاصة والعامة.  ولعله من المناسب أن نتذكر بجانب الأسماء الناعمة والرقيقة التي تطلقها الشركات المصنعة على سياراتها الأسماء الموازية لها والتي توحي بالقوة والمنعة، وحتى العدوانية، لصاحبها ومستعملها.  كانت بعض السيارات، على سبيل المثال، تحمل أسماء البرّكودة barracuda أو اليَغْوَر jaguar أو المستنغ mustang وغيرها.  ولنا أن نتخيل ما تحمله هذه الأسماء، التي تبدو في ظاهرها بريئة، من مظاهر للسلوك قد لا نشارك فيها.

ربما يقال بأن هذه الأسماء لا تعني الكثير بالنسبة للإنسان العربي السائق للسيارة.  والأمر هو كذلك، ولكن هذا لا يعني إلغاء صفة الخطر والتهديد الذي ينتظم استعمال السيارة من خلال ماكنتها.  لنتخيل سائق السيارة خلف المقود.  تـرى أية رؤى تطرأ على مخيلته: القوة، الرغبة في تجاوز الزمن، الخروج من أسر الآخرين … الخ.  لعل رؤى متضاربة متداخلة تمتزج مع بعضها، صافية أحياناً ومُلَوثَةً أحياناً أخرى.  ولكنني أود التأكيد على صفات القوة والعدوانية، وكلاهما ينبعان من تركيبة السيارة ذاتها.  فبمجرد الضغط البسيط على دوّاسة البنزين يستطيع السائق تعجيل السرعة خلال بضع ثواني.  ترى أية قوة أخرى تعادل إنتاج مثل هذه القوة التي يمكن تحقيقها بحركة بسيطة من القدم!  هذه القوة حقيقية في ذاتها ولكن السيطرة عليها وهمية في ظل الاستعمال اليومي للسيارة.  ولذلك لا نشهد السرعة الهائلة للسيارات في التطبيق[10]، على العموم، إلا في السباقات وفي أماكن مخصصة لها.

إذا سلمنا بمقولة أن السيارة جهاز ينطوي استعماله على خطر وتهديد يقومان على القوة الكامنة في تصميم السيارة ذاتها، علينا أن نرسم ملامح الآثار السلبية لهذه القوة.  أول ملمح هو أن السيطرة على هذا الجهاز قد تكون خدّاعة وخاصة بالنسبة للسائق العادي الذي لا يمتلك غير بعض المهارات الأساسية لقيادة السيارة.  ثاني ملمح يرتبط بالأول هو أن استعمال هذا الجهاز الخطر لا يتم في فراغ أو خلاء وإنما ضمن محددات تتمثل أساساً بالناس، وهم على فئتين: المارة وسائقي السيارات الأخرى الذين يستعملون نفس الطرقات ويتزاحمون مع بعضهم لأتفه الأسباب.  وتتمثل كذلك بأنظمة المرور ― من تخطيط الشوارع، مروراً بسلامة هذه الشوارع وما عليها، إلى الأنظمة الآلية الضوئية لضبط حركة المرور.  والمحددات الأخيرة هذه ما وضعت إلا للحد من الآثار الضارة للسيارة وخاصة ما يسببه السائقون من أذى ووفاة لأنفسهم ولركابهم وللمارة، وكذلك الإضرار بالممتلكات.

مما يفاقم من خطورة السيارة هو كيفية تعاملنا معها كإحدى وسائل المدنية الحديثة.  أرجو ألّا أكون متجنياً إن قلت بأن تعاملنا مع السيارة لا يرقى إلى درجة الخطورة التي تنطوي عليها.  لربما أبدو متعسفاً إن قلت بأن قيادتنا للسيارة فيها بعض من آثار البداوة في تكويننا الثقافي.[11]  ولعل خير ما يشهد على الذهنية البدوية، كما تترجم نفسها في سياقة السيارة، هي عدد الحوادث في الطرقات الخارجية.  وتعليلي لذلك هو توهم الانبساط والخلاء الصحراوي في مثل هذه الطرقات، وفراغها من الآخرين.  فالسيارة هنا بمثابة الجمل أو الحصان الذي يمكن ركوبه والمطاردة به دون أية عوائق غير الكثبان التي يمكن تجنبها بيسر.  هنا لا نشهد أرصفة ولا سابلة ولا مباني على جانبي الطريق.  هذه الذهنية المترسبة في أعماق الوعي الباطن تطفو على السطح في أحيان كثيرة وعند العديد من الناس في تجاوز أنظمة السير، ومحاولة تجاهل وجود الآخرين، كسابلة[12] وكسائقين، في الطريق للتغلب على قيود السير بالاعتماد على قوة السيارة بنية الانطلاق من سجن الطريق ـ والتي تقود في غالب الأحيان إلى وقوع الحوادث المأساوية لتنتهي عند أبواب شركة التأمين كمطالبات للتعويض.  ولعل بعضاً من عنصر التغالب البدوي ينعكس في طريقة استخدام منبه السيارة: فهو يستعمل كدعوة للآخرين لإخلاء السبيل أمام السائق كي ينطلق بسيارته كما ينطلق الفارس في الصحراء دون أي عائق.

وضع الثقافة المرورية في المملكة العربية السعودية وآثارها تلقي بعض الضوء على النفور المترسخ في ذهن السائق عندما يجلس خلف المقود.  تحت عنوان مثير “الشوارع ساحات مفتوحة للسائقين المبتدئين والسيارات تحصد الأبرياء” نشرت جريدة الحياة مقالاً حول ضحايا حوادث السير في المملكة العربية السعودية.  يقول الكاتب جاسر الجاسر:

“التركيبة الاجتماعية العجيبة والمتناقضة في السعودية هي أحد أبرز الأسباب الظاهرية للحوادث لأنها تفتقد الثبات والاستقرار اللازمين لتبلور أي صيغة ثقافية إذ أن توالي دخول الجاليات وخروجها في فترات زمنية قصيرة وبأعداد كثيفة ساهما في تعميق الشتات الثقافي، وخلخلة بناء المنطلقات الأولية.”

وبعد استعراضه لمسببات أخرى للحوادث، يؤكد أن الأنظمة لن تنفع “ولن تثمر الاحتياطات لأنها تفترض شكلاً يغاير الواقع، وتتبنى حلولاً مباشرة لمشكلة ذات جذر ثقافي عميق الأثر …” 

أريد من هذا الاستعراض السريع التأكيد على أن الحد والتخفيف من حوادث السيارات وبالتالي حجم المطالبات بالتعويض لا يقع فقط ضمن الوضع القانوني لتسعير التأمين الإلزامي على السيارات، وأنظمة المرور، وترخيص استعمال السيارة والمهارات الفنية المتعلقة بقيادة السيارة، بل تتجاوز كل ذلك إلى إعادة تكييف الذهنية المسيطرة علينا عندما نجلس خلف مقود السيارة.  وبعبارة أخرى، يجب العمل من أجل إيجاد لغة مرورية مشتركة محورها الخطر الكامن في السيارة.

وإذا كان هناك ما يستوجب الإضافة هنا، فيما يخص الثقافة المرورية، فهو الاستهانة بحياة الإنسان.  وهنا علينا أن نسأل: ماذا يعني أن يموت إنسان ليبي من جراء الحوادث السخيفة للسيارات؟  هل فكرنا بالكلفة الاقتصادية للموت المجاني هذا؟  نحن نفكر بالتعويض المادي لورثة المضرورين ـ وهي الوظيفة التي تقوم بها شركة التأمين أو أي صندوق آخر معد لهذا الغرض بفعالية وفي معظم الأحيان بعدالة.  كم هو عمر تربية الإنسان؟  كم سنة نحتاج لكي نُخرّج طبيباً أو مهندساً أو غيرهم من أصحاب المؤهلات؟  هنا أحد مكامن الهدر الذي يجب أن لا يكون التأمين الوسيلة الوحيدة للتحوط منه.  أي أن المطلوب منا كجماعة التفكير بسبل التخلص من عقلية الاستهانة بالغير والكلفة الاقتصادية غير المنظورة والتي تختفي وراء الأرقام الخاصة بعدد الحوادث والتعويضات المسددة.

إن الاقتصار على الأرقام المباشرة تحجب التكاليف غير المنظورة، خارج التكاليف النفسية والعائلية، كضياع الوقت، والتأثير على الإنتاج، وتراكم المعرفة والمهارات في المجتمع عندما يموت بعض مالكيها في حوادث السيارات.  ما لم نضع ذلك نصب أعيننا نكون كمن يبحث في تخفيف الآثار بدل التبصر دراسة وبحثاً في جذور المشكلة وإيجاد الحل المناسب لها.


[1] فؤاد عبدالله عزيز، التأمين في العراق: الواقع وآفاق المستقبل (بغداد: موسوعة القوانين العراقية، [2005])، ص 89.

[2] عزيز، مصدر سابق، ص 88.

[3] المحامي بهاء بهيج شكري، التأمين من المسؤولية في النظرية والتطبيق (عمّان: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2010)، ص 585-586.

[4] جمعية التأمين العراقية، إحصائية نشاط شركات التأمين العاملة بالعراق لعام (2018 – 2019)، جدول خاص بشركة التأمين الوطنية.

[5] فؤاد عبدالله عزيز، التأمين في العراق: الواقع وآفاق المستقبل، ص 88.

[6] منذر الأسود ومحمد فؤاد شمقار، “ملاحظات حول مشروع قانون تعديل قانون التامين الالزامي من حوادث السيارات رقم 52 لسنة 1980،” مرصد التأمين العراقي:

وقد كانت لي وقتها تعليقات على آراء بعض أعضاء مجلس النواب في مناقشتهم لتعديل قانون 52 لسنة 1980.  راجع: مصباح كمال، “وقفة مع مداخلات مجلس النواب العراقي في القراءة الثانية لمشروع قانون تعديل قانون التأمين الالزامي من حوادث السيارات رقم (52) لسنة 1980،” مجلة التأمين العراقي:

https://misbahkamal.blogspot.com/2015/07/iraqi-parliament-debates-amendment-of.html

[7] يضم الملحق ملاحظات حول خطورة السيارة وسائقها والحوادث الناشئة عنها اقتبستها من دراسة سابقة.

[8] بعض الدراسات المتوفرة عندي تضم الآتي:

هاني النقشلي، “أضواء على القانون الجديد للتأمين الإلزامي من حوادث السيارات رقم 52 لسنة 1980،” رسالة التأمين، العدد 42، تشرين الثاني 1980، ص 4-19.

بهاء بهيج شكري، التأمين من المسؤولية في النظرية والتطبيق (عمان: دار الثقافة، 2010)، فصل “مبحث خاص: ملاحظات حول قانون التأمين الإلزامي العراقي رقم (52) لسنة 1980،” ص 582-599.

تيسير التريكي ومصباح كمال، حوار مع رائد في إعادة التأمين: الدكتور مصطفى رجب (بيروت منتدى المعارف، 2020)، ص 79-86، وكذلك ملحق “التأمين الإلزامي من المسؤولية المدنية الناشئة عن حوادث السيارات (مسؤولية دون خطأ)،” ص 103-131.

[9] مصباح كمال، “مقتربات لدراسة آثار السيارة وتأمين المسؤولية المدنية،” مجلة التأمين العربي، العدد 63، 1999، ص 30-39.

كتبت هذه الدراسة للمشاركة في ندوة لشركة ليبيا للتأمين “ندوة التأمين الإجباري للسيارات: مشاكل الحاضر وآفاق المستقبل – بنغازي 23-24/10/1999.”

[10] يؤيد ذلك قوانين السير التي تحدد سرعة استعمال السيارة داخل المدن وفي الطرقات الخارجية، دون أن يعني ذلك أن الجميع يلتزم بالقانون لأن السيارة في تصميمها توفر الفرصة الآنية للتسابق مع الغير واختصار الزمن، إضافة لمنح السائق وَهْمْ القوة المرضية.

[11] استوحيت هذه الفكرة، أو بالأحرى الافتراض، من أطروحة عالم الاجتماع العراقي د. علي الوردي حول صراع البداوة والحضارة في كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي (ب.ن، طبعة 1996).  ليس هذا بالمجال الذي ينهض باستعراض هذه الأطروحة ويكفي القول بأن البداوة هنا تقوم على النفور من الدولة، ومحاولة عدم الخضوع لها ومؤسساتها إذ أن العصبية القبلية هي البديل.  والمركب الأساسي في الثقافة البدوية هو ما يسميه الوردي “التغالب” ـ فالبدوي يريد أن يغلب بقوة قبيلته، ويغزو بقوته الشخصية ويتفاخر بمروءته، أي بتفضله على الغير. ص 38.

[12] لاحظت اعتماداً على تجربتي الشخصية في المشي في مدينة طرابلس أن سائقي السيارات لا يتوقفون وهم يشاهدون أحد السابلة يحاول عبور الشارع في المنطقة المخصصة للعبور (zebra crossing).

Role of Iraq’s Insurance Sector in Establishing Arab Insurance Companies

دور قطاع التأمين العراقي بتأسيس شركات تأمين عربية

 

 

عبد الباقي رضا

 

نشرت هذه المقالة أصلاً في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2019/06/مساهمة-قطاع-التأمين-العراقي-بتأسيس-شركات-تأمين-عربية-عبد-الباقي-رضا.pdf

 

 

تقديم

 

كتب الأستاذ عبد الباقي رضا رسالته عقب تسلّمه لمقالة قديمة لي حول مساهمة قطاع التأمين العراقي في تأسيس شركات تأمين عربية.  وقد اتفقت معه على إعدادها للنشر لأنها تشكل، في رأيي، شهادة شخصية على مرحلة ونشاط متميز لقطاع التأمين العراقي.

 

تسدُّ رسالة الأستاذ عبد الباقي رضا، ومن موقف شخصي، فراغاً في تاريخ التأمين العراقي تستحق كل التقدير.  نلاحظ في رسالته أن الاستثمار العراقي في تأسيس شركات التأمين خارج العراق كان يقوم به القطاع الخاص (كما في حالة تأسيس شركة ليبيا للتأمين سنة 1964 وشركة النيل الأزرق للتأمين سنة 1965) والقطاع العام (كما في حالة تأسيس شركة البحرين للتأمين سنة 1970 وشركة سبأ للتأمين سنة 1990).  إلا أن الدوافع وراء هذه الاستثمارات ليست واضحة: هل كانت اقتصادية صرْفه أم كان فيها بُعدٌ سياسي.  ومن الغريب أن التعريفات المختصرة بهذه الشركات المنشورة في الإنترنيت لا تذكر المساهمة العراقية في تأسيسها!

 

نلاحظ في هذه الرسالة أيضاً الدور الناشط للأستاذ عبد الباقي في هذه الاستثمارات الخاصة والعامة.  وهو يكتب عنها بحيادية تامة ودون إبداء موقف فكري منها.  إن مكانة الأستاذ عبد الباقي، وغيره من رجالات التأمين العراقي، لم تستأثر حتى الآن اهتمامات الباحثين الأكاديميين.  ربما سيأتي اليوم عندما يقوم الباحثون في الكشف عن أدوارهم.

 

يرد في الرسالة ذكر للطفي العبيدي، وهي شخصية ملتبسة، ومن يقرأ ما هو منشور عنه في الإنترنت يكتشف ارتباطاته السياسية المتعددة، العراقية والعربية والأجنبية، وهو ما لا يعنينا في هذا التقديم القصير لكننا نتمنى أن نقرأ تقييماً أكاديمياً لدوره في مجال التأمين.  فنحن لا نعرف، مثلاً، مصادر ثروة العبيدي التي استفاد منها في تأسيس “مشاريع متعددة” ومنها شركات التأمين، كما يقول بهاء بهيج شكري.  هل كانت ميراثاً من عائلته، أم جاءت نتيجة لصفقات تجارية ناجحة، أم من مصادر أخرى؟   إن المعلومات بهذا الشأن يمكن أن تلقي بعض الضوء على تكوين وسلوك أصحاب رأس المال في العراق.  يذكر المحامي بهاء بهيج شكري في تعريفه بلطفي العبيدي بأنه

 

محامي عراقي، ترك العمل بالمحاماة وانصرف للأعمال التجارية.  وقد أسس مشاريع متعددة منها شركة التأمين العراقية.  وكان جميع رجال التأمين والمصارف والاقتصاديين على اختلاف مناصبهم ومراكزهم، يعتبرونه من أنجح رجال الأعمال في العراق، ويتوددون له بغية إشراكهم معه في مشاريعه، أو الاستفادة من نفوذه الذي أخذ يتصاعد لدى السلطات الحاكمة على اختلاف اتجاهاتها.[1]

 

إن تاريخ التأمين العراقي لم يكتب بعد، ويتمنى الواحد منا أن يقرأ المزيد من الشهادات الشخصية حول هذا التاريخ، وأن يجري نشر الوثائق الخاصة به والمحفوظة في السجلات المختلفة الرسمية وغير الرسمية.

 

مصباح كمال

أيار/مايو 2019

 

ملاحظة

جميع الهوامش من وضع مصباح كمال.

 

نص رسالة الأستاذ عبد الباقي رضا

 

زودني الأخ الأستاذ عبد الخالق رؤوف[2] بلمحتك الأولية عن مساهمة قطاع التأمين العراقي بتأسيس شركات تأمين عربية[3] فاستغربت أنها لم تأتني منك مباشرة.

 

لمحتك الأولية أثارت لدي ذكريات نادرة وعزيزة لم تُتح مناسبة لتثبيتها على الورق وإن كان معظمها موثقاً في سجلات شركة التأمين الوطنية.  ورغم مرور أكثر من خمسين سنة على أغلبها فلا زالت مستقرة في زوايا ذاكرتي التي بدأ الكبر والتعب ينال منها!  مع ذلك وجدت لمحتك الأولية سبيلاً لتنشيط وحفز بعض المتراكمات ذات العلاقة بها فوجدت من المفيد أن أرويها لك بإيجاز.

 

في سنة 1963 كنت المدير المالي لشركة التأمين العراقية الخاصة التي التحقت بها مديراً للحسابات في 1/10/1959 وهي في مراحل تأسيسها فكنت أول من تعيّن فيها.  كان من ضمن مهامي كمدير مالي متابعة استثماراتها في الأسهم والإشراف على (شركة الاستثمارات العراقية المحدودة) التابعة لها.

 

بهذه الصفة اصطحبني رئيس مجلس إدارة التأمين العراقية المرحوم المحامي لطفي العبيدي معه إلى ليبيا عن طريق القاهرة بهدف السعي لتأسيس شركة تأمين فيها.  في القاهرة أقمنا عدة أيام في فندق هلتون النيل.  هنا ورد إلى ذهني أن أجرة الغرفة على النيل كانت 6 جنيهات والمطلة على ساحة التحرير خمس جنيهات مصرية!  أجرى العبيدي اتصالات مع بعض رجال التأمين الذين كانت له معرفة بهم.

 

من القاهرة توجهنا إلى ليبيا التي كانت في عهدها الملكي السنوسي.  أجرى العبيدي وأنا معه اتصالات مع عدد من رجال الأعمال البارزين وعرض عليهم فكرة أول شركة تأمين وطنية تؤسس في المملكة فقوبل بالترحاب.  كان المرحوم الدكتور نور الدين العنيزي، محافظ البنك المركزي السابق، يعمل مستشاراً أو مديراً لأعمال أحد أبرز رجال الأعمال.  تمَّ التوصل إلى اتفاق مبدئي على تأسيس أول شركة تأمين سُميت فيما بعد (شركة ليبيا للتأمين).

 

في مطلع سنة 1964 أوفدت إلى طرابلس لإكمال إجراءات تأسيس الشركة، واستغرقت إقامتي فيها أياماً أنجزت فيها توقيع عقد التأسيس في مكتب المحامي المرحوم عامر الدغيس الذي بلغني أنه أعدم في عهد القذافي.

 

أعلمني المحامي أنه كان صديقاً للمرحوم الدكتور سعدون حمادي يوم كان يعمل في البنك المركزي في ليبيا.  كانت إجراءات تسجيل عقود الشركات تتم في مكاتب محامين مجازين.

 

لم أذهب بعد ذلك إلى ليبيا، وتولى الليبيون إكمال إجراءات التأسيس، وانتخب الدكتور العنيزي رئيساً لمجلس إدارتها، وبترشيح من العبيدي عُيّن المرحوم أحمد عنان، أحد أعمدة التأمين في مصر، مديراً عاماً للشركة، وأصبح العبيدي عضواً في مجلس إدارتها.

 

بعد وقت قصير من تأسس الشركة وبالتحديد في 14/7/1964 أُممت شركات التأمين العراقية، وما أن بلغ هذا النبأ الدكتور العنيزي حتى قرر عدم التعامل مع شركة حكومية وأصرَّ على تخلّي شركة التأمين العراقية عن مساهمتها في رأسمال شركة ليبيا للتأمين.  ولم يتردد رئيس المؤسسة العامة للتأمين (المرحوم طالب جميل) يومذاك في تلبية رغبة الليبيين.  فتخلّت (العراقية) عن مساهمتها في شركة ليبيا للتأمين.

 

كان وفاءً جميلاً من القائمين على شؤون شركة ليبيا للتأمين دعوتي للمشاركة في احتفالهم بمرور 25 سنة على تأسيسها سنة 1989،[4] فلبيت الدعوة شاكراً لهم طيبتهم.  وقد كُرّمتُ خلال الاحتفال وصورت مع بعض العاملين فيها مما كان له أثر طيب في نفسي أتذكره باعتزاز وتقدير.

 

 

بعد إجراءات التأميم في العراق غادره المرحوم العبيدي ليمارس نشاطه خارج العراق، وكان منه أن عمل على تأسيس (شركة النيل الأزرق للتأمين)[5] في الخرطوم، واختار مديراً عاماً لها الزميل فاروق الهويدي، الذي كان آخر مدير عام لشركة الـتأمين العراقية قبل تأميمها.  كما التحق بالشركة أيضاً الزميل السيد طارق سعيد تاركاً العمل في (العراقية) المؤممة.  لا بد أن تكون لديه معلومات أكثر عن نشاط هذه الشركة.

 

وضمن نشاط العبيدي خارج العراق سعى لتأسيس شركة تأمين في الكويت فانتدب لذلك المرحوم عطا عبد الوهاب الذي ذهب إلى الكويت لهذه المهمة فاختطف فيها ونقل إلى العراق، كما هو معروف.[6]

 

 

في سنة 1968، وبعد مرور سنتين على بدء عملي في شركة التأمين الوطنية وتحديداً في 1/2/1966 أوفدت وزميلي المرحوم عزيز مراد إلى أقطار الخليج العربي: الكويت، البحرين، قطر، الإمارات العربية المتحدة (أبو ظبي ودبي) بمهمة دراسة الظروف الملائمة لتأسيس شركات تأمين وطنية فيها بمساهمات عراقية.  لا أتذكر الجهة التي صدرت منها هذه الفكرة والمبادرة.  قمنا بزيارة الأقطار المذكورة وأجرينا الاتصالات المقتضية واطلعنا على ظروف العمل في كل منها، وانتهينا إلى اختيار البحرين لتكون الهدف الأول، إذ لم تكن فيها غير وكالات لشركات تأمين أجنبية تمارس التأمين ويمثلها رجال أعمال بارزون ذوو أنشطة متعددة.  قدمنا التوصية معززة بالمبررات فحصلت المصادقة عليها من قبل وزير الاقتصاد وكُلّفتُ بالمباشرة بالتنفيذ.  رافقني في هذه الزيارة التالية للبحرين الزميل الراحل عزيز مراد.

 

قمت برحلات متعددة إلى البحرين برفقة واحد من زملائي في شركة التأمين الوطنية، أجريت خلالها زيارات لسمو أمير البحرين المرحوم الشيخ عيسى بن سلمان وشقيقه رئيس الوزراء سمو الشيخ خليفة بن سلمان، أطال الله عمره، ومسؤولين آخرين والعديد من رجال الأعمال البارزين.  كان الدعم الحكومي لمشروعنا، تأسيس أول شركة تأمين وطنية، كبيراً وجاداً ساعد في تجاوز المواقف المترددة من بعض رجال الأعمال لأسباب مختلفة.

 

في إحدى الزيارات كان الوفد برئاسة رئيس المؤسسة العامة للتأمين آنذاك المرحوم أديب جلميران، وتشرفنا بمقابلة سمو الأمير الذي تفضل بتكريمنا بهدايا ثمينة.  كما قابلنا العديد من رجال الأعمال المرشحين للمشاركة في التأسيس.

 

أُبيّنُ فيما يلي بعض اللمحات والخواطر في مسيرة تأسيس شركة البحرين للتأمين[7] كأول شركة تأمين وطنية في البحرين:

 

–       في زيارتي الأولى برفقة الزميل الراحل عزيز مراد تشرَّفنا بتلبية دعوة عشاء من سمو الأمير الراحل الذي بارك مشروعنا منذ البداية.

 

–       ساعدنا في التعرّف على بعض رجال الأعمال صحفي عراقي مقيم في البحرين منذ زمن طويل اسمه الأول (علاء)، كان يتمتع بعلاقات طيبة مع سمو الأمير وغيره من المسؤولين ورجال الأعمال.

 

–       كان لدعم سمو رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان أثر كبير في نجاح مشروعنا، يشكر عليه.  وهنا أتذكر: في إحدى زياراتي له أخبرني أن الحاج خليل كانو، أحد كبار رجال الأعمال والوجهاء، كان في زيارته ليسترشد برأي سمّوه في المشاركة في تأسيس الشركة فقال (إنه يخشى أن يؤممهم العراقيون!) فأجابه سموه بأننا نحن من سيؤمم العراقيين وليس هم!  وأكد له دعم الحكومة لمشروع تأسيس لشركة.

 

–       كانت هناك معارضة وتردد من بعض رجال الأعمال لأسباب مختلفة غير أن الدعم الحكومي كان كفيلاً بكسب مشاركتهم في التأسيس.

 

–       حضرت اجتماعاً مسائياً لمجلس إدارة غرفة صناعة وتجارة البحرين برئاسة المرحوم عبد الرحمن الوزّان لبحث الموضوع وتحديد حجم مساهمة كل طرف.  كان الاجتماع مُتعباً، وكان الرأي السائد تحديد مشاركة الجانب العراقي بـ 25% وكنت طلبت 40% فلم أوفق.  كان معي في هذه الرحلة المرحوم بصري محمد صالح.  عدت في اليوم التالي إلى بغداد وعرضت الحالة على وزير الاقتصاد المرحوم الدكتور فخري قدوري فأكد ضرورة العودة إلى البحرين والاتفاق مع الجانب البحريني على أية نسبة.  عدت فعلاً وتوصلت مع الجانب البحريني على أن تكون مساهمتنا بثلث رأس المال وتمثيلنا في مجلس الإدارة بذات النسبة.  لذلك تكوَّن المجلس من عدد زوجي هو ستة أعضاء وليس عدداً فردياً كما هي العادة في تشكيل المجالس.

 

–       لم يكن في البحرين يومذاك قانون للشركات بل كانت تَصدرُ بتأسيس كل شركة (براءة) يُعدّها محامي لقاء أتعاب وتسجل لدى وزارة التجارة ويوقعها الأمير.  حصلت على نموذج براءة تأسيس إحدى الشركات وعدت به إلى بغداد وأجريت عليه التعديلات المناسبة لنشاط التأمين وهيأت العدد الكافي من النموذج وعدت به إلى البحرين فحصلت المصادقة عليه دون أي تعديل، وكان أول نموذج لبراءة تأسيس شركة تأمين مساهمة.

 

–       بعد تأسيس الشركة انتخبت الهيئة العامة أربعة أعضاء لتمثيل الجانب البحريني في مجلس الإدارة، أتذكر منهم المرحوم الحاج خليل كانو الذي انتخب رئيساً لأول مجلس إدارة، والحاج صادق البحارنة (أطال الله في عمره).  أما الجانب العراقي فمثَّلتُ فيه شركة التأمين الوطنية، ومثَّل الدكتور مصطفى رجب شركة إعادة التأمين العراقية، وامتدت عضويتي حتى انتهاء إدارتي في التأمين الوطنية سنة 1978.  كان حضورنا اجتماعات مجلس الإدارة على نفقة شركتينا: التأمين الوطنية وإعادة التأمين العراقية بالكامل.

 

–       رغب الجانب البحريني أن أكون أول مدير عام للشركة فلم تحصل طبعاً المصادقة على ذلك، وانتدبنا من التأمين الوطنية السيد منيب خسرو كأول مدير عام لها.  وأعقبه هشام بابان ومنعم الخفاجي من التأمين الوطنية حتى سنة 1991.

 

–       في 1989 احتفلت الشركة بمرور عشرين سنة على تأسيسها فدُعيت والمرحوم أديب جلميران للمشاركة في الاحتفال وكُرّمنا بهدية ثمينة، وتشرفت بمقابلة سمو الأمير الراحل للمرة الأخيرة، حيث كنت أتشرف بزيارته في جميع رحلاتي إلى البحرين.  وأتذكر بأني تشرفت بزيارة سمو ولي العهد (الملك حالياً) حين كان قادماً من لندن ليقوم مقام والده الذي كان متمتعاً بإجازة صيفية.  لا أدري إذا كانت الشركة احتفلت بذكرى مرور 50 سنة (العيد الذهبي) على تأسيس الشركة أم انها ستحتفل بها ويخطر للقائمين عليها أن يتذكرونا بهذه المناسبة لنشارك فيها، هذا طبعاً إذا كانت الشركة فاعلة.

 

 

في سنة 1990 وكنت وقتها مستشاراً في وزارة المالية ذهبت إلى اليمن مع الزميل الأستاذ قيس المدرس، مدير عام شركة إعادة التأمين العراقية يومذاك، مرتين، أثمرتا عن تأسيس شركة سبأ للتأمين،[8] ولا بد أن الزميل المدرس لديه أكثر مما لدي عن تأسيس هذه الشركة.

 

بغداد

30/5/2019

[1] بهاء بهيج شكري، بحوث في التأمين، (عمان: دار الثقافة، 2012)، ص 60.

 

[2] عبد الخالق رؤوف، مدير عام أسبق للشركة العراقية للتأمين على الحياة، الأمين العام للاتحاد العام العربي للتأمين (1999-2019).

 

[3] مصباح كمال، “مساهمة قطاع التأمين العراقي في تأسيس شركات تأمين عربية: لمحة أولية،” مجلة التأمين العراقي، 18 آب 2008.  http://misbahkamal.blogspot.com/2008/08/30-1964-40-60-1969-30-70-1990.html

 

[4] اقترن هذا الاحتفال بعقد مؤتمر التأمين العربي الأول، طرابلس، 9-11 أيلول/سبتمبر 1989 الذي نظمته شركة ليبيا للتأمين.  وقد كان الأستاذ عبد الباقي رضا من بين الأعضاء العشرة للجنة صياغة البيان الختامي والتوصيات.  وكان وقتها يشغل منصب مستشار في وزارة المالية العراقية.

 

[5] تأسست شركة النيل الأزرق سنة 1965.

 

[6] أفرد المحامي بهاء بهيج شكري هامشاً مطولاً عن لطفي العبيدي ونشاطاته التأمينية وغير التأمينية وكذلك تورط عطا عبد الوهاب في العمل معه.  راجع: بحوث في التأمين (عمان: دار الثقافة، 2012، ص 60-61).

[7] تأسست شركة البحرين للتأمين سنة 1970.

[8] تأسست شركة سبأ للتأمين، صنعاء، سنة 1990 بمساهمة عراقية في رأسمالها، وباشرت أعمالها سنة 1991.

Insurance in Babylonian Law

التأمين في التشريع البابلي

 

 

زهير العطية

 

 

نشر هذا البحث مؤخراً في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2019/05/زهير-العطية-التأمين-في-التشريع-البابلي.pdf

 

 

الفرق شاسع بين طفل حديث النشأة طري العود ورجل كامل النمو قوي البنيان.  هكذا يبدو الأمر للوهلة الأولى إلا أن الصلة متينة والشبه كبير بين الحالتين وما الحال الثانية إلا وليدة الأولى وكذلك الأمر بالنسبة للحضارات الحديثة والقديمة – فما نراه اليوم هو تطور واكتمال لما كان بالأمس وما قبله.

 

ومسألة التعاون والضمان في المجتمع قامت منذ بدء الحضارات الأولى.  ولن تقوم قائمة لمجتمع اليوم وغداً إلا ويكون محورها توفير الضمان لأفراده في الحياة الآمنة الهانئة.  ولا شك أن التأمين يعتبر من أهم وسائل الضمان التي تكفل تحقيق ما تصبو إليه المجتمعات الحديثة من راحة وأمان.

 

وإذ تتغير المصطلحات من عصر إلى آخر فإن الجوهر يبقى نفسه وكذا الحال في التأمين فهو كمفهوم حديث له أحكامه الواسعة المتطورة إلا أنه كان وما يزال ذو محتوى أساسي واحد وهو تعاون أفراد المجتمع في تحمل الضرر الذي يصيب أحدهم عن طريق توزيع هذا الخطر على مجموع أفراد ذلك المجتمع.

 

وإذا كانت الكتب والمؤلفات قد اتفقت على أن البذرة الأولى للتأمين الحديث وجدت في أوروبا في العصور الوسطى أو ما بعدها فإننا في هذا البحث نحاول التدليل على أن التأمين في أصالته يرجع إلى تاريخ أقدم ألا وهو التاريخ البابلي.  وسنعتمد في ذلك بصورة خاصة على شريعة حمورابي والشروح التي وردت بشأنها، كما سنتطرق إلى البنود الأساسية التي وردت بخصوص التأمين في القانون المدني العراقي وفي بعض المراجع القانونية الحديثة على سبيل المقارنة.

 

 

الاقتصاد البابلي

 

اتسم الاقتصاد البابلي بوفرة الحاصلات الزراعية التي كانت الأساس في تكوين مجتمع مستقر متحضر يستهلك ما يحتاج من هذه الحاصلات ويوجه القسم المتبقي منه الأوجه التي تلبي احتياجاته الأخرى عن طريق البيع والمبادلة وهذا ما دعاه إلى اعتماد التجارة ركناً أساسياً في اقتصاده.  وقد ساعد على نمو الحركة التجارية وانتشارها:

 

  • وجود وسائط للمواصلات تتمثل بالعربات البسيطة التركيب والسفن الشراعية والحيوانات المختلفة.

 

  • توفر الحماية لخطوط المواصلات والطرق التجارية التي كان يحرص على تحقيقها ملوك بابل.

 

  • صدور تشريعات تنظم شؤون التجارة والتعارف على استخدام الألواح الطينية كأسلوب للمراسلة.

 

  • استخدام وسائل الائتمان والتسليف ووجود العديد من المؤسسات التي تقوم بأعمال الصيرفة كمعبد آنو ومعبد أوروك ومصرف ايجيبي وموراشو.[1]

 

ومع ازدهار الحركة التجارية كانت الحاجة إلى التأمين ضرورة لازمة لاستمرارها وتطورها.

 

أسس التأمين

 

أ – التأمين كعقد

 

يُعرّف القانون المدني العراقي التأمين (المادة 983 الفقرة 1) كما يلي:

 

“التأمين عقد به يلتزم المؤمن أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد مبلغاً أو إيراداً مرتباً أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث المؤمن ضده وذلك في مقابل أقساط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن.”

 

وقد وردت في شريعة حمورابي بعض الجوانب التي نرى من المفيد أن توضح الصلة بينها وبين التعريف المذكور.

 

فقد جاء في المادة 50 من الشريعة ما معناه:

 

“إذا سلّف تاجرٌ مبلغاً إلى صاحب أرض زراعية فإن صاحب الأرض هو الذي يجني الحاصل ويُعيد إلى التاجر المبلغ مُضافاً إليه الفائدة المترتبة على المبلغ.”

 

فالأصل إذن في التشريع البابلي أن إعطاء الشخص مبلغاً لآخر ليستغله في عمل مربح يرتب للمُقرض حقاً في الحصول على قسط أو مبلغ إضافي عن المبلغ الأصلي.

 

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد جاءت المادة رقم 102 من الشريعة لتقول بالنص:

 

“إذا أعطى التاجر الممول فضة إلى وسيط (Agent) لغرض المنفعة المشتركة وواجه الوسيط خسارة في مسعاه فإن عليه أن يدفع إلى التاجر الممول له ما يعادل القيمة الكلية للفضة.”[2]

 

وعند الربط بين هذين النصين يتضح الأساس التأميني في النص الأخير منهما.  فهناك طرفان: التاجر الممول الذي هو بمثابة طالب التأمين (المؤمن له) الذي يرغب بضمان ماله مقابل تنازله إلى الوسيط الضامن (المؤمن) الذي يُعيد للتاجر ماله مع المشاركة في الربح عند تحقق الربح.  أما في حالة الخسارة فإن الوسيط يضمن للتاجر إعادة ماله كاملاً على شرط أن يتخلى له عن حقه في طلب الفائدة المقررة.  وهكذا فإن الفائدة التي تنازل عن استلامها التاجر هي بمثابة قسط التأمين أو المبلغ الذي يدفعه المؤمن له إلى المؤمن (شركة التأمين) لضمان رأسماله.

 

ب – أركان عقد التأمين

 

إن التأمين ومدى تحققه في مجتمع ما يُلمس من خلال العناصر الأساسية الثلاثة التالية:

 

1-     وجود خطر          2-وجود قسط         3-وجود مبلغ التأمين

 

ويمكن التعرُّف على هذه العناصر بشكل أوفى، عند البحث عنها، فيما يلي، بتناول أركان عقد التأمين في العصر الحديث ومقارنتها بمظاهرها الرئيسية التي توفرت بالتشريع القديم.

 

إن عقد التأمين كسائر العقود أركانه التراضي والمحل والسبب.  ويمكن ملاحظة هذه الأركان متحققة في المثال التأميني الذي أُشير له ضمن المادة 102 من التشريع البابلي الآنفة الذكر وذلك كما يلي:

 

  • التراضي: هناك تراضٍ بين طرفي العقد (التاجر الممول والوسيط) لتحديد مسؤولية والتزام كل منهما يُثبَّت بموجب صيغ قانونية مرسومة ويتمُّ ذلك بحضور شهود. وقد حتَّمت المادة رقم 9 من شريعة حمورابي أن يدون عقد أو يحضر شهود عند القيام بأي عمل تجاري، بدون ذلك يعاقب الشخص الذي يستلم المال أو الملك ويعتبر سارقاً له.[3]

 

  • المحل: يذكر السنهوري[4] بأن الخطر هو المحل الرئيسي في عقد التأمين، وبما أن العناصر الأساسية للتأمين هي الخطر والقسط ومبلغ التأمين، فإن القسط يعتبر محل التزام المؤمن له (ويقابل القسط في التشريع البابلي الفائدة المتنازل عنها من قبل التاجر الممول)، كما يعتبر مبلغ التأمين هو محل التزام المؤمن (ويقابل مبلغ التأمين مبلغ السلفة التي استلمها الوسيط في العهد البابلي وهو محل التزام الوسيط). أما الخطر، وهو أهم هذه العناصر، فهو محل التزام كل من المؤمن والمؤمن له.  فالمؤمن له يلتزم بدفع أقساط التأمين ليؤمن نفسه من الخطر، والمؤمن يلتزم بدفع مبلغ التأمين لتأمين المؤمن له من الخطر.

 

لذا نجد في التشريع البابلي بأن الخطر متوفر بشكل احتمال وقوع الخسارة المشار إليها في المادة 102 وقد التزم التاجر الممول (وهو المؤمن له) بعدم المطالبة بالفائدة من الوسيط (وبذلك يكون كما لو كان التاجر الممول قد دفع قسطاً للوسيط) ليؤمن ويضمن استعادة قيمة بضاعته كاملة (وهي مبلغ التأمين) عند فشل الوسيط وتعرضه للخسارة.  وقد التزم الوسيط (وهو المؤمن) بدفع مبلغ السلفة كاملة إلى التاجر الممول بالرغم من احتمال تعرض الوسيط للخسارة في مسعاه.

 

3- السبب: إن ركن السبب في العقد يتمثل في أن التزام أحد المتعاقدين هو سبب التزام الآخر.  فالمؤمن له (التاجر الممول) ملزم بدفع القسط لأن المؤمن (الوسيط) ملزم بدفع مبلغ التعويض عند وقوع الخطر، والعكس بالعكس.

 

وبعد هذه النظرة السريعة على مدى توفر الأسس التأمينية في التشريع البابلي سنعمل على الدخول بتفاصيل تشير إلى وجود تشريعات تقابل بعض أنواع التأمين المعمول بها حالياً، ونخص بالذكر التأمين البحري (أي تأمين النقل) وتأمين السرقة والتأمين على الحياة.

 

التأمين البحري (أو تأمين النقل)

 

تتركز مفاهيم التأمين البحري أو تأمين النقل في المادتين 102 و 103 من الشريعة.  وقد وُجد بأن هناك تشابهاً كبيراً بين مضمونها وبين القواعد اللاحقة التي عمل بموجبها في القرون الوسطى حيث جرت العادة على اعتبار عقد الاستقراض البحري من أول النشاطات التأمينية.  وبموجبه يقوم الممول بدفع مبلغ إلى التجار المقبلين على الرحلة البحرية للتجارة بالبضائع مقابل فائدة عالية، وفي حالة غرق السفينة وبضاعتها يصبح هذا المبلغ مع فائدته ملكاً للمستدين، وبهذه الصورة يعوض عما خسر من مال.  أما في حالة مضي الرحلة البحرية بسلام فإن المدين يسدد المبلغ مع الفائدة المتفق عليها إلى الممول.

 

أما المادتان 102 و 103 من شريعة حمورابي فتنصان على ما يلي:

 

المادة رقم 102

(إذا أعطى التاجر الممول فضة إلى وسيط لغرض المنفعة المشتركة وواجه الوسيط خسارة في مسعاه فإن عليه أن يدفع إلى التاجر الممول ما يعادل القيمة الكلية للفضة).

 

If the merchant gives the silver to the agent for mutual advantage and he perceives a loss where he has gone, he shall repay total amount of silver to the merchant.

 

المادة رقم 103

(إذا التقى الوسيط خلال رحلته بعدو اضطره إلى إلقاء ما كان يحمله فإن الوسيط مُكلَّف بأن يحلف اليمين بحياة الإله على ذلك، فإن فعل برئت ذمته).

 

والنص الإنكليزي للمادة هو:

 

If an enemy causes him to jettison any thing he is carrying whilst he is going on the journey, the agent may take an oath by the life of a god and he then goes free

 

ويمكن القول بأن هناك تشابهاً بين محتوى المادة 103 ومضمون عقد الاستقراض البحري في القرون الوسطى حيث أن القرض قد أعطي في كلا الحالين وقد اعترف المقترض اعترافاً مسبقاً بقبول النتائج التي ستنتج عنها الرحلة البحرية أو قد يكون من آثارها أن يفقد المبلغ كاملاً دون أية مطالبة وذلك لأسباب تعود إلى مخاطر الرحلة في حالة عقد الاستقراض البحري وإلى العدو في حالة التشريع البابلي.

 

وتجدر الإشارة هنا إلى أن المادة 103 من التشريع البابلي قد أباحت للوسيط الأخذ بمبدأ إلقاء البضاعة عند تعرضه لأخطار العدو، وهو ما يقابل مبدأ إلقاء البضاعة في البحر في المفهوم الحديث والمصطلح عليه بـ (Jettison) والذي يبيح لربان السفينة إلقاء قسم من البضاعة في البحر إذا اعتقد أن ذلك يؤدي إلى سلامة البقية.

 

ويمكن القول بأن معظم خصائص عقد التأمين البحري الحديث متوفرة في مضمون الاتفاق المشار إليه في المادتين 102 و 103 من التشريع البابلي.  وهذه الخصائص هي كون العقد رضائي ومن عقود حسن النية التي اعتمدت بين الطرفين وكونه عقداً احتمالياً تحققُ الضرر فيه غير أكيد وأنه عقد تجاري يتضمن التعويض.

 

تأمين السرقة

 

حدد التشريع البابلي العقوبات المترتبة على الجرائم ومنها جريمة السرقة إذ قضت المادة 22 من شريعة حمو رابي بقتل الشخص الذي يقوم بسرقة شخص آخر.  وهناك قوانين عديدة أخرى تفرض غرامات أو تعويضات على مرتكب الجريمة إلا أنها جميعاً لا تشير إلى مبادئ التأمين الحديثة بشكل صريح سوى المادة 23 من الشريعة والتي تنص على ما يلي:[5]

 

“إذا لم يُقبض على السارق فإن على الشخص الذي سُرق ماله أن يعلن رسمياً عما سُرق منه أمام الإله، وحينئذ على (المدينة والحاكم) الذي بأرضه أو بمنطقته اُرتكبت السرقة أن يعوض الشخص المسروق عن كل ما سرق منه.”

 

يمثل هذا القانون منتهى السمو في إدراك مضمون التأمين والضمان في المجتمع.  فقد طبق هنا مبدأ التعاون في تحمل الضرر على كافة أفراد المجتمع عند حدوث ضرر لأحد أفراده وذلك بشكل مباشر وسريع.

 

ومما يوضح ذلك هو أن أفراد المجتمع قد ساهموا مسبقاً بتجميع مبلغ التعويض عن طريق الضرائب التي كانت تُفرض على كل منهم ويتم إيداعه إما لدى الحاكم أو لدى هيئة مختصة في المدينة التي أصبحت بمثابة شركة التأمين أو المؤمن الذي يعوض المتضرر (أو المؤمن له) مبلغ التعويض، أي ما فقده نتيجة السرقة.

 

لقد نصّت المادة 989 من القانون المدني العراقي على ما يلي:

 

“يلتزم المؤمن بتعويض المستفيد عن الضرر الناشئ من وقوع الخطر المؤمن ضده، على ألاّ يتجاوز ذلك قيمة التأمين.”

 

وإننا نلاحظ أن المادة 22 من القانون البابلي قد قضت بأن يكون تعويض المدينة للمتضرر بقدر ما أعلن أمام الإله انه سُرق منه، أي ليس بأكثر من ذلك.

 

التأمين على الحياة

 

تسترسل الشريعة في موادها بعد المادة 23 آنفة الذكر فنرى في المادة رقم 24 ما يلي:

 

“إذا كان ما فقده صاحب الدار هو حياته، فإن على المدينة أو الحاكم أن يعوضه مقدار مئة [مينة] واحدة من الفضة لأهله.”

 

وهنا ثانية نجابه نموذجاً آخر لتعاون مجتمع المدينة في تعويض أهل الشخص الذي يعيل عائلة علماً بأن التشريع بالإضافة إلى تحديده طرفي التأمين فإنه قد قرر مسبقاً مبلغ التعويض، كما اشترط أن يكون المتوفي رب عائلة وليس أحد أفرادها وهو أمر ينسجم كل الانسجام مع المبادئ العامة التي تقضي بوجود مستفيدين ذوي مصلحة تأمينية متعلقة بحياة الشخص المؤمن على حياته.

 

وقد قضت الشريعة بأن تكون هناك مراعاة لقابلية الجهة التي تدفع التعويض، فعندما تفضي أحكامها بأن تكون المدينة هي التي تدفع التعويض يكون مبلغ التعويض ضعف ما يكون عليه عندما تقضي أحكام أخرى أن يدفع التعويض شخص واحد، وهذا دليل على مراعاة فكرة توزيع الضرر عموماً.

 

وقد جاء في المادتين 251، 252 من الشريعة ما يلي:[6]

 

“إذا كان عجل شخص نطاحاً وأُعلم من قبل منطقته بأنه نطاح ولم يقص قرنيه أو يربط ذلك العجل فإذا نطح ابن رجل حر وأماته، فعلى الشخص أن يدفع نصف مائة من الفضة، وإذا كان الضحية عبداً لرجل حر فعليه أن يدفع ثلث مائة من الفضة.”

 

تلك كانت محاولة لإلقاء ضوء على مدى توفر الأسس التأمينية في التشريعات البابلية بالإضافة إلى تقديم أمثلة واقعية مارسها المجتمع القديم لبعضٍ من أهم أنواع التأمين التي يمارسها المجتمع الحديث وفق مفهوم أكثر تطوراً بطبيعة الحال، وعسى أن تكون هذه الحال حافزاً إلى المزيد من الدراسة والتعمق في هذا المجال الأصيل.

 

المراجع[7]

 

د. محمد علي رضا الجاسم، الائتمان والصيرفة في العراق القديم (بغداد: دار التضامن، 1964)

 

جمال الحكيم، التأمين البحري (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1955)

 

عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء السابع، المجلد الثاني (القاهرة: دار النهضة العربية، 1964)

 

رسالة التأمين، العدد الثاني، السنة الأولى، بغداد: المؤسسة العامة للتأمين، 1967.

 

Godfrey Rolles Driver, Sir John Charles Miles, The Babylonian Laws (Oxford: The Clarendon Press, 1952), Vol I, II.

 

 

حاشية

 

هذا النص هو نسخة طبق الأصل من البحث المنشور في مجلة رسالة التأمين، مجلة فصلية كانت تصدرها دائرة العلاقات العامة والاستثمار المالي في المؤسسة العامة للتأمين، بغداد، قمت بطبعها بهدف إحيائها وإعادة نشرها لفائدة المهتمين بتاريخ التأمين في العالم عموماً وفي العراق على وجه التخصيص.

 

ترجع خلفية اهتمامي بهذا البحث إلى قراءتي له بعد فترة قصيرة من بدء عملي في شركة التأمين الوطنية في بغداد أواخر سنة 1968.  وعندما كنت أقوم بكتابة مقالتي “موقع شريعة حمورابي في تاريخ التأمين”[8] (تموز/يوليو 2008) تذكرت هذا البحث، لكنني لم أتوفر على نسخة منه ولم أتذكر وقتها مضمونه.  وقمت مؤخراً (نيسان-أيار 2019) بالبحث مجدداً في مدى حضور أشكال أولية للتأمين في العراق القديم وتذكرت بحث زهير العطية، فكتبت إلى زميلي وصديقي منعم الخفاجي في بغداد مستفسراً عن إمكانية الحصول على نسخة من هذا البحث.  وقد كان كريماً معي وأرسل لي بسرعة نسخة مصورة من بحث العطية.

 

النسخة المصورة لم تذكر بيانات النشر وقد شرح زميلي أن عدد مجلة رسالة التأمين الذي يضم بحث زهير العطية كان خالياً من هذه البيانات، وفي تقديره أن هذا العدد من المجلة هو الأول والثاني (حزيران 1968 – تموز أو آب 1968).

 

زهير العطية (1936-2015) درس علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية في بيروت (1959)، عمل لبعض الوقت في شركة التأمين الوطنية، وبعدها في المؤسسة العامة للتأمين، وشغل أيضاً موقع رئيس تحرير مجلة رسالة التأمين.  ترك العمل في قطاع التأمين وتفرغ لمتابعة اهتمامه الأساس بالتراث الشعبي العراقي.  ومن عرفه يذكر بأن بيته كان أشبه ما يكون بمتحف لاحتوائه على عدد كبير من المقتنيات الفولكلورية وصور فوتوغرافية عن جوانب مختلفة من التراث الشعبي العراقي.

 

لقد ترك لنا زهير العطية بحثاً رائداً في تاريخ التأمين، وفي ظني أنه كان سيترك لنا غيره لو بقي عاملاً في قطاع التأمين.  ومن المؤسف أن زملاؤه المعاصرين له أو من جاءوا بعده لم يكملوا هذا البحث، ولم تكرّس أطروحة جامعية لدراسة الأصول الأولى لنشاط التأمين في العراق القديم.

 

لقد أبقيت على النص الأصلي وأدخلت عليه بعض التعديلات البسيطة والشكلية، كما قمت بإضافة بعض الهوامش.

 

مصباح كمال

10 أيار/مايس 2019

[1] الدكتور محمد علي رضا الجاسم، الائتمان والصيرفة في العراق القديم (بغداد: دار التضامن، 1964)، الصفحة 82.

[للتعريف ببعض محتويات هذا الكتاب راجع: “كتاب د. محمد رضا علي آل جاسم: الائتمان والصيرفة في العراق القديم، تقديم فاروق يونس.” موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2017/11/%D9%85%D9%82%D8%AA%D8%B7%D9%81%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D9%86-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%A6%D8%AA%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D8%B1%D9%81%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D9%8A%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%AF%D9%83%D8%AA%D9%88%D8%B1-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B9%D9%84%D9%8A-%D8%B1%D8%B6%D8%A7-%D8%A2%D9%84-%D8%AC%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D9%85%D8%AD%D8%B1%D8%B1%D8%A9.pdf

أشار د. محمد علي رضا جاسم إلى مصرف “ايجيبي” ومصرف “موراشو”.  حاولت التعرف عليهما ولم أجد سوى معلومات عن موراشيو في كتاب:

William M. Goetzman, Money Changes Everything: How Finance Made Civilization Possible (Princeton, New Jersey: Princeton University Press, 2016), p 65, 67-68.

يقول المؤلف إن موراشو (Muraŝu) ولد حوالي سنة 500 قبل الميلاد وكان نشطاً في إجراء الصفقات المالية، وقد ظل أولاده الثلاثة وأحفاده الثلاثة نشطين في مجال العقارات، وإدارة المزارع، والتسليف لأصحاب الأراضي في نيبور، واستمرت نشاطات العائلة إلى حوالي سنة 417 قبل الميلاد.  ويشير المؤلف إلى مجموعة كبيرة من المدونات التي تعود لثلاثة أجيال لعائلته اكتشفت سنة 1889 من قبل علماء آثار أمريكان، وقام عالم الآشوريات ماثيو ستولبر Matthew Stolper بتجميع وتصنيف المدونات المكتشفة لسرد قصتها وتعاملاتها المالية وحساباتها والقضايا القانونية التي كانت طرفاً فيها، وجمعها لثروات كبيرة، وكذلك دورها في مالية وسياسة المجتمع الرافديني في الفترة البابلية المتأخرة].

[2] Driver and Miles, The Babylonian Laws (Oxford: The Clarendon Press, 1952), Vol II, page 43.

[يستخدم زهير العطية مفردة الوسيط كمقابل لـ (Agent) التي ترد في النص الإنجليزي لشريعة حمورابي.  فهي ترد في إحدى الترجمات الإنجليزية كما يلي:

  1. If a merchant entrust money to an agent (broker) for some investment, and the broker suffer a loss in the place to which he goes, he shall make good the capital to the merchant.

http://avalon.law.yale.edu/ancient/hamframe.asp

 

وأرى أن مفردة “الوسيط” ربما ليست مناسبة هنا، وربما كان استخدام مفردة “وكيل” أفضل منها.  وجاء في تعريب هذه المادة من شريعة حمورابي عن الأصل السومري والأكادي لها ما يلي:

 

“المادة مائة واثنتان

إذا أعطى تاجر فضة إلى بائع متجول كسلفة للتجارة بدون فائدة، وتعرض حيثما ذهب للخسارة، فيجب عليه أن يعيد رأس المال (فقط) إلى التاجر.”

 

“البائع المتجول”، كما يشرح د. عيد مرعي، “ترجمة للكلمة السومري[ة] SAMAN LA والأكادية شماّلوم التي لها معاني متعددة: حامل كيس، مساعد، تاجر، مساعد تجاري، سمسار، تاجر صغير.  أنظر: Von Soden, W, Akkadishes Handwörterbuch III, S. 1153. Ff”

د. عيد مرعي، قوانين بلاد ما بين النهرين (دمشق: دار الينابيع، 1995)، ص 68.]

 

[3] Driver and Miles، نفس المصدر السابق، ص 17.

 

[4] عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني (القاهرة: دار النهضة العربية، 1964)، الجزء السابع، المجلد الثاني، الصفحة 1217.

[5] Driver and Miles, Vol II, page 21.

[6] Driver and Miles, Vol II, op cit, page 87.

[7] لم يذكر الباحث كتاب:

C F Trenerry, The Origin and Early History of Insurance (London: P S King and Son, 1926)

وكان كتاباً رائداً في إرجاع أصول التأمين الأولية إلى الحضارة البابلية وحضور بعض المفاهيم الأساسية ذات العلاقة بالتأمين البحري.  ويبدو أنه لم يكن مطلعاً عليها أو لم يكن متوفراً له وقت كتابته لبحثه.

[8] مصباح كمال، مؤسسة التأمين: دراسات تاريخية ونقدية (بيروت: منتدى المعارف، 2015)، ص 41 وما بعدها.

Damage to Arshak’s Studio & the British Embassy in Baghdad: a note on fire insurance

المصور آرشاك والسفارة البريطانية والتأمين 1958

هامش على غطاء وثيقة التأمين من الحريق

 

 

نشرت هذه الورقة أصلاً في موقع History of Iraq

https://iraqshistory.blogspot.com/2018/09/1958.html

 

 

خلفية الموضوع

 

اثنان من إخواني لهما اهتمام كبير بتاريخ عائلتنا، وبين الحين والآخر يقومان بتوزيع كتاباتهما بهذا الشأن على من بقي من أفراد العائلة على قيد الحياة.  ومما كتبه مؤخراً أصغر إخوتي، ورقة بعنوان “صورة لن تُمحى من ذاكرة العائلة: قرن من الزمان على صورة فوتوغرافية[1]، وكانت المناسبة هي “مرور (100) مائة عام على الصورة الفوتوغرافية لوالدنا (غازي عسكر) مع أخيه (أكبر)، والكتابة على الصورة من قبل والدنا تشير انها التقطت سنة 1918م أي بعد احتلال العراق ودخول القوات البريطانية إلى بغداد في 11 آذار 1917م.”

 

ويضيف إلى ذلك أن الصورة أخذت في دارهما ببغداد – محلة البارودية، وأن “عمنا (أكبر- أبو وحيد) كان يعمل مصوراً، وربما كانت تربطه صلة معرفة بالمصور الاهلي كونه مصوراً ولقرب سكنه من محل التصوير، أو عمل عنده قبل أن يرحل إلى خانقين.. لذلك نستطيع القول بأن احتمالية التقاط الصورة كانت من قبل المصور الأهلي أبو قدري.”[2]

 

 

ضمت الورقة مقطعاً بعنوان “المصور آرشاك وشركة التأمين” جاء فيه ما يلي:

 

من المصورين الذين دونوا تاريخ العراق إضافة إلى المصور الأهلي، المصور آرشاك وكان محله بمدخل حافظ القاضي في شارع الرشيد، وعند قيام انقلاب 14 تموز 1958 حُطم محل ارشاك تحطيما شاملا من قبل الجماهير الثائرة ضد الحكم الملكي ولما استقر الوضع راجع شركة التأمين كونه مؤمنا على محله لديها لكن الشركة رفضت تعويضه لوجود فقرة بأن الشركة غير ملزمة بالدفع لأي محل أو دار أو شركة تتعرض لأعمال شغب أو هيجان شعبي وبما ان محل المصور ارشاك تعرض لمثل هذا الأعمال فإن شركة التأمين لم تدفع أي مبلغ وغير مُلزَمة لتعويضه على ما جرى لمحله.”

 

وقد طلب مني أخي في ورقته بيان موقف التأمين من أعمال الشغب.

 

كما هو معروف فإن موقع استوديو آرشاك كان قريباً من ساحة حافظ القاضي، واشتهر آرشاك بالتقاط صور ملوك العراق وشخصيات عراقية عديدة.  وقد التقط صورة عائلية تجمع بين والدينا واثنين من أخوتنا في نيسان 1941.

 

 

أستوديو آرشاك والتأمين

 

تعرض استوديو آرشاك، كما جاء في الاقتباس أعلاه، إلى تخريب من قبل “الجماهير الثائرة” في 14 تموز 1958.  قوبلت مطالبة آرشاك لشركة التأمين بالتعويض عن الأضرار التي لحقت بالاستديو بالرفض من شركة التأمين لاستثناء شركة التأمين لأعمال الشغب أو الهيجان الشعبي من وثيقة التأمين.

 

لا نعرف اسم الشركة التي قامت بالتأمين على أستوديو آرشاك أو نوع وثيقة التأمين الخاصة بالأستوديو ولكننا نفترض بأنها كانت وثيقة للتأمين من الحريق اعتماداً على ذكر أعمال الشغب والهيجان الشعبي (الاضطرابات الأهلية).

 

تعتمد الملاحظات التالية على قراءة ما يُعرف بشروط وثيقة الحريق النموذجية Standard Fire policy وكانت، وما تزال، شركات التأمين العاملة في العراق تستخدم هذه الوثيقة، ومصدرها الوثيقة النموذجية البريطانية بذات الاسم، وكانت من إعداد لجنة مكاتب الحريق في لندن Fire Offices Committee (تأسست اللجنة سنة 1858 وتوقفت أوائل ثمانينيات القرن الماضي مع تأسيس جمعية شركات التأمين البريطانية سنة 1985 Association of British Insurers).

 

إن الغطاء الأساسي لوثيقة الحريق النموذجية توفر الضمان من:

 

الحريق، سواء نشأ عن انفجار أو غيره، الصاعقة، سواء نشأ عنها حريق أو لم ينشأ، انفجار المراجل المنزلية، انفجار الغاز المستعمل لأغراض منزلية أو للتدفئة أو للإضاءة.[3]

 

إن الأضرار التي لحقت بأستوديو آرشاك لا تندرج ضمن الأخطار المذكورة، وهذا سببٌ كافٍ لرفض المطالبة بالتعويض لانتفاء قيام حريق أو انفجار أو صاعقة (وثيقة تأمين الحريق تُصنّف ضمن وثائق التأمين التي تغطي أخطاراً محددة بالاسم، أي أنها ليست من نمط وثيقة تأمين جميع أخطار الممتلكات التي لا تُسمّي الأخطار التي تغطيها).  إن الخطر المسبب للأضرار هنا هو أعمال الشغب أو الهيجان الشعبي، وكلاهما يخضعان للاستثناء من وثيقة الحريق النموذجية.  يكتب الأستاذ بهاء بهيج شكري سنة 1960:

 

لا يعتبر غطاء وثيقة التأمين شاملاً للأضرار التي تسببها أو تساهم في تسببها بصورة مباشرة أو غير مباشرة أحد المخاطر التالية [هناك عدة استثناءات يذكرها المؤلف ومنها]:

 

الحرب، الغزو، أعمال العدو الأجنبي، العدوان والعمليات الحربية (سواء أعلنت الحرب أم لم تعلن)، التمرد، الاضطرابات، الهيجان الشعبي، العصيان، الثورة، الانقلاب، التآمر، القوة العسكرية أو البحرية أو اغتصاب السلطة، الأحكام العرفية، حالة الطوارئ، أو أي سبب يستدعي إعلان حالة الطوارئ أو استمرارها.[4] [التأكيد من عندي]

 

لا يَرِدُ هنا ذكر “الشغب” لكن المؤلف يُفصّل شروط تأمين هذا الخطر، كخطر إضافي يُلحق بوثيقة تأمين الحريق النموذجية لقاء قسط تأمين إضافي، كما يلي:[5]

 

الشغب Riot وتتحقق حالة الشغب إذا توافرت الشروط التالية:

 

  • اجتماع ثلاثة أشخاص أو أكثر.
  • أن يكون لهؤلاء الأشخاص غرض مشترك.
  • أن ينفذوا أو يشرعوا في تنفيذ غرضهم المشترك.
  • أن يقصد كل واحد منهم معاونة الآخر ولو بالقوة عند الضرورة ضد كل من يقف حائلاً دون تنفيذ الغرض المشترك.
  • أن يصدر منهم القدر الكافي من العنف لإخافة شخص واحد على الأقل ممن يتصفون بالجرأة والشجاعة المعقولة.

 

لو كانت وثيقة الحريق النموذجية الخاصة بأستوديو آرشاك وثيقة تأمين بغطاء موسع يضمُّ تأمين المخاطر الخاصة Special Perils كالشغب والاضطرابات الأهلية التي يعرّفها الأستاذ شكري كالآتي:

 

يصف هذا المصطلح قيام مجاميع من الأشخاص بدوافع اجتماعية أو دينية أو طائفية أو عنصرية، أو على سبيل الاحتجاج على سياسة الحكومة، بإحداث نوع من الفوضى والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة بهدف إقلاق الراحة العامة ….[6]

 

لكان بإمكان السيد آرشاك استرداد كلفة الخسارة المادية التي لحقت بالأستوديو من جراء الشغب والاضطرابات الأهلية.  ويبدو من المعلومات القليلة التي وفَّرها أخي أن موقف شركة التأمين برفض المطالبة بالتعويض كان صحيحاً.

 

حالات أخرى

 

شهد تاريخ العراق العديد من حوادث الشغب والاضطرابات الأهلية والسرقات المصاحبة لها ومن بينها الفرهود (مصطلح عراقي صرف)، وأشهرها في زماننا فرهود حزيران 1941 الذي انصبَّ على المواطنين اليهود، وأحداث الشغب التي رافقت ثورة/انقلاب تموز 1958، والنهب والتدمير للممتلكات الخاصة والعامة الذي صاحب الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق نيسان 2003.

 

لم يخضع الجانب التأميني من هذه الحالات للتوثيق والبحث ربما بسبب انعدام المستندات الخاصة بها.  وقد سألت البعض عن هذه الحالات لكنني لم أحصل على جواب.  ولي محاولة متواضعة قمت بها أثناء كتابة ورقتي عن اليهود والتأمين في ذاكرة عزرا حكّاك.[7]  فقد سألت السيد عزرا الحكاك فيما إذا كانت بعض المحلات التجارية والبيوت التي تعرَّضت للفرهود في بغداد (2-1 حزيران 1941) مؤمنة ولكنه لم يستطع توفير الجواب لأنه كان وقتذاك في طهران.  لكن الصديق أميل كوهين الذي عرضتُ عليه قراءة مسودة مقابلتي مع الحكاك كتبَ التالي:

 

“حسب علمي لم تكن المحلات التجارية والبيوت التي تعرضت للفرهود مؤمنة وحتى لو كانت مؤمنة فأعتقد أن شركات التأمين ترفض إعطاء التعويضات على أساس أنه لم تكن هناك حكومة في يومي الفرهود، أي أن الدولة في حالة فوضى.  أتذكر أن السفارة البريطانية في بغداد تعرضت للحريق بعد مظاهرة شعبية عقب ثورة 14 تموز 1958 بكم يوم ورفضت شركة التأمين أن تعوض السفارة البريطانية او بالأحرى صاحب البناية.  فأقام صاحبها دعوى ضد شركة التأمين في إحدى المحاكم العراقية واستُدعِيَ والدي كشاهد خبير أمام المحكمة وكانت شهادته أن الثورة انتهت وأن البلد كان له حكومة مسيطرة على إدارة الدولة وليس هناك فوضى، وإن ما حصل ليس حرباً بل هو مظاهرة وهذا، حسب قواعد التأمين لدى شركة التأمين لا يعتبر حالة استثنائية.  وافقت المحكمة على شهادته وصدر القرار بتعويض صاحب المبنى.”[8]

 

وقد كتبتُ التعليق التالي على ما كتبه أميل:

 

جرت العادة في التأمين غير البحري على الممتلكات (هناك شروط خاصة بالنسبة لغطاء الحرب في التأمين البحري) على استثناء “الحرب، الغزو، أعمال العدو الأجنبي، العدوان أو العمليات العسكرية (سواء أعلنت الحرب أو لم تعلن) والحرب الاهلية.”  وكذلك “التمرد، الشغب، الهيجان الشعبي، الانقلاب العسكري، الفتنة، العصيان، الثورة، القوة العسكرية أو القوة الغاشمة أو حالة الحصار أو أي من الحالات أو الأسباب التي تدعو إلى إعلان أو استمرار حالة الحصار أو الأحكام العرفية.”  وليس لنا أن نُقيِّمَ ونحكم على رأي الشاهد الخبير من دون التعرُّف على شروط وأحكام واستثناءات وثيقة التأمين.

 

حاولت الحصول على معلومات إضافية من أميل عن هذا الموضوع ودور والده للكشف عن الأبعاد التأمينية والكتابة عنه إلا أن ذاكرته لم تتعدَ ما كتبه.  وليس هناك الكثير عن المظاهرة أمام السفارة البريطانية والضرر الذي أصاب بعض المباني ومقتل الملحق العسكري للسفارة.  وقد استهديت إلى الكتاب التالي الذي يُقدّم وصفاً وتحليلاً لما جرى:

 

Juan Romero, The Iraqi Revolution of 1958: A Revolutionary Quest for Unity and Security (Lanham, MD and Plymouth, UK: University Press of America, 2010), pp 124-125.

 

Juan Romero’s Book[9]

 

معلومات إضافية حول تعرض السفارة البريطانية للحرق والنهب

 

بعد أن انتهيت من الكتابة لأخي عرضتُ ما كتبت على الزميل فاروق يونس لأنه صاحب ذاكرة قوية وله خزين هائل من المعلومات.  وقد أفادني بمعلومات مهمة لخَّصها في رسالتين.  كتبَ التالي في الرسالة الأولى (4 نيسان 2018):

 

قصة المصور ارشاك مع شركة التأمين واضحة في رسالتكم ولكن هناك قصة مماثلة حيث تعرضت السفارة البريطانية يوم ١٤ تموز ١٩٥٨ للحرق والنهب وقد طالب السفير البريطاني من الحكومة العراقية بالاعتذار والتعويض.  والذي حصل ان عبد الكريم قاسم لم يعتذر ولكنه وافق على التعويض وحصلت السفارة البريطانية آنذاك على مبلغ مناسب (انظر: العراق في مذكرات دبلوماسيين بريطانيين، ترجمة وتعليق خليل ابراهيم حسين الزوبعي بغداد ٢٠٠٢)

 

في رسالته الثانية بنفس التاريخ كتب التالي:

 

اليك ترجمة ما كتبه السير همفري تريفليان السفير البريطاني في بغداد في كتابه The Middle East In Revolution ص٤٣ وص٤٤

 

١٩٥٨-١٩٦١

 

(استغرقت مسألة التعويض عن موت أحد اعضاء السفارة وعن التدمير الذي اصاب السفارة وفقدان بعض ممتلكاتها حوالي السنة والنصف.  لقد ابتدأنا المطالبة بتعويض مقداره ٢٥٠٠٠٠ باون وانقصناه بعد ذلك الى ٢٠٠٠٠٠ باون والذي ظل رقما قابلا للمساومة.

 

لم يعد البيت القديم صالحا للسكن وتم تصميم مبنى جديد للسفارة وبعد سنة من المباحثات المخيبة للآمال جلست مع قاسم في احدى الامسيات ودخلنا بمعركة مساومة لمدة ساعتين ابتدأت بـ (٢٠٠٠٠٠) باون وابتدأ قاسم بـ(٥٥٠٠٠) باون وكان كل منا يحاول ان يجعل رقمه قابلا للتسوية وكان قاسم يؤكد ان اعضاء السفارة هم الذين تسببوا في حرق السفارة وذلك بالبدء في حرق اوراقهم وان المشاكل كلها ابتدأت بفتح النار على جمهور مسالم واضاف انه لأمر له ما يبرره بان الشعب يحرق السفارة بعد الأخطاء التي عانوا منها من البريطانيين.  واخيرا توصلنا الى مبلغ (١٢٠٠٠٠) باون ودفع المبلغ دون تأخير.  لقد كنا محظوظين بالحصول على هذا التعويض فلو تأخر ذلك سنة او سنتين لما حصلنا على شيء ابدا على وفق الظروف في ذلك الحين)

 

ثم ألحقها بمعلومات عن المصدر الذي نقل عنه:

 

الكتاب المترجم يتألف من جزئين الاول باسم Middle East In Revolution كتبه السفير البريطاني في بغداد همفري تريفليان منذ كانون الاول ١٩٥٨ حتى عام ١٩٦٣.  والجزء الثاني ترجمة كتاب المستشار الشرقي سام فول Sam Falle الذي يجيد العربية اجادة تامة والذي صاحب السفير البريطاني مايكل رايتMichael Wright  في مواجهة قاسم وعبد السلام يوم ١٤ تموز.

 

عن الكتاب

بيت الحكمة

رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ٢٢ ببغداد لسنة ٢٠٠٣

مطبعة الفرات

ترجمة خليل ابراهيم حسين الزوبعي

مراجعة عبد الوهاب عبد الستار القصاب

 

ولد المترجم في العزيزية – الكوت ودخل الكلية العسكرية وتلقى دروسه العليا في الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفيتي ومصر وألمانيا.  وعين وزيرا للصناعة ١٩٦٧-١٩٦٨.  له ترجمات كثيرة عن تاريخ العراق.

 

ملاحظات على المعلومات الإضافية

 

إن حادثة حرق ونهب السفارة البريطانية (1958) ليس فريداً في تاريخ النهب والتدمير والقتل في العراق.  وكنا شاهدين عليها خلال الاحتلال الأمريكي للعراق (2003).

 

ستمضي عدة سنوات قبل أن تصدر اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 التي جاء فيها (المادة 22):

 

تتمتع مباني البعثة بالحرمة، وليس لممثلي الحكومة المعتمدين لديها الحق في دخول مباني البعثة إلا إذا وافق على ذلك رئيس البعثة.

 

على الدولة المعتمد لديها التزام خاص باتخاذ كافة الوسائل اللازمة لمنع اقتحام أو الإضرار بمباني البعثة وبصيانة أمن البعثة من الاضطراب أو من الحط من كرامتها.

 

لا يجوز أن تكون مباني البعثة أو مفروشاتها أو كل ما يوجد فيها من أشياء أو كافة وسائل النقل عرضة للاستيلاء أو التفتيش أو الحجز لأي إجراء تنفيذي.[10]

 

ليس هناك سياق تأميني يخص موت أحد أعضاء السفارة البريطانية أو الأضرار المادية التي لحقت بمبنى السفارة البريطانية ومحتوياتها أو المباني المجاورة.  وليس معروفاً إن كانت بناية السفارة مؤمناً عليها أو أن حياة أعضاء السفارة كانت موضوعاً للتأمين.  من المعروف أن السفارات والقنصليات والدوائر الدبلوماسية تقوم بالتأمين على مبانيها ومحتوياتها بضمنها مساكن كبار الدبلوماسيين، وكذلك مسؤوليتها كرب عمل، ومسؤوليتها المدنية، والسيارات العائدة لها، وغيرها من وثائق التأمين.

 

الطريف فيما كتبه السفير البريطاني هو التفاوض المباشر بينه وبين الزعيم عبد الكريم قاسم.  ولكن ليس معروفاً كيف وصل الأمر إلى انشغال الزعيم دون غيره بهذا الموضوع.

 

نستنتج من هذه المعلومات أن أياً من شركات التأمين العراقية في ذلك الوقت لم تكن معنية بالتأمين على مبنى السفارة أو الأفراد العاملين فيها وإلا لكان موت أحد اعضاء السفارة والتدمير الذي لحق بالسفارة وفقدان بعض ممتلكاتها موضوعاً للمطالبة بالتعويض من شركة تأمين عراقية.

 

إن مهمة البحث في تاريخ التأمين العراقي تقع على عاتق من يمتلك أدوات البحث الأكاديمي والقدرة على الوصول إلى المصادر المختلفة.

 

 

28 نيسان 2018

[1] نهاد غازي عسكر كمال، صورة لن تُمحى من ذاكرة العائلة: قرن من الزمان على صورة فوتوغرافية: أكبر كمال محمد جميل أفندي (1893-1951م) – غـازي عسكر كمال محمد جميل أفندي (1907-1986م) (بغداد: نيسان، 2018).  كتيب إلكتروني غير منشور.

 

[2] كتب نهاد التالي عن المصور الأهلي، ص 7:

 

المصور الأهلي البغدادي (عبد الرحمن محمد عارف البياتي، 1894-1960م)، وهو من مواليد بغداد، محلة الطوب، مدخل شارع الجمهورية، من أقدم وأوائل المصورين في العراق الذين افتتحوا محلا للتصوير في مدخل سوق الهرج وبقي فيه حتى عام 1924 وانتقل إلى عدة محلات إلى ان استقر في محل بجوار مقهى الزهاوي.

 

كان المصور الأهلي صديقاً حميماً لجميع الوجوه المعروفة آنذاك ومنهم الشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي الذي كتب قصيدة طويلة طريفة في الثناء على فن المصور: عبد الرحمن منها قطعة تشوف مكتوبه بهل عنوان.. المصور ابو قدري الاهلي بالميدان.. اخذوا رسومكم عنده الوقت حان.. والفرصة اغتنموها يا اهل بغداد.

 

بعد وفاته تولى الاستوديو، ولده عبد القادر عبد الرحمن البياتي والمعروف باسم قدري (تولد القدس 1921- وفاته في بغداد 1989) إذ أخذ المهنة عنه كما هو أخذها عن ابيه. اغلق المحل منتصف ثمانينات القرن الماضي لأسباب مجهولة. وأخته هي السيدة (بلقيس عبد الرحمن البياتي)، زوجة وصفي طاهر محمد عارف البياتي (1918-1963)، المرافق العسكري الاقدم للزعيم عبد الكريم قاسم.

 

[3] T. R. Smith and H. W. Francis, Fire Insurance Theory & Practice (London: Stone & Cox (publications) Ltd, 1975.  1st Edition 1938), p 33-35.

بهاء بهيج شكري، النظرية العامة للتأمين (بغداد: مطبعة المعارف، 1960)، ص 370-372.

منعم الخفاجي، مدخل لدراسة التأمين (بيروت دار المعارف، 2018)، ص 55-56.

 

[4] بهاء بهيج شكري، مصدر سابق، ص 372.

 

[5] مصدر سابق، ص 376 نقلاً عن: T. R. Smith, Fire Insurance Theory and Practice.  لا يذكر المؤلف الصفحة التي نقل منها هذه الشروط.  ترد هذه الشروط في طبعة سنة 1975 في الصفحة 38.

 

[6] بهاء بهيج شكري، المعجم الوسيط في مصطلحات وشروط التأمين، 2ج، ج1، (عمّان: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2016)، ص 266.

 

[7] مصباح كمال،اليهود والنشاط التأميني في العراق: التأمين في ذاكرة عزرا حكّاك،” المنشورة في موقع Academia.edu ومرصد التأمين العراقي:

https://www.academia.edu/29799768/Jews_and_Insurance_Activity_in_Iraq_-_What_Ezra_Hakkak_Remembers.pdf

 

https://iraqinsurance.wordpress.com/2016/11/11/jews-insurance-activity-in-iraq-insurance-in-the-memory-of-ezra-hakkak/

 

[8] مصباح كمال، مصدر سابق.

 

[9] مصدر سابق.

[10] http://www.aljazeera.net/encyclopedia/events/2017/7/24/%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A%D9%8A%D9%86%D8%A7-%D9%84%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A8%D9%84%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%A7%D9%85-1961

 

كنت يوماً أعمل في شركة التأمين الوطنية

كنت يوماً أعمل في شركة التأمين الوطنية

 

سحر الحمداني

 

يتصف العمل في قطاع التأمين عموماً وشركة التأمين الوطنية خصوصاً بنكهة خاصة عن العمل في دوائر الدولة الأخرى لما فيه من أنواع تأمين مختلفة وأنماط عمل متنوعة من اكتتاب إلى تعويضات وإعادة تأمين وعلاقات عامة وغيرها.  والنشاط التأميني في تطور دائم يتخذ صفة إدخال تغطيات جديدة والتعامل مع قضايا تأمينية ذات طابع إشكالي.  وهو بذلك يخلق تحدياً لنا نحن العاملين في هذا المجال.

 

نظام التعيين في الشركة

 

اتبعت الشركة قبل نظام التعيين المركزي أسلوباً معيناً لاختيار الموظفين عن طريق الإعلان عن الوظائف ومن ثم إجراء اختبار لهم في تخصصهم الجامعي، وبعد اجتياز الاختبار تتم مقابلة للمرشح من قبل لجنة من إدارات الشركة.  لقد كان تعييني في 31/12/1977 بالشركة صدفه ولم يخطر لي العمل في التأمين حيث بالرغم من كوني خريجة الإدارة والاقتصاد لكننا لم ندرس شيئاً عن التأمين نحن خريجي قسم الإحصاء وهذا اعتبره تقصيراً من الشركة والدولة أيضاً لما للتأمين من أهمية في الاقتصاد الوطني.

 

أخبرتني صديقتي انها تقدمت للعمل في شركة التأمين الوطنية وفقاً لإعلان وظائف وطلبت مني التقديم وفعلاً تقدمت للشركة، وفي نفس الوقت كنت قد بدأت دراسة اللغة الانكليزية في المعهد البريطاني.  تم إجراء اختبار في الإحصاء وكان عددنا عشرين متقدماً على أربع وظائف شاغرة، واختير الناجحون لإجراء مقابلة من قبل لجنة من إدارات الشركة وحتى تم اختبار لغتي الانكليزية بقراءة مقطع من كتاب.  وقد قررت الشركة في حينها تعيين ثمانية بدلاً من أربع وكنت المحظوظة في المركز الرابع.  وعندما علمت صديقة لي بأني سأعمل في شركة التأمين الوطنية أكدت انني محظوظة لأعمل في مكان تعمل فيه السيدة بثينة حمدي.[1]  وعندما قابلت السيدة بثينة أدركت معنى هذا الكلام.

 

إدارة الأستاذ عبد الباقي رضا

 

ثم بتُّ أسمع عن الأستاذ عبد الباقي رضا ومهارته الإدارية الناجحة وشخصيته القوية ومفاوضاته مع المعيدين.  وكان لقائي الأول مع السيدة بربارة إلياس، حيث أبلغتني بأنني سأعمل في قسم الإنتاج والعلاقات، فقلت لها لا أرى علاقة بين دراستي وهذا القسم فقالت تكلمي مع الأستاذ عبد الباقي.  ففعلت.  وكان رده أنك لا تفهمين بالعمل.  وكم كان رأيه صحيحاً، ولا عجب فهو المدير العام الذي جمع بين مهابة الموظفين له ومحبتهم واحترامهم، وله الدور الكبير في توجيههم وتعزيز مكانة الشركة داخل العراق وخارجه.

 

كانت بعض المراسلات التي نعدها في قسم الإنتاج والعلاقات توجه إلى المدير العام، وأذكر أني لم أراعي وضع النقاط على التاء المربوطة فعاد الكتاب منقطاً بالأخضر من قبل الأستاذ عبد الباقي.  ومنذ ذلك الحين وأنا أعطي التاء المربوطة حقها من النقاط.  بعد ثلاثة أشهر من تعييني غادرنا الأستاذ عبد الباقي[2] ليكون مستشاراً في وزارة المالية في خطوة غير صحيحة من قبل المسؤولين في الدولة، تلك القرارات التي أودت بالعراق تدريجياً إلى الهاوية.

 

كلما أرى صور الدعوات الحالية لمسؤولي هذا الزمان أتذكر الحفل البسيط الذي أقامته الشركة في وداع الأستاذ عبد الباقي، وكنت أتولى التقديم.  وهنا التقيت الست سهير حسين جميل،[3] حيث وقفت بجانبي ونبهتني على وضع مناديل المائدة على حافة الصحن.  وبقيت تنبيهها في ذاكرتي كلما أقمت دعوة في منزلي.

 

إدارة الأستاذ بديع السيفي

 

تولى الأستاذ بديع السيفي، مؤلف كتاب التأمين علما وعملا، الذي قرأناه وتعلمنا منه، إدارة الشركة منتقلاً من الشركة العراقية للتأمين على الحياة.  قام بإدارة الشركة لبضعة أشهر.  أذكر في تلك الفترة عقد ندوة الشركة السنوية في الموصل.  كان الأستاذ بديع بسيطاً في علاقاته مع الموظفين وكان يهتم لسماع آراءهم، وقد حصل ذلك عند اختيار المواد الدعائية للشركة حيث استأنس بآراء بعض الموظفات في اختيار ألوان اغطية الطاولة التي تنوي الشركة تهيئتها لتوزيعها على المواطنين.

 

إدارة الأستاذ موفق حسن رضا

 

تولى الأستاذ موفق حسن رضا إدارة الشركة قادماً من مكتب شركة إعادة التأمين العراقية في لندن وامتدت إدارته من 1979 لغاية 1993.  ومما يفتخر به أن الهدف الأساسي للإدارات المتعاقبة أنصبَّ على تطوير أعمال الشركة وتعزيز مكانتها في الاقتصاد العراقي.

 

ففي زمن الأستاذ عبد الباقي ولنظرته المستقبلية لتوسع أعمال الشركة تمَّ شراء قطعة أرض لإنشاء بناية حديثة قرب عمارة الأمان، وبدأ البناء واكتمل في زمن الأستاذ موفق حسن رضا وتم تهيئتها بشكل قاعات متجاورة، وتم طلي مكاتبنا باللون الازرق بدلاً من اللون الرصاصي، وتم تصميم لوحات موحدة لفروع ومكاتب الشركة باللون الازرق صممتها الفنانة التشكيلية غادة عبد الرزاق حبيب.[4]  كان قسمنا الفني مجاوراً لقسم التخطيط بإدارة الدكتور سليم الوردي.

 

تطور عمل الشركة بشكل كبير واستجابت للتطورات الاقتصادية بدراسة إدخال تغطيات حسب الحاجة.  وأذكر أن أوليات دراسة مترو بغداد والتغطيات المطلوبة كانت مهيأة في القسم الفني إلا أن اندلاع الحرب مع إيران ألغى المشروع.  وساهمت الشركة بشخص الأستاذ موفق في تأسيس الصندوق العربي لتأمين أخطار الحرب[5] أثناء الحرب العراقية الإيرانية للحصول على أفضل الأسعار لأخطار الحرب.

 

كانت الشركة تعاني من زخم العمل في بداية كل سنة في إصدار وثائق التأمين الإلزامي من حوادث السيارات[6] فتم دراسة الموضوع بالتعاون مع وزارة النفط، وتمت إضافة أقساط التأمين الإلزامي على البنزين، وبها أصبحت كل السيارات مؤمنة اتوماتيكياً ولا يضيع حق مصاب لإغفال تأمين السيارة.  يؤسفني أنى لا أتذكر كل الانجازات ولكن الشركة كانت في تطور مستمر وأي موضوع يستجد تشكل لجنة لدراسته وتقديم توصيات بشأنه.  عندما يحب العاملون عملهم والمكان الذي يعملون فيه يقدمون كل جهدهم لتطويره، وهذا ما كان يحصل في الشركة حسب قناعتي.  وهنا اتذكر مسلسل السيد سلفرج[7] Mr Selfridge والمتجر الذي يحمل اسمه في لندن وكيف ساهم العاملات/العاملون بتطويره وكان صاحب المتجر السيد سلفرج سعيداً بهم.

 

بعد سعي حثيث انتقلت للعمل في القسم الفني وهو خزان الأفكار، كما يسميه الأستاذ موفق، لأن هناك فرصة للاطلاع على معاملات متنوعة غير تقليدية، فهنا تتم مناقشة شروط الوثيقة، وهنا تتم دراسة مطالبة بتعويض غير واضح، وهنا يتم إدخال تحديثات وثائق التأمين التي تحدث عالمياً، وهنا نطّلع على المطبوعات التي تنشر من قبل الشركات العالمية والاونكتاد، وهنا نتعرف على البواخر التي تعرَّضت للخسارة العامة ولكل منها قصة.  كان التعاون سائداً في ذلك الزمان.  هناك نقاشات في تعويضات متنوعة وفي الأمور التأمينية الأخرى.  وكنا نشعر بسعادة لإنجاز عملنا بدقة فالحرص على الدقة وسمعة الشركة خاصة مع الخبراء الدوليين كما في الخسارة العامة في تعويضات التأمين البحري.  كنا فريقاً متجانساً بإدارة المرحومة سهير حسين جميل، هشام بابان، أحلام البحراني، مايكل سامي، شهاب العنبكي، شروق عدنان، وبري فاتح، وبديعة جاسم، وسميرة عبد الكريم.  وكنا ندقق لآخر دقيقة من الدوام الرسمي التلكسات مع الآنسة هناء التي ترسل التلكسات.  وهنا أود أن أذكر أن كاتبات الطابعة كنَّ في بعض الأحيان يصححن الكتب التي نحررها بفضل طول تجربتهنَّ في قراءة الكتب والتركيز في العمل.

 

إدارة الأستاذ فؤاد عبد الله عزيز

 

استلم ابن الشركة التي نشأ فيها السيد فؤاد عبد الله عزيز إدارة الشركة بعد مغادرة الأستاذ موفق لها، وكان ودوداً مع الجميع، وكان له تصوراته في تطوير الشركة وفعلاً ألفَّ لجنة تطوير الإجراءات في الشركة حيث كنا ندرس إجراءات العمل في الأقسام التي تعاني من البطء في أداء مهمات العمل وخاصة التعويضات لتحسين الخدمة المقدمة.  كان قسم تعويضات الحريق أول قسم تمت دراسة الإجراءات فيه.  بعد الدراسة المستفيضة كنا نقدم مقترحاتنا لاختصار هذه الإجراءات لما يخدم تسريع العمل والاستجابة لمطالب حملة وثائق التأمين.

 

لم اعتقد أنى سأغادر الشركة بشكل مبكر فقد كنت مسكونة بالتأمين ودائماً أفكر بالملفات التي أدرسها حتى وأنا أعد العشاء للعائلة لدرجة أن ابنتي الصغيرة كانت تقول لي عندما أكبر سأعمل في التأمين لكن الحصار اللعين الذي جاء نتيجة دخول الكويت، وهو القرار الذي قصم ظهر العراق وكسر حلقة المواطنة داخل الكثيرين، جعل الحياة لا تطاق وأصبح التنقل للوصول للشركة مشكلة كبيرة فاضطررت إلى تقديم طلب على التقاعد بعد خمسة عشرة سنة، وأركز على رعاية الاطفال.  وهنا أذكر أن السيد فؤاد لم يوافق على طلبي للتقاعد لمدة ستة أشهر وبعد إصراري غادرت الشركة في تشرين الثاني 1993 وأنا أبكي.

 

إدارة الأستاذ محمد حسين جعفر

 

غادر السيد فؤاد الشركة في عام 1999، على ما اعتقد، وخلَّفه ابن الشركة المرحوم محمد حسين جعفر، واعتقد أن اختياره تمَّ بالانتخاب من قبل الموظفين.  كنا نلتقي معه عائلياً حيث أنه عمل في القسم القانوني ابتداءً وكان زوجي، أسعد سعد برهان الدين يعمل معه، ثم أصبح مديراً للقسم القانوني.  في عام 2000 عرض عليَّ العودة إلى الشركة وفعلاً عدت للعمل في فرع التأمين البحري حيث نُقلت ملفات الخسارة العامة إلى الفرع وكان العمل قد نشط في الفرع بعد تطبيق مذكرة الغذاء والدواء مقابل النفط.  كان له يرغب في تطوير عمل الشركة سيما قسم الحاسبة الالكترونية، وكان يطمح أن يتعلم كافة العاملين العمل على الحاسبة.  كان الموظفون ينتقدونه في تدقيق الكتب وأوامر الصرف لعدة مرات.  وهذا، حسب رأيي، يحسب له وليس عليه إذ كان يتوخى الدقة والنزاهة.[8]

 

بعد مضي بضعة أشهر أصيب ابني البالغ 14 سنة بمرض خطير فتركت العمل نهائياً في الشركة.  وهنا أشير إلى أن جو العمل لم يكن مثلما كان في الثمانينيات بسبب تطبيق نظام الحوافز للموظفين على أساس نقاط أداء الموظف، وهنا منشأ الاعتراضات ولماذا فلان نقاطه أكثر.  لقد أثرَّ الحصار كثيراً على نفسية الموظفين لأنهم جربوا ضيق المعيشة وصعوبة توفير الطعام لعوائلهم.  لقد كان الحصار قاسياً جداً.  لا أنسى موقف الزملاء والاصدقاء ووقوفهم معي في محنة مرض ابني حيث حضروا معي في المستشفى وانتظروا ساعات العملية الطويلة.  الحمد لله على لطفه بي الذي منحني القوة في تخطي مراحل العلاج القاسية وتكللها بشفائه.

 

بعد الاحتلال بفترة نُقل ابو أسيل (محمد حسين جعفر) إلى دائرة عقارات الدولة ولم يحب العمل فيها، حسب ما كان يبلغنا به، فأحال نفسه على التقاعد، وبعدها بفترة قليلة صُعقنا بمقتل هذا الانسان النزيه والنظيف اليد واللسان والبار بوالدته إلى آخر يوم في حياتها فخسرنا صديقاً عزيزاً.

 

المرأة في الشركة

 

احتلت المرأة مكانة متميزة في الشركة فالست بثينة حمدي كانت مديرة قسم الحسابات ويبدو أنها كانت معروفة على نطاق خارج الشركة بكفاءتها وحسن خلقها.  فالمرأة الكفوءة تتقدم لتتبوأ الإدارة.  السيدة سهير حسين جميل، كانت مديرة القسم الفني، واتذكر أن الاستاذ موفق حسن رضا كلفها بإدارة القسم وهي غير راغبة وتؤكد انها قانونية وليس لها تجربة في الأمور الفنية ولكنها اثبتت جدارتها في هذا القسم.  وبالرغم من شدتها إلا انها كانت تحب موظفيها وتعطيهم حقهم وتمتدحهم دون ان يعلموا.  وكانت تقضي الربع ساعة الأخيرة من الدوام معنا في القاعة ونتحدث بشتى الامور.  وقد عملت لنا دعوة في منزلها، وكان من أجمل البيوت التي دخلتها تصميما وتأثيثا حيث كانت مولعة بالأشياء القديمة.  السيدة هدى الصفواني كانت مديرة الطيران معروفة بابتسامتها اللطيفة.  أدارت القسم بنجاح لسنين طويلة وكانت علاقتها بموظفيها نموذجاً جميلاً حيث كانت تدعوهم إلى منزلها كل أسبوع حسب ما سمعت.

 

خصوصيات أخرى للعمل في الشركة

 

أعود إلى خصوصية العمل في الشركة فقد كانت توفر الفرصة للمنتسب الجديد والقديم للتعلم المستمر من خلال الدورات التي تقيمها داخل الشركة أو بالتعاون مع جهات اخرى كمعهد تطوير اللغة الانكليزية وشركات إعادة التأمين كالسويسرية وميونيخ ري.  وما ان باشرنا العمل في الشركة نظمت لنا دورة ابتدائية في التأمين تعرفنا فيها على أنواع التأمين والمواضيع ذات العلاقة وفيها تعرفنا على قواعد السلوك الوظيفي حيث كان الدكتور سليم الوردي محاضراً علينا ومن المعتاد أن يسألنا ويسمع لكل آرائنا ومن ثم نتوصل إلى تعريف كامل.  وما زالت عبارة “عملي هو سندي” التي ذكرها الأستاذ بديع السيفي ملتصقة بذاكرتي وحسبي أنى طبقتها في حياتي الوظيفية.  ومن ثم اشتركنا في دورات متقدمة في التأمين.

 

في الشركة مكتبة زاخرة بالكتب التأمينية والنشرات التأمينية ورسائل الدراسات العليا، وكم كان جميلاً زيارة المكتبة واقتناء الكتب من العزيزتين سعاد البيطار ورابحة الشونة حيث كانتا تقدمان لنا كل ما يساهم بتطوير معلوماتنا، وإذا تقدمنا من خلال القسم بطلب شراء كتاب حديث نجد الكتاب موجوداً بعد فترة قليلة.

 

كانت الشركة تعقد ندوات تأمينية سنوية في محافظات العراق ويشارك بها جهات عديدة وتناقش فيها مواضيع متنوعة لها علاقة بالتأمين كما تساهم في نشر الوعي التأميني.  كما كانت الشركة تستقدم الخبراء من شركات الإعادة الأجنبية لعقد ندوات قصيرة بخصوص وثيقة معينة أو موضوع معين.  وشجعت الشركة الموظفين على تعلم اللغة الانكليزية، فبعد ان باشرت عملي أخذت الشركة على عاتقها تسديد اقساط تعلم اللغة الإنكليزية في المعهد البريطاني.  وكانت تشجع الموظفين على إكمال دراساتهم في الدبلوم العالي للتأمين في جامعة بغداد.  والأجيال التي سبقتنا أتيح لها دراسة كورسات معهد التأمين القانوني في لندن حيث كان هناك مركز امتحاني ألغي لاحقاً.  قد تكون الحرب سبب إلغاء المركز، لعن الله من أشعلها.

 

في سنة 1982 افتتح مركز التدريب المالي والمحاسبي الذي تولى عقد الدورات التدريبية ومنها التأمينية وكانت أول دورة لمدة ستة أشهر وافتتحت من قبل الأستاذ موفق حسن رضا حيث وعد المتفوق الأول بترشيحه لإيفاد إلى شركة إعادة التأمين السويسرية.  وكنت المحظوظة التي رشحت لهذا الإيفاد.  واتذكر أن وزارة المالية طلبت مرشحاً آخر وقد يكون السبب وراء ذلك هو عدم انتمائي لحزب البعث إلا أن إصرار الأستاذ موفق جعلني أكون المرشحة الوحيدة.

 

ذهبت الى سويسرا واستمتعت بالمواد التي درسناها وكورس التدريب على القيادة Action Centred Leadership الذي كان بإدارة المحاضر الإنجليز أريك جيلفز Eric Jelfs.  وكان المحاضرون يتعاملون معنا بكل احترام وخصوصاً لكوننا عراقيين ويعرفون مدراءنا العامين ويذكرون الأستاذ عبد الباقي رضا والأستاذ موفق حسن رضا لإدارتهما المهنية العالية.

 

أودّ ان أضيف أن السيدة آمال محمود شكري كانت ضمن دورة المرأة في التأمين هذه الإنسانة الراقية التي تعمل بصمت وهدوء حيث انضمت الى شركة التامين الوطنية في أواخر ثمانينات القرن المنصرم عندما سمح لشركة التأمين الوطنية ممارسة التأمين على الحياة، فأسست فرع التأمين على الحياة وقامت بإدارته بكل مهنية.  وهي أصلا خريجة بريطانيا وكانت قد درست كورسات معهد التأمين القانوني في رياضيات التامين على الحياة.  تركت الشركة في أواخر التسعينيات إلى الاْردن حيث طلبتها احدى شركات التامين في الاْردن، وما زالت تعمل لحد الان.  وقد طلبت منها أكثر من مرة كتابة ذكرياتها عن التأمين حيث انها تجمع تجربتين: التأمين على الحياة والتأمينات العامة.

 

روابط الإخاء

 

كنت محظوظة فعلا بالعمل في شركة التأمين الوطنية حيث ربطتني اخوة جميلة اعتز بها واستمرت بعد مغادرتي لها.  فأول مدير عملت معه كان المرحوم أمين الزهاوي، نِعْمَ الاخ النصوح والمرشد سواء في العمل او السلوك الشخصي.  وكانت علاقته طيبة مع الجميع وقد أحال نفسه إلى التقاعد مبكرا، وبقينا نزوره مع عائلته، وبقيت غصة موته المفاجئ بعد انتهاء العدوان على العراق سنة 1991 حيث لم نستطع الوقوف مع عائلته لصعوبة التنقل وعدم توفر بنزين للسيارات حيث كنا نعاني كثيرا للوصول إلى الشركة.  وكنت محظوظة بأخوة دكتور سليم الوردي حيث كنا نزوره دائما ونقضي وقتا ممتعا مع العزيزة الطيبة أم زيد وزيد وليلى.  وكم تذوقنا النارنج والريحان من حديقتهم وبقينا إلى ما بعد الاحتلال حيث أصبح التزاور صعباً ومن ثم تركنا العراق إلى غير رجعه ولكن بقينا على اتصال دائم وفي اخر مكالمة أخبرني بخطبة العزيزة ليلى وكان سعيدا، وفوجئنا بعد أشهر بوفاته.

وجدت في أحلام البحراني في الشركة، وانا البنت الوحيدة بين أربع صبيان، نعم الاخت المُحبة الصادقة والتي لم تبخل يوما بنصيحة أو مساعدة أو التمنيات الطيبة لنا أو تقديم المعلومة.  لقد حظيت بالكثير من الصداقات الحقيقية وكان عملنا في القسم الفني وتعاوننا ذكرى جميلة لا تنسى.  وما زلت اتصل بالبعض واتلقى التحيات من الاعزاء حليم عبد الفتاح في قسم الأفراد وآمنة المنقيب.  لا أنسى أختي التي التقيتها في قسم الإنتاج والعلاقات عفيفة دارا، الإنسانة الطيبة؛ كم قضينا أياماً حلوة وأياماً حزينة، فبكيت لأجلها وسعدت أحياناً وهي كذلك، وتفتقدني وافتقدها.

 

كانت الصداقة حقيقية بين مدراء الأقسام أيضاً وبما يخدم العمل في الشركة وتطويره، واذكر هنا أنى كنت احاول الانتقال من قسم الإنتاج والعلاقات إلى أحد الاقسام الفنية لتعلم التأمين وكان السيد فؤاد عبد الله يختار الكادر لفرع التأمين الزراعي المزمع تأسيسه فطلبت إليه ضمي إلى هذا الفرع فرد بهدوء لا أستطيع أن اطعن صديقي أمين الزهاوي لأنه كان يعرف تمسكه بي، لكن فكرة تعلم التأمين كانت مسيطرة علي إلى أن تم نقلي إلى القسم الفني.  وعملت ابتداء بإدارة الدكتور هشام بابان الذي كان عائداً من انكلترا بعد حصوله على الدكتوراه في القانون وقد استفدت كثيراً من لغته الانكليزية ومطالعاته والكتب التي يعدها حيث كنت اقرأها.  وقد غادرنا السيد هشام إلى البحرين حيث كانت هناك شركة مشتركة مع البحرين ليكون مديراً عاماً لها.  وعملت مع السيد مايكل سامي صاحب الخلق والطيبة والأناقة.

 

العمل في الشركة الأهلية للتأمين

 

في عام 2004 طلب السيد مايكل من إحدى صديقاتي في الشركة الاتصال بي وكنت في حينها قد اعتزلت كل شيء ونسيت التأمين ولم أرغب بالاتصال إلا أن إلحاح عائلتي دفعني إلى زيارته في مقر الشركة الأهلية للتأمين حيث فاتحني بالعمل في الشركة وقلت في حينها أنى نسيت التأمين نتيجة الظرف الصعب الذي مررت به.  فأكد أنه سيساعدني.  وفعلا عدت إلى التأمين مرة اخرى، وحال جلوسي على المكتب بدأت أتذكر، ولو أن عملي هنا اختلف عن عملي السابق، فكنت أعد جداول للإعادة وكذلك ملفات التأمين على الحياة.  وبقيت سنة في هذه الشركة.  وهنا اذكر السيد متي هرمز الذي لم يبخل علي في المساعدة حيث كان دقيقاً جداً.  مدير الشركة، السيد محمد الكبيسي، كان كريما معي إلى حد كبير.  كان موقع الشركة قريباً إلى حد ما لمسكن اهلي مما سهّل علي إدامة الاتصال بهم.

 

كان الأمريكان يجتمعون في مقر الشركة لدراسة وضع التأمين في العراق وتوصلوا إلى تقسيم الشركات العامة إلى شركات متخصصة.  وقتها نُشرت مقالة في جريدة المدى كانت ضد هذا التقسيم للسيد مصباح كمال[9] اعقبتها، حسب ما أتذكر، مقالة للسيد فؤاد عبد الله.  قد تكون المقالتان عرقلت وألغت فكرة التقسيم أو لأن التامين لا يدر أموالا إذا تم تخصيصها كالمعامل الانتاجية.

 

حال انتقال الشركة الأهلية للتأمين إلى شارع السعدون وتدهور الوضع الأمني دون استمراري بالعمل حتى بعد أن تكرم علي السيد محمد الكبيسي باقتصار دوامي على ثلاثة ايام بالأسبوع.  لم أستطع الاستمرار.  وهكذا تركت الشركة بعد سنة، وهي تجربة اعتز بها واعادتني إلى الحياة.  وهنا أقدم تقديري للسيد محمد الكبيسي والعزيز مايكل سامي والسيد متي أينما كان.

 

كل التقدير والاحترام لإدارات الشركة التي عملت تحت توجيهاتها والرحمة للأخوة والأخوات الذين غادروا إلى دار الحق.

 

اعتذر من كل الأصدقاء الذين التقيتهم بالتأمين ولم أذكر اسماؤهم وكانت صحبتنا حلوة ولهم كل التقدير والتمنيات الطيبة.

 

كان العمل الوظيفي عموما ممتعاً بالرغم من أنه لم يخلو من المنغصات ويبقى مع ذلك ذكرى طيبة.  أتمنى أن تحظى شركة التأمين الوطنية بإدارات كفؤة همهما الأول تطويرها وتعزيز مكانتها في الاقتصاد العراقي.

 

أود أن أذكر هنا حدثاً في الشركة ارتبط بزيارة وزير المالية لشركة التأمين الوطنية في صباح أحد الأيام في الثامنة تماماً حيث سحبت دفاتر التوقيع وبسبب ذلك لم يتسن لعدد كبير منا توقيع حضورنا، ومن ثم تقرر توجيه عقوبة للجميع حتى مدراء الأقسام.  وبقينا نترقب الأمر الإداري طوال اليوم والألم يعتصرنا لأن ملفنا سيتضمن عقوبة ونحن نسعى بجد للحصول على كتب الشكر والتقدير.  في نهاية الدوام صدر الأمر الإداري فتلقيناه بلهفة فلم نجد اسماءنا ضمن الأمر مع اننا لم نوقع الحضور، فاستفسرنا من القسم الإداري فيما إذا كان هناك ملحق للأمر فنفوا ذلك واكتشفوا أن صفحة القسم الفني قد التصقت بصفحة أخرى ولهذا لم نجد اسماءنا.  كم كانت سعادتنا كبيرة فقد بقيت ملفاتنا بدون عقوبة.  وبعد فترة رفعت العقوبة عن المدراء لأنها كانت قاسية فذهبت مع الدكتورة سلوى زكو لشراء الخبز والخضرة لتوزيع خبز العباس بمناسبة رفع العقوبة عن أحد الزملاء حيث كانت قد نذرت ووفينا النذر.  كم كانت الحياة جميلة ومليئة بالطيبة.

 

العمل التأميني في كندا

 

بقي التأمين في تفكيري عندما وصلت إلى كندا لكني في هذه المرة غامرت ودرست الاستثمار في الصناديق التبادلية mutual funds والتأمين على الحياة، فكنت أقابل الزبائن واعرض عليهم خططاً للاستثمار.  فهنا عندما يولد الطفل ممكن البدء بخطة توفير له/لها حيث يتم استثمار مبلغ شهري معين حسب دخل العائلة ليتراكم ويساعد الطفل في دراسته بالجامعة بدل الاقتراض من الحكومة.  وهنا يقوم الموظف بعد بدء العمل بسنة ببدء خطة للتقاعد إضافة إلى التقاعد الكندي لكي يعيش حياة مرفهة بعد التقاعد حيث ان التقاعد الكندي لا يكفي لحياة معقولة.  وحتى التأمين على الحياة يتخذ أشكالاً عديدة وهو استثمار أيضاً ويضمن عدم ترك العائلة في حاجة عند وفاة رب العائلة.  وهناك طبعاً تأمين عند حصول حادث يمنع الشخص عن العمل، وهناك تأمين ضد الأمراض الصعبة.  تركت العمل لمساعدة العائلة، وعندما فكرت بالعودة للعمل اكتشفت أن إجازتي للعمل بهذا المضمار قد انتهت لأني توقفت فترة من ممارسته.

 

آذار-نيسان 2018

 

* مسؤولة شعبة الخسارة العامة في التأمين البحري سابقاً، شركة التأمين الوطنية، بغداد

 

[1] كانت السيدة بثينة حمدي مديرة الحسابات في الإدارة العامة لشركة التأمين الوطنية لسنوات عديدة، وكانت تحظى باحترام متميز من مديرها العام ومن المدراء والموظفين.  كانت صارمة في تطبيق القواعد المحاسبية.

 

[2] كان الأستاذ عبد الباقي رضا المدي العام لشركة التأمين الوطنية في الفترة من 1966 لغاية 1978.

[3] أنظر: سحر الحمداني، “في ذكرى السيدة سهير حسين جميل،” مرصد التأمين العراقي.

https://iraqinsurance.wordpress.com/2012/11/02/remembering-suhair-hussein-jameel/

 

[4] خريجة دار التراث الشعبي، قسم الرسم، بغداد، 1974- 1975.  انتقلت إلى لندن وأقامت فيها سنة 1990.  قتلت في منزلها في لندن في ظروف غامضة في أيلول 2010 لم تستطع الشرطة البريطانية الكشف عن قاتليها أو الدافع وراء القتل.

 

[5] بدأت اجتماعات تأسيس الصندوق في بغداد في آب 1979 وتتوجت بالاتفاق النهائي بين شركات التأمين وإعادة التأمين العربية بعد اجتماعات دبي في تموز 1980.  وكان للدكتور مصطفى رجب دور مهم في تأسيس الصندوق إلا أن هذا الدور لم ينل ما يستحقه من اهتمام وتوثيق.

 

[6] كان ذلك بموجب قانون التأمين الالزامي من حوادث السيارات رقم (52) لسنة 1980.  وحسب آخر تعديل سنة 2016، أضيفت المادة التالية للقانون:

 

المادة – 4 – أولا: يستوفى قسط التأمين الإلزامي على المركبات بنسبة (0.003) ثلاثة بالألف من مجموع مبالغ المبيعات الفعلية لشركة توزيع المنتجات النفطية من البنزين وزيت الغاز عدا المجهز إلى وزارة الكهرباء وتودع المبالغ لدى الشركة لحين توزيعها.

 

ثانيا: توزع المبالغ المتحققة لدى شركة توزيع المنتجات النفطية بعد استقطاع حصتها البالغة نصف بالمائة من هذه الزيادة بواقع (50%) إلى شركة التأمين الوطنية و (50%) إلى الموازنة العامة للدولة وتسدد بأقساط ربع سنوية.

 

[7] مسلسل سلفرج الإنكليزي (10 حلقات عن حياة هاري غوردن سلفرج، مؤسس المتجر الذي يحمل اسمه، في الفترة 1908-1928) يوضح علاقة العاملين وصاحب المتجر المبنية على حب العمل والتطور وهي التي جعلت هذا المتجر يحتل مكانة متميزة في بريطانيا.

[8] لتقييم شخصيته وعمله أنظر: أسعد سعد برهان الدين وسحر الحمداني، “في ذكر المرحوم محمد حسين جعفر، مدير عام شركة التأمين الوطنية،” مرصد التأمين العراقي:

https://iraqinsurance.wordpress.com/2017/04/11/remembering-muhammad-hussain-jafar-1946-2001/

 

[9] تصدى السيد مصباح غازي عسكر كمال بمقالة تفصيلية احتلت نصف صفحة في جريدة المدى لتقسيم شركة التأمين الوطنية المقترح من قبل شركة أمريكية وأسعدني غض النظر عن هذا الموضوع.

Academic and Professional Study of Insurance in Iraq

الدراسة التخصصية الأكاديمية للتأمين في العراق

 

 

مصباح كمال

 

نشرت هذه الورقة أصلاً في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

Actuarial and Insurance Studies in Iraq

 

تقديم

 

ترجع خلفية هذه الورقة إلى سؤالين أثارهما معي السيد مصطفى رشيد الهاشمي، محرر الصفحة الاقتصادية لجريدة الصباح: “لماذا لم يخصص ضمن مناهج الدراسات التخصصية الاقتصادية مادة للتأمين؟  باعتقادكم هل ان وجود مثل هذه المناهج في الدراسات الاكاديمية من شأنه ان يجدد دماء قطاع التأمين لاسيما إذا ما تم توظيف المتفوقين في مادة الرياضيات والرياضيات الاكتوارية؟”

 

12 أيلول 2017

 

استفدت من جوابي المختصر على هذين السؤالين، بعد تنقيحه والإضافة إليه، في كتابة هذه الورقة.

 

غياب التأمين في مناهج الدراسات التخصصية؟

 

1       لماذا لم يخصص ضمن مناهج الدراسات التخصصية الاقتصادية مادة للتأمين؟

 

إن الجواب عند من ينظم ويقرر مناهج الدراسات التخصصية، وبدلاً من التكهن نقدم بعض الملاحظات ذات الطابع التاريخي تلقي قليلاً من الضوء على ما كان موجوداً في مجال الدراسات التأمينية.

 

ليست لدينا معلومات تفصيلية عن مناهج تدريس مادة التأمين في المؤسسات الأكاديمية العراقية.  هناك دراسة جيدة بعنوان “الدراسة الأكاديمية للتأمين في العراق” للمرحوم مروان هاشم القصاب يمكن الرجوع إليها للتعرف على جوانب للموضوع.[1]

 

لقد كانت مادة التأمين حاضرة وبدرجات متفاوتة في مناهج دراسة الاقتصاد منذ خمسينيات القرن الماضي في كلية التجارة وفيما بعد في كلية الإدارة والاقتصاد، وكذلك في مؤسسة المعاهد الفنية/معهد الإدارة الرصافة/قسم التأمين.

 

ومن المفيد أن نذكر أن فترة ازدهار قطاع التأمين في سبعينيات القرن الماضي شهد تعاوناً مثمراً بين المؤسسة العامة للتأمين الملغاة وبين جامعة بغداد تمثَّل في تأسيس الدراسة الأكاديمية للتأمين في قسم الدراسات العليا في كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة بغداد.  وللتعريف بهذه الدراسة نقتبس من كراس كتبه د. جمال عبد الرسول غانم:

 

تعتبر دراسة الدبلوم العالي بإدارة التأمين أعلى دراسة تخصصية في التأمين في العراق.  مدة الدراسة فيها سنتان تقويميتان، ويتخلل الدراسة تدريب عملي في قطاع التأمين العراقي ومنشآته، وتغطي الساعات النظرية كل فروع التأمين إضافة إلى بعض الساعات لمواد غير أساسية (غير تأمينية) تفيد رجل التأمين في عمله. [2]

 

ويضيف د. غانم:

 

تتكون البحوث من جوانب نظرية مع دراسة تطبيقية في قطاع التأمين العراقي، وقد أشرف على تلك البحوث أساتذة هم في معظمهم يحتلون مواقع قيادية في قطاع التأمين العراقي، وعليه فإن بحوث الدبلوم العالي بإدارة التأمين تشكل مصدراً هاماً للمعنيين بالتأمين.[3]

ونكتشف من فهارس البحوث بأنها قد توزعت على التأمين البحري-بضائع، التأمين البحري-سفن، التأمين من الحريق، التأمين على الحياة، التأمين الهندسي، تأمين السيارات-التكميلي، تأمين السيارات-الإلزامي، تأمين الطيران والفضاء، التأمين من الحوادث، التأمين الزراعي، تخطيط التأمين، الإدارة المالية للتأمين، إدارة الخطر، اقتصاديات التأمين، إعادة التأمين، ومواضيع تأمينية متفرقة.

 

استمرت دراسة الدبلوم العالي للفترة 1975-1982:

 

تخرجت الدورة الأولى لهذه الدراسة عام 1975 وآخر دورة تخرجت عام 1982 وتوقف القبول في هذه الدراسة بعد ذلك.[4]

 

لماذا توقف القبول في هذه الدراسة؟  لم نعثر على معلومات للجواب على هذا السؤال لكننا نجازف بالقول إنه بعد تخرج 74 طالباً يحملون شهادة الدبلوم العالي في التأمين لم يعد استمرار هذه الدراسة مناسباً فقد كان العدد كافياً لملء المواقع الإدارية والفنية الكبيرة في قطاع التأمين، وكانت وقتها يضم ثلاث شركات حكومية هي شركة التأمين الوطنية وشركة التأمين العراقية وشركة إعادة التأمين العراقية.  تخريج أعداد جديدة من حملة هذه الشهادة كان سيكون فائضاً عن حاجة الشركات، وربما يؤدي إلى تدهور معنويات بعض حاملي الشهادة لعدم توفر الموقع المناسب لاختصاصهم.

 

وهنا ينهض سؤال: هل أن قطاع التأمين بحاجة إلى حملة الشهادات العليا في التأمين أم إلى أشخاص على درجة جيدة من التعليم ويتمتعون بمعارف ومهارات مهنية تفيد الأداء اليومي لأعمال الشركات بكفاءة؟[5]  لقد ساهمت مؤسسة المعاهد الفنية، معهد الإدارة/الرصافة الذي ضمَّ قسماً متخصصاً بالتأمين في تكوين كادر وسطي للعمل، بعد التخرج، في شركات التأمين أو أقسام التأمين في شركات القطاع العام وبعض الوزارات المعنية بالصناعة والطاقة.  يكتب المرحوم مروان القصاب بهذا الشأن من موقف نقدي:

 

كان لابد من رفد كادر وسطي من الموظفين المتعلمين أكاديميا في شركات التأمين أو أقسام التأمين في الشركات الحكومية مثل قسم التأمين في شركة الخطوط الجوية العراقية أو شركة ناقلات النفط أو وزارة التجارة … الخ لتغطي حاجتها من الموظفين على إدارة خدمة التأمين كمؤمن أو مؤمن له.

 

وبالرغم من ان هذا المعهد قد خرج أكثر من 2400 طالب خلال ثلاثة عقود فهو لم يحقق هدفه الذي ذكرناه أعلاه.  ويبدو ان معظم الطلبة الملتحقين بهذا المعهد من أصحاب المعدلات المنخفضة والذين لا يملكون خيارات متعددة ولم تكن الرغبة في التعلم هي هدفهم بل إبعاد تأريخ الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية للطلبة وكخيار أفضل من الجلوس في البيت بالنسبة للطالبات ما عدا قليل منهم شق طريقه في هذا المجال عمليا وبنجاح وخصوصا في الدورات الأولى.

 

ويبدو ان المختصين في اقتصاديات التعليم والتخطيط وجدوا ان التكاليف المدفوعة والجهد المبذول لإعداد هؤلاء الطلاب لا يوازي الفائدة والمردود المتوقع منهم.  وبدلا من مناقشة هذه المشكلة بشكل جدي من قبل المعنيين بالموضوع تم إغلاق هذا القسم ودمجه مع الأقسام المالية والمصرفية.  (تم غلق القسم عام 2008).[6]

 

وقد تمَّ إعادة فتح فرع التأمين في المعهد العالي للدراسات المالية والمحاسبية في جامعة بغداد أمام طلبة الماجستير.  ويقوم في الوقت الحاضر عدد من الطلاب والطالبات بمتابعة دراساتهم للماجستير في مادة التأمين في هذا المعهد وبعض الجامعات.[7]

تخصصات تأمينية مفقودة

 

2       هل ان وجود مثل هذه المناهج في الدراسات الاكاديمية من شأنه ان يجدد دماء قطاع التأمين لاسيما إذا ما تم توظيف المتفوقين في مادة الرياضيات والرياضيات الاكتوارية؟

 

من المؤسف أن العديد من خريجي الدراسات العليا للتأمين قد هاجروا خارج العراق أو تقاعدوا عن العمل، ولذلك فإن التراكم المعرفي الجماعي في مجال التأمين تأثر سلباً بغيابهم.  وحسب المعلومات القليلة المتوفرة لدينا فإن مناهج دراسة التأمين لم تتوسع لتشمل دراسة إدارة الخطر أو الرياضيات الاكتوارية.  هذين الموضوعين، إدارة الخطر والعلوم الاكتوارية، يمكن لهما أن يدخلا مقترباً جديداً للتعامل الأكاديمي والتطبيقي مع التأمينات العامة وتأمينات الحياة وكذلك إعادة التأمين.  ولكي لا يُساء فهمنا فإن موضوع إدارة الخطر قد تسلل إلى الجامعات العراقية في ثمانينيات القرن الماضي[8] لكنه ظلَّ أسيراً لفهم ضيق له وحصره ضمن الإطار التأميني.  كما أن العلوم الاكتوارية هي الأخرى لم تمتد لتشمل رياضيات التأمين على الحياة، والاحتياطيات المختلفة التي تحتفظ بها شركات التأمين في فروع التأمين المختلفة.  لقد أوفدت شركة التأمين الوطنية عدداً من موظفيها لدراسة العلوم الاكتوارية في المملكة المتحدة لكنه ليس معروفاً إن قام هؤلاء بهذه الدراسة فعلاً أم تحولوا لدراسة فروع علمية أخرى.  (أنظر الملحق).

 

ليس لدينا شك بأن وجود خبير اكتواري صاحب معرفة علمية وتدريب عالٍ في شركات التأمين يمكن أن يشكل نقلة نوعية في عمل هذه الشركات.  على سبيل المثل، يمكن التقليص من الركون إلى التجربة والخطأ في تحديد احتفاظات شركة التأمين، والاستفادة من هذه المعرفة المتخصصة، خارج قطاع التأمين، في دراسة التوقعات المستقبلية، والتغيرات في التركيبة السكانية، وصناديق التقاعد والضمان، واستثمارات الدولة وغيرها.[9]

 

يمكن النظر إلى موضوع الدراسة الأكاديمية للتأمين، وكذلك التدريب المهني المتواصل، على أنه جزء من عملية أو ميل لتحويل مؤسسة التأمين، كمؤسسة مفتوحة يمكن أن يعمل فيها أي شخص يحمل شهادة في العلوم الطبيعية والإنسانية وغيرها، كما هو الحال في الوقت الحاضر، إلى مؤسسة شبه مغلقة، في المدى الطويل، يقتصر العمل فيها على من له تخصص نظري أو عملي في التأمين أو ما يتعلق به.  وهذا الميل أو العملية هو ما يجري التأكيد عليها في أسواق التأمين المتقدمة، من خلال التدريب المهني المستمر للعاملين والعاملات وغيره، لإضفاء الصفة المهنية الاحترافية على العمل في قطاع التأمين.

 

ومع ذلك فإن قطاع التأمين لا يمكن له أن يستغني عن تخصصات أخرى كالعلوم الطبية والاكتوارية في التأمين على الحياة، والهندسة والإحصاء وخبراء الاستثمار والعاملين في إدارة الأفراد وتكنولوجيا المعلومات والحقوقيين وغيرهم.  ولذلك نشهد أن شركات التأمين وشركات وساطة التأمين تضم في كوادرها من درس التاريخ أو الفلسفة أو الجغرافية أو اللغة السويدية أو الروسية لكنه تدرَّب ليصبح “أستاذاً” في ممارسة الفرع التأميني الذي اختص به.

 

اعتماداً على معطيات واقع النشاط التأميني في العراق في الوقت الحاضر يمكن القول بأن التحول المُرتجى (تجديد دماء قطاع التأمين) سيستغرق زمناً طويلاً ما لم نشهد تطوراً كبيراً في حجم أعمال التأمين المكتتبة (مليار دولار على الأقل خلال سنة أو سنتين مع زيادة مدروسة لرأسمال شركات التأمين)، وفي استيعاب التأثيرات التكنولوجية الرقمية الهائلة التي تتسلل بقوة في إدارة المصانع والخدمات وما تجرّه من اختلالات في عمليات الإنتاج، لأسباب داخلية أو خارجية، وتعقيدات في التعامل مع مطالبات التعويض الناشئة عنها.  إضافة إلى ذلك، من الضروري تغيير سياسة الاستخدام في شركات التأمين العامة (وهي رب العمل الأكبر في قطاع التأمين) والتخلص من العمالة الفائضة، غير المنتجة، فيها والموجودة لأسباب غير فنية.

 

وفي تقديرنا، هناك إمكانيات بشرية واعدة في العراق، رغم قلتها وتناثرها، بحاجة إلى عناية وتطوير والاستفادة منها لوضع أسس التحول في دراسة التأمين في المؤسسات الأكاديمية والمهنية ولوضع برامج للتدريب المهني.  نخلص من هذا إلى أن حال مناهج دراسة التأمين يعكس الواقع الحقيقي للنشاط التأميني، ودليلنا على ذلك هو التطور النوعي في دراسة التأمين في حقبة ازدهار التأمين في سبعينيات القرن الماضي، والتدريب المهني الكثيف التي كانت المؤسسة العامة للتأمين (الملغاة) تقوم به لإعداد كوادر شركات التأمين، وكذلك التدريب خارج العراق وخاصة لدى شركات إعادة التأمين العالمية.  تُرى هل هناك الآن تعاون وتنسيق حقيقي بين شركات التأمين، ممثلة بجمعية التأمين العراقية، وبين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لدراسة مدى الحاجة إلى التخصصات التأمينية ولوضع خطة لتدريس مادة التأمين، وهل هناك سياسة وبرنامج وطني للتدريب؟[10]

 

مصباح كمال

16 أيلول 2017

 


 

ملحق

مشروع الدراسة الأكاديمية والمهنية للتأمين خارج العراق

 

سأروي حكاية، قد تكون مملّة لكنها تضمُّ، في رأي، بعض المعلومات المفيدة.

 

بتاريخ 4 كانون الأول 2011 علمت من إدارة شركة التأمين الوطنية أن مجلس الوزراء قد قام بتخصيص خمس عشرة بعثة دراسية إلى المملكة المتحدة للحصول على شهادة الماجستير في العلوم المتخصصة بالتأمين.  وقد سررت بهذا التطور وعبَّرت عن تمنياتي أن تتضافر الجهود لإنجاح الهدف المرتجى والحصول على المعارف العلمية المتخصصة بما يخدم الاقتصاد العراقي ويساهم في تطوير قطاع التأمين.

 

جاءت هذه المعلومة عقب تبادل رأي مع إدارة الشركة في لقاءات في لندن، واستلامي لدعوة من رابطة الأكاديميين العراقيين في المملكة المتحدة للاستجابة لرسالة وجهتها الملحقية الثقافية العراقية تطلب فيها تحديد التخصصات العامة والدقيقة لدراسة المبتعثين في الملكة المتحدة.  استجابة لهذه الدعوة اقترحت تخصيص بضع بعثات دراسية جامعية للحصول على شهادة الماجستير في العلوم الاكتوارية Actuarial Science والتأمين وإدارة الخطر Insurance & Risk Management وكذلك الدراسة المهنية للحصول على زمالة معهد التأمين القانوني (مركزه في لندن) Chartered Insurance Institute (CII) أو على شهادات أخرى يمنحها هذا المعهد.

 

سرّني أن الملحقية الثقافية تعاملت بإيجابية مع ما اقترحت وكتبت بتاريخ 13 كانون الأول:

 

وجه السيد المستشار الثقافي الدكتور عبد الرزاق عبد الجليل العيسى بأننا سنعمل للحصول على قبول للعدد الذي يحدد من قبلكم مع التخصص العام والدقيق.

 

ولكوني لست صاحب قرار في الموضوع أعلمت الملحقية الثقافية بما وردني من شركة التأمين الوطنية لتأخذ علماً به وإن تطلب الأمر التنسيق مع الملحقية خاصة إذا كانت شركة التأمين الوطنية ستساهم في تمويل بعضٍ من هذه البعثات الدراسية.  وبادرت بالكتابة إلى إدارة شركة التأمين الوطنية بتاريخ 19 كانون الأول 2011 مع نسخة لرئيس ديوان التأمين وكالة، مرفقاً نسخة من رسالتي إلى الملحقية الثقافية أدناه، مع رجاء لإعلامي إن كانت لدى الشركة أية ملاحظات أو إضافات لخدمة مشروع تطوير الدراسة الأكاديمية والمهنية للتأمين.

 

الأعزاء في الملحقية الثقافية

 

تحية طيبة

 

التقيت يوم أمس مع السيد صادق الخفاجي، المدير العام ورئيس مجلس إدارة شركة التأمين الوطنية، وأعلمني أن البعثات الدراسية التي أقرتها وزارة المالية ووافق عليها مجلس الوزراء لا تشمل العلوم ذات العلاقة بالتأمين، وانه بصدد ترتيب إجازات دراسية، بالتنسيق مع شركة التأمين العراقية وشركة إعادة التأمين العراقية، لعدد من العاملين في الشركات الثلاث لدراسات عليا (ماجستير) في المملكة المتحدة.  وقد فهمت منه بأن الوزارة معنية باختصاصات أخرى تقع خارج دائرة التأمين.

 

وقد اقترحت عليه أن تكون الإجازات الدراسية فيما يخص الدراسة الجامعية مقتصرة على العلوم الاكتوارية وإدارة الخطر على أن يقترن ذلك بدراسات ذات طابع مهني توفر مهارات آنية عملية إضافة إلى المعرفة القانونية والإدارية والمبادئ والممارسات التي تنتظم فروع التأمين المختلفة.  ويمكن أن تتخذ الدراسة المهنية شكل الدراسة للحصول على زمالة معهد التأمين القانوني (مركزه في لندن) Chartered Insurance Institute (CII) أو على شهادات أقل درجة من الزمالة.  حملة هذه الشهادات سيعملون، كما أرى، في قطاع التأمين العراقي الذي يتحمل تكاليف الدراسة.

 

واقترح عليكم العمل على تخصيص بضع بعثات دراسية جامعية للحصول على شهادة الماجستير في العلوم الاكتوارية Actuarial Science والتأمين وإدارة الخطر Insurance & Risk Management، وكلتاهما متوفرتان في لندن وخارجها.  حملة شهادة العلوم الاكتوارية يمكن أن يعملوا في وزارة المالية، وزارة التخطيط، الضمان الاجتماعي، صندوق التقاعد، استثمارات الدولة والمجالات الأخرى التي تقوم على الاحتمالات والتوقعات المستقبلية.  وبالطبع يمكن أن يعملوا في شركات التأمين أيضاً وبخاصة في حقل التأمين على الحياة.

 

وقد يكون من المناسب قيامكم بالتنسيق المباشر (أو عن طريق وزارة التعليم العالي) مع شركة التأمين الوطنية، شركة التأمين العراقية وشركة إعادة التأمين العراقية (وكلها تابعة للدولة) أو من خلال ديوان التأمين العراقي (جهاز الإشراف على نشاط التأمين التابع لوزارة المالية) فيما يخص دراسة التأمين وإدارة الخطر لتعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة لتمويل الدراسة الجامعية الأولية والعليا.

 

آمل أن تكون هذه الملاحظات مفيدة.

 

مع التقدير.

 

مصباح كمال

 

لم يردني أي رد من الملحقية الثقافية.  تبادلت بعض الرسائل مع إدارة شركة التأمين الوطنية بشأن الدراسة الاكتوارية لكن التواصل توقف ولم أشأ أن أكون مصدراً للإزعاج.  علمت فيما بعد أن عدداً من طلبة البعثات يواصلون دراسة الماجستير في بريطانيا، واكتشفت أن البعض منهم ليس له معرفة كافية باللغة الإنجليزية، ومجال الدراسة بعيد عن إدارة الخطر أو العلوم الاكتوارية.  ربما تم اختيارهم دون توفرهم على المؤهلات الأساسية المطلوبة للدراسة في الخارج، وليس هذا بغريب على معظم الحكومات العراقية منذ 1968 وحتى الوقت الحاضر مع استثناءات قليلة.

 

إذا كان قطاع التأمين مفتقراً إلى سياسة، تخطيط، لدراسة التأمين على مستويات مختلفة وبرنامج للتدريب المهني، داخل وخارج العراق؛ وإذا كان حاجته لموظفات وموظفين بمؤهلات تعليمية مناسبة ليس محدداً كيف يتسنى للمؤسسات التعليمية والبحثية، الأكاديمية والمهنية، إعداد المناهج التخصصية؟  لكن هذا الحال هو من حال العراق.

 

يذكر الأستاذ عبد الباقي رضا في رسالة لي حكايته عندما رُشح، بعد تخرجه عام 1955 من كلية التجارة والاقتصاد، لبعثة تحت عنوان (محاسبة التأمين) لدراسة الماجستير في الولايات المتحدة الأمريكية.

 

وحين كلف مترجم الوزارة لترجمة هذا العنوان والطلب من الملحق الثقافي في واشنطن الحصول على قبول لي لدراسة هذه المادة، ظهر أن الجهة التي طلبت هذا التخصص هي (دائرة العمل والضمان الاجتماعي) فكتبت وزارة المعارف إليها تسأل عن طبيعة هذا التخصص فجاء الجواب (دراسة المحاسبة بصورة عامة ومحاسبة التأمين بصورة خاصة).  بناء عليه طلبت الوزارة من الملحق الثقافي الحصول على قبول في إحدى الجامعات لدراسة (Accounting & Insurance).  التحقت بالجامعة في ايلول 1957 فأخبرني الأستاذ المختص بأن دراسة المحاسبة في الـ postgraduate يكون في إدارة الأعمال.  وحيث أن الملحقية الثقافية العراقية طلبت أن أدرس التأمين إضافة إلى الدراسة العليا في المحاسبة فإن عليَّ تلقي دروس في التأمين في مرحلة البكالوريوس.  هكذا بدأت بدراسة التأمين على الحياة صباحاً والدراسة العليا في المحاسبة مساءً.

 

انتهى الفصل الأول وكان عليَّ مواصلة دراسة التأمين في الفصل الثاني فكانت المادة (تأمين الحريق والحوادث).  حين بدأت دراسة هذه المادة استغربت من علاقة هذه المادة بالعمل والضمان الاجتماعي فراجعت استاذي حوله فسأل عن الجهة التي عينت تخصصي وحين أخبرته انها (العمل والضمان الاجتماعي) كان رد فعله العجيب هو O boy you are on the wrong track! وان الاختصاص المطلوب لهذه الدائرة هو علم آخر اسمه actuarial science وهذا الاختصاص غير موجود في جامعتنا وان خلفيتي الأكاديمية لا تساعد في متابعة التخصص الذي يتطلب رياضيات وليس محاسبة.

 

عدت إلى بغداد في أيلول 1959 وراجعت العمل والضمان الاجتماعي فرحبوا بي للتعيين محاسباً في أحد فروعها، ولدى مراجعة الإدارة العامة لمعرفة حقيقة التخصص المطلوب واستخراج اولياته وجدنا تقريراً من خبير أمريكي يقول ان الدائرة بحاجة إلى actuary وترجمت الكلمة إلى (محاسب تأمين) كما في قاموس أنطون إلياس أنطوان.

 

هكذا أُخفقت أول محاولة لتزويد العراق بخبير اكتواري وحتى الآن يخلو العراق منه![11]

 

 

مصباح كمال

16 أيلول 2017

[1] مروان هاشم القصاب، مقالات في التأمين وإعادة التأمين في العراق (مكتبة التأمين العراقي، ط2، 2014)، ص 26-40.  الكتاب متوفر عندي بصيغته الإلكترونية (بي دي إف) يمكنني إرسال نسخة منه لمن يرغب.

[2] جمال عبد الرسول غانم (إعداد)، فهارس بحوث الدبلوم العالي في إدارة التأمين (بغداد: وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مؤسسة المعاهد الفنية، معهد الإدارة/الرصافة، قسم إدارة التأمين، 1983)، ص 1.

 

[3] د. جمال عبد الرسول غانم، مصدر سابق، ص 2.

[4] المصدر نفسه، ص 1.

 

[5] أ. د. محمد الربيعي” “لمن تقرع الأجراس … للتعليم الأكاديمي أم التعليم المهني؟” شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/2015/02/24/%d8%a3-%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%b9%d9%8a-%d9%84%d9%85%d9%86-%d8%aa%d9%82%d8%b1%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ac%d8%b1%d8%a7%d8%b3-%d9%84%d9%84%d8%aa%d8%b9/

 

[6] مروان القصاب، مصدر سابق، ص 31-32.

 

[7] لا تتوفر لدينا معلومات عن دراسة التأمين في إقليم كردستان-العراق.

لم نطلع على أطروحات الماجستير في المعهد العالي للدراسات المالية والمحاسبية لنكوّن رأياً عنها وهل أنتجت معرفة علمية أم اجتراراً مهذباً لما هو متوفر من معرفة تأمينية.

 

[8] سليم الوردي، إدارة الخطر والتأمين (بغداد، د.ن، 1999)، ص 4-5.  النسخة الإلكترونية (مكتبة التأمين العراقي، 2016)، ص 10-11، متوفرة في المكتبة الاقتصادية لشبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2016/07/Salim-A.-Al-Wardi-Risk-managment-in-insurance-industry-.pdf

 

[9] من المؤسف، وحسب علمنا، أن الدولة في العراق لا تضمّ دائرة لخبير اكتواري ليساعد أصحاب القرار في رسم السياسات اعتماداً على تحليلات علمية.  للتعرّف على مثل هذه الدائرة في المملكة المتحدة Government Actuary’s Department راجع:

https://www.gov.uk/government/organisations/government-actuarys-department/about

 

[10] هناك حاجة لدراسة اقتصاديات ربط التعليم الجامعي والمهني في مجال التأمين مع حاجة قطاع التأمين.  يمكن لجمعية التأمين العراقية البدء بمثل هذه الدراسة أولاً تمهيداً للدراسة المشتركة.

 

للتعرّف على دور ديوان التأمين وجمعية التأمين العراقية وسياسة التدريب وبعض إشكاليتها أنظر: مصباح كمال، “التدريب المهني بين الجمعية والديوان: ملاحظات أولية،” مرصد التأمين العراقي:

https://iraqinsurance.wordpress.com/2011/12/03/training-professional-development/

 

[11] عبد الباقي رضا، رسائل في السيرة الذاتية والتأمين (عنوان مقترح لكتاب غير منشور يضم مجموعة من رسائل الأستاذ عبد الباقي رضا)، ص 21-22.  الرسالة مؤرخة في 22 تموز 2011.

Misbah Kamal: Insurance Brokerage & Insurance Development

قراءة نقدية لرسالة الأستاذ بهاء بهيج شكري:

حول نظام السمسرة وتطور طرق إبرام عقود التأمين

 

 

أثار الأستاذ بهاء بهيج شكري في رسالته[1] عدداً من القضايا بعضها ذات بعد تاريخي، وقدّم معلومات عنها وحججاً تفسيرية حول طرق إبرام عقود التأمين ونظام الرقابة على وكالات التأمين الأجنبية والعلاقة مع شركات وساطة إعادة التأمين العالمية. وبودي هنا تقديم بعض الإيضاحات والإضافات.

 

[1] البحث التاريخي الناقص للتأمين

 

ربما تتنفق معي بأن تاريخ التأمين في العراق وفي العالم العربي لم يُبحث على المستوى الأكاديمي، ولا يتعدّى ما نقرأه عن هذا التاريخ سوى الإشارات العابرة أو المعلومات السريعة المقدمة بدون إحالة إلى مصادر يمكن للباحث والقارئ المهتم الرجوع إليها ودراستها. وأنا لا أدعي معرفة بمنهج البحث التاريخي، أعني الأدوات التي يستخدمها المؤرخ المحترف في التعامل مع المصادر والأدلة، بما فيها الأدلة الأركيولوجية (الأثرية)[2]، بغرض البحث وكتابة تاريخ الماضي. وربما تبدو الإشارة إلى الأدلة الأثرية غريبة في مجال التأمين، وهي كذلك في ظاهرها إلا أن الحفر في أثريات التأمين القديمة (قوانين التأمين، وثائق التأمين، مستندات شركات التأمين، إعلاناتها التجارية، تقاريرها وحساباتها السنوية، محاضر جلسات مجالس الإدارة … الخ)، بافتراض توفرها لدى شركات التأمين، تُشكّل، بالإضافة إلى المذكرات غير المنشورة والكتب التاريخية المطبوعة، والمقالات المتناثرة في الصحف العربية مادة أساسية للبحث.

 

لذلك أزعم بأن معظم ما نذكره عن تاريخ كيانات التأمين والنظم المتعلقة بها، بما فيها القوانين المنظمة للنشاط التأميني، ليست مُسندة بأدلة تاريخية.

 

[2] استمرار بقاء وكالات شركات التأمين الأجنبية

 

يُخبرنا الأستاذ بهاء، من موقف العارف بتفاصيل موضوعه ويحاجج بأن التأمين

 

لم يمارس في البلاد العربية الا في أواسط القرن التاسع عشر. وكانت هذه البلاد عبارة عن ولايات تابعة للدولة العثمانية وقد ابتدأت ممارسته من قبل الوكلاء التجاريين لشركات التأمين الاجنبية. وحيث ان عقد التأمين لم يكن من ضمن العقود المسماة في الشريعة الاسلامية وحيث انه من عقود الغرر، فقد جوبه برفض قاطع من قبل فقهاء المذاهب السنية الأربعة وافتي بتحريمه بحجة انه عقد قمار محرم شرعا وعقد ربوي يتضمن اكل مال الغير بالباطل. وكان من نتيجة هذه الفتاوى ان أحجم اصحاب رؤوس الأموال العرب عن استثمار اموالهم في تأسيس شركات تأمين الامر الذي أدى الى بقاء وكلاء الشركات الاجنبية هم وحدهم الجهة التي تسيطر على أسواق التأمين العربية حتى بعد ان انفصلت هذه الولايات عن الدولة العثمانية لتصبح دولا مستقلة صوريا.

 

وهو هنا يقدم لنا تفسيراً مقنعاً لاستمرار بقاء وكلاء شركات التأمين الأجنبية في أسواق التأمين العربية إذ أن الإيديولوجيا الدينية المهيمنة، رغم بدء التحول نحو العلمانية في الدولة العثمانية[3] والحكم الوطني فيما بعد، كانت تحول دون الاستثمار في تأسيس شركات التأمين. ومن المؤسف، أن تاريخ وكالات شركات التأمين الأجنبية، كما أرى، لم يخضع للبحث ضمن التطور الاقتصادي للبلاد العربية. وبالنسبة للعراق فإننا نشير إلى هذه الوكالات ولكن دون أن نعرف عنها الكثير.[4]

 

ويمضي الأستاذ بهيج بالقول، اعتماداً على ما ذكره، أن أسواق التأمين العربية:

 

لم تؤسس فيها شركات تأمين عربية الا في النصف الثاني من القرن العشرين، فكان هذا هو السبب الذي جعل المشرعين العرب يركزون على وكلاء التأمين في قوانين الرقابة على اعمال التأمين التي شرعت خلال النصف الاول من القرن العشرين، فالزموهم بالحصول على ترخيص من سلطة الرقابة كي يتمكنوا من ممارسة نشاطهم وبشرط ان يودع الوكيل في المصرف الذي تعينه السلطة المذكورة وديعة مالية معينة عن كل فرع من فروع التأمين التي أجيز بممارستها،[5] ولم أرَ في تلك القوانين المذكورة اي ذكر للوسيط “السمسار”.

 

تشير بعض الكتابات العربية إلى تأسيس شركات تأمين عربية في النصف الأول من القرن العشرين. فشركة مصر للتأمين أسسها الاقتصادي الوطني المصري طلعت حرب باشا، الذي يعتبر رائداً للنشاط التأميني الوطني في مصر، سنة 1934.[6] وتأسست شركة التأمين العربية في فلسطين سنة 1944 (انتقلت من مركزها الرئيسي في يافا إلى بيروت سنة 1948).[7] كما تأسست شركة الرافدين للتأمين في بغداد سنة 1946 برأسمال أجنبي (60%) ورأسمال عراقي (40%).[8] تاريخ هذه الشركات بانتظار من يقوم بكتابته بالرجوع إلى أثريات التأمين، وكذلك تاريخ نشوء وتطور شركات وساطة التأمين العربية.[9]

 

ويثير الأستاذ بهاء قضية مهمة عندما يقول انه في غياب شركات التأمين العربية فإن “المشرعين العرب يركزون على وكلاء التأمين في قوانين الرقابة على اعمال التأمين التي شرعت خلال النصف الاول من القرن العشرين.” يعني هذا أن الدولة بدأت تنتبه إلى أهمية النشاط التأميني في الاقتصاد الوطني، وكذلك تنظيم عمل المؤسسات الاقتصادية.

 

[3] وسيط التأمين في قانون التأمين العراقي

 

يقول الأستاذ بهاء إن وسيط التأمين لا يرد له ذكر في القانون العراقي [قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005]:

 

وعندما اقتبس المشرع العراقي نصوص القانون الاردني لم يشر الى وسيط التأمين. لهذا فان ديوان التأمين العراقي له الحق في ان يتردد في منح الوسيط الأجنبي رخصة ممارسة العمل في العراق لجهالة طبيعة هذا العمل ولعدم ورود ذكر لوسيط التأمين في القانون العراقي، علما بأننا نعتقد ان هذا الوسيط الأجنبي هو وسيط اعادة تأمين “سمسار اعادة تأمين” وليس وسيط تأمين مباشر.

 

للوهلة الأولى يبدو هذا القول صحيحاً فالمادة 2-ثامناً- مُكرّسة لتعريف وسيط اعادة التامين (وليس وسيط التأمين المباشر) إذ يرد في التعريف بأنه “الشخص المجاز من الديوان ليمارس الوساطة بين شركة التأمين وشركة اعادة التأمين.”

 

لكننا نلاحظ بأن الفصل الأول من الباب السادس مخصص لوكلاء ووسطاء وخبراء التأمين، فالمادة 76 من هذا الفصل تنص على أنه:

 

لا يجوز لأي شخص أن يمارس أعمال وسيط تأمين أو وسيط إعادة التأمين إلا بعد حصوله على ترخيص من الديوان وفق الشروط التي يحددها رئيسه بتعليمات يصدرها لهذه الغاية تتضمن تنظيم أعماله وتحديد مسؤوليته وإجراءات ومتطلبات ترخيصه والمؤهلات المطلوبة.

 

فضلاً عن ذلك فإن التعليمات رقم (10) لسنة 2006 الصادرة من ديوان التأمين[10] هي “تعليمات إجازة وسيط التأمين وتنظيم أعماله وتحديد مسؤولياته.” ويرد في المادة 1-أولاً:

 

لا يجوز لأي شخص ممارسة أعمال وسيط التأمين أو وسيط إعادة التأمين في العراق إلا بعد حصوله على إجازة من ديوان التأمين بذلك …” (التأكيد من عندي)

 

وحسب البيانات الصادرة من ديوان التأمين كما في 31 كانون الأول 2016 كان هناك 9 وسطاء تأمين ووسطاء إعادة تأمين بينهم 5 وسطاء تأمين و 4 وسطاء إعادة التأمين وهؤلاء يمثلون شركات وساطة تأمين أجنبية. لكن حجم النشاط الذي تقوم به شركات الوساطة هذه ليست معروفة، وليست هناك أية إحصائيات خاصة بها، كما لا يعرف عدد العاملين فيها.

 

[4] هل هناك وسطاء في أسواق التأمين العربية؟

 

يثير الأستاذ بهاء تحدياً في قوله إن

 

… أسواق التأمين العربية، فيما عدا ما يتعلق بإعادة التأمين، لا تتعامل بنظام السمسرة، وان اتفاقيات وساطة التأمين التي اشرتَ لها في هامش البحث اما انها تتعلق بسمسرة اعادة التأمين او انها مجرد حبر على ورق، وإذا كنت تعرف اي سوق عربي يتعامل بنظام سمسرة التأمين المباشر، أرجو ان تدلني عليه لأصحح معلوماتي.

 

حسب علمي فإن أسواق التأمين في المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، فلسطين، المملكة العربية السعودية، اليمن، عُمان، قطر، دولة الإمارات العربية، الكويت، الأردن، لبنان، سوريا، العراق، تتعامل، بدرجات متفاوتة مع وسطاء التأمين المباشر. وهناك قوانين تنظم عمل الوسطاء. عدد وسطاء التأمين المباشر ليس متوفراً عندي[11] ويلعب وسطاء التأمين في كل من المغرب ولبنان دوراً كبيراً في إنتاج الأعمال لشركات التأمين. ففي سنة 2015 أنتج وسطاء التأمين في لبنان أزيد من 234 مليون دولار.[12]

 

وعلى العموم فإن سماسرة التأمين المباشر هم الأكثر عدداً في هذه الأسواق. إن حضور السماسرة في أسواق التأمين العربية يتعمق بفضل تزايد دورهم في الوصول إلى المؤمن لهم المرتقبين، وهم بذلك يلعبون دوراً مهماً في ترويج الحماية التأمينية بين الأفراد والشركات، وبالتالي فإنهم يساهمون في زيادة الطلب على الحماية التأمينية. ولم يأتي تأسيس رابطة وسطاء التأمين العرب سنة 2008 تحت مظلة الاتحاد العام العربي للتأمين من فراغ وإنما لتزايد دورهم والميل لدى البعض منهم لإضفاء المهنية professionalisation على عملهم.

 

من تجربتي الشخصية في العمل في شركة وساطة للتأمين وإعادة التأمين في سوق لندن أستطيع التأكيد أن للشركة ومن خلال ذراعها العالمي، ومنذ عدة سنوات، شركتي وساطة مسجلتان في دولة الإمارات العربية، إحداهما تمارس أعمال وساطة التأمين داخل الإمارات، والأخرى تمارس أعمالها من خلال تواجدها في مركز دبي المالي العالمي (DIFC).

 

[5] في تعليل أسباب تقلص عدد شركات وساطة التأمين في الأسواق الغربية

 

يثير الأستاذ بهاء هنا مسألة ذات طابع إشكالي:

 

اما بخصوص سمسرة اعادة التأمين، فاني اتفق معك بان بعض شركات السمسرة الانجليزية قد تمت تصفيتها، ولكن السبب في ذلك لم يكن لجوء شركات التأمين المباشر لممارسة التجارة الإليكترونية لإسناد محافظ أخطارها، بل السبب في رأي، هو ان الذهنية التأمينية في بداية القرن العشرين كانت ضعيفة جدا في الدول العربية ودوّل العالم الثالث، كما ان الخبرة الفنية لدى اجهزة شركات التأمين تكاد ان تكون منعدمة في ذلك الوقت، لهذا لم يكن امام هذه الشركات الا اللجوء لسماسرة اعادة التأمين لإسناد اخطار محافظها، ولكن بعد ان اتسعت الذهنية التأمينية في أواخر القرن العشرين وزادت خبرة الأجهزة الفنية للشركات …. حمل بعض هذه الشركات على القيام بإسناد اخطار محافظها لشركات اعادة التأمين المتخصصة مباشرة، وابرز مثال على ذلك هو شركة التأمين الوطنية التي قطعت علاقتها بشركة سمسرة اعادة وباشرت الاسناد المباشر لشركات اعادة التأمين المتخصصة، فإحجام الشركات العربية وشركات العالم الثالث عن الاستعانة بالخبرات الاجنبية هو سبب ظاهرة تصفية شركات السمسرة.

 

لا أرى رابطة حقيقية بين ظاهرة تصفية [عملية استحواذ ودمج] شركات وساطة إعادة التأمين وتقلص عددها في بعض أسواق التأمين العالمية ومنها سوق لندن، وتضاؤل طلب أسواق التأمين العربية وأسواق دول “العالم الثالث” لخدمات هؤلاء الوسطاء، بفضل ما يسميه الأستاذ بهاء اتساع الذهنية التأمينية في هذه الأسواق. القبول بهذا الرأي معناه أن سوق لندن، مثلاً، ما كان له أن يتطور لولا الطلب الوارد على حماية إعادة التأمين من أسوق التأمين العربية. وفي هذا اختزال فظ للتحولات التي شهدتها سوق لندن بضمنها سوق لويدز. صحيح أن احتفاظ الأسواق العربية[13] بالأخطار آخذ بالازدياد التدريجي (بفضل تأسيس المجمعات، وزيادة رأس المال والاحتياطيات، وتأسيس شركات وطنية لإعادة التأمين وغيرها) وبالتالي فقد تقلّص طلبها في السنوات الأخيرة لاتفاقيات إعادة التأمين الاتفاقي النسبي واقتصر هذا الطلب على الاتفاقيات غير النسبية التي تحتاج إلى معرفة فنية إضافة إلى معرفة بأسواق إعادة التأمين المتخصصة بالأشكال المختلفة لهذه الاتفاقيات، وبعضها على درجة عالية من التعقيد، وخاصة في مجال آليات تحويل الأخطار البديلة alternative risk transfer (ART)، بحيث يصبح الاعتماد على وسيط إعادة التأمين الدولي ضرورياً للوصول إلى الأسواق المتخصصة ولتفكيك طلاسم هذه الآليات التي تجمع بين إعادة التأمين وأدوات أسواق رأس المال. لكن معظم شركات التأمين العربية لا تستخدم آليات تحويل الأخطار البديلة.

 

علينا أن نتذكر أن الطلب على إعادة التأمين، قبل تطور الطلب المحلي على ما يعرف بوثائق التأمين الشخصي personal line insurances ممثلة في السنوات القليلة الماضية في بعض الأسواق العربية بالتأمين الصحي، كان عالياً بسبب عدم توازن المحفظة الاكتتابية لشركات التأمين العربية. وكان اللجوء إلى الحماية الإعادية وسيلة لتحقيق درجة من التوازن في المحفظة.

 

في دراسة ظاهرة تقلص عدد وسطاء التأمين في أسواق التأمين الغربية، وقد ركّزتُ على سوق لندن في هامشي رقم 5 على رسالتك،[14] لا يمكننا التغاضي عن الدور الكبير الذي يلعبه التطور التكنولوجي عموماً وتطور تكنولوجيا المعلومات في ردم الفجوة بين المؤمن لهم وشركات التأمين وخاصة، وكما ذكرتُ، بالنسبة لوثائق التأمين النمطية كتلك التي نجدها في التأمين على السيارات والمساكن. وفي السنوات القليلة الماضية ظهرت مواقع إلكترونية تُعرف باسم aggregators تُمكّن طالب التأمين، من خلال إكمال استمارة تضمُّ عدداً من الأسئلة، الحصولَ على عروضٍ للتأمين من عدة شركات وتصنف هذه العروض بدءاً بأوطأ الأسعار ويترك لطالب التأمين اختيار ما يراه مناسباً له. هذا النمط من تسويق المنتج التأميني لم يكن ليتحقق لولا تطور استخدامات تكنولوجيا المعلومات.

 

ثم انني ركزت على التقلّص الكبير، وهو يقرب من بضعة آلاف، في عدد وسطاء التأمين، القليل جداً منهم يعمل في مجال إعادة التأمين. إن أغلب هؤلاء الوسطاء يشكّلون شركات صغيرة تدير أعمالها في مواقع الشوارع الرئيسية في المدن high street brokers وتضم بضعة أفراد، وليس لهذه الشركات علاقة بشركات التأمين العربية وطلبها لإعادة التأمين.

 

إن تأثير تكنولوجيا المعلومات والفضاء السِيبراني في ازدياد ووصل الأمر إلى ان جباية أقساط التأمين وتسديد التعويضات وحتى التفاوض بين الوسيط ومكتتب التأمين صار يتم عن بعد من خلال التواصل الإلكتروني.

 

إضافة إلى ذلك فإن النظام الرأسمالي معروف بميله نحو التركّز، وتمثل ظاهرة الاستحواذ والاندماج تعبيراً لهذا الميل. الهدف الأول والأكبر للشركات الرأسمالية هو تحقيق أقصى الأرباح ولن يتمّ ذلك بوجود المنافسة القوية. ولذلك فإن الحد من المنافسة يصبح مطلباً مهماً لصاحب رأس المال أو من يمثله في إدارة الشركة. ونعرف أن الحكومات في الدول الرأسمالية تعمل بدورها إلى الحد من التوجّه نحو الاحتكار، لكن الحكومة البريطانية، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، لم تتحرك عندما تم الاستحواذ على شركات وساطة تأمين إنكليزية عريقة من قبل شركات أمريكية بحيث أن أكبر ثلاث شركات وساطة تأمين أمريكية في سوق لندن تخضع في الوقت الحاضر لملكية رأس المال الأمريكي.

 

فيما يخص قطع شركة التأمين الوطنية علاقتها بشركة سمسرة اعادة التأمين ومباشرتها الاسناد المباشر لمحافظها لدى شركات إعادة التأمين المتخصصة (وأظن أن ذلك كان في أوائل ستينيات القرن الماضي) فإنه لم يستمر طويلاً ولم يُلغي اعتماد الشركة على وسطاء إعادة تأمين آخرين لترتيب اتفاقيات إعادة التأمين غير النسبية للشركة كاتفاقيات وقف الخسارة، وكذلك بعض أعمال إعادة التأمين الاختياري.

 

أشكر الأستاذ بهاء بهيج شكري على رسالته وإثارة قضايا مهمة في تطور صناعة التأمين العربية والتي وفَّرت الفرصة لمناقشتها بهدف البناء على ما أفاد به. ولعل من هم أصغر عمراً منا وأكثر معرفة يساهمون في تطوير دراسة بعض القضايا المطروحة في هذه الرسالة.

 

5 حزيران 2017

[1] الرسالة منشورة في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2017/05/رسالة-بهاء-بهيج-شكري-إلى-مصباح-كمال-20-أيار-2017-نظام-الوكالات-والمنتج….pdf

 

[2] ظهر هذا التعبير في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وربما في غيرها من أسواق التأمين، في سياق البحث عن وثائق التأمين التي تغطي المسؤوليات القانونية للشركات الصناعية تجاه العاملين أو الأطراف الثالثة فيما يتعلق بالإصابات الناتجة عن التعرض المستمر للأسبستوس، وبعضها يرجع إلى أربعينيات ولغاية سبعينيات القرن الماضي، لتمكين هذه الشركات بمطالبة شركات التأمين للتعويض عن الإصابات البدنية والأضرار التي نشأت أسبابها قبل عدة عقود. للتعرف على موضوع أركيولوجيا وثائق التأمين راجع:

https://www.irmi.com/articles/expert-commentary/insurance-archaeology-a-strategic-imperative-for-policyholders-and-insurers

وبالنسبة للآثار التأمينية لمرض الأسبستية (التليف الرئوي بسبب استنشاق جسيمات الاسبستوس) asbestosisوخاصة المسؤوليات الضخمة التي تحمّلتها سوق لويدز راجع:

Adam Raphael, Ultimate Risk (London: Corgi Books, 1995), pp 129-159.

[3] أنظر: مصباح كمال، “التأمين كمؤسسة علمانية: نظرة تاريخية موجزة،” الثقافة الجديدة، العدد المزدوج 378-379، تشرين الثاني 2015، ص 104-114. نشر المقال أيضاً في مجلة التأمين العراقي:

http://misbahkamal.blogspot.co.uk/2015/12/insurance-as-secular-institution.html

[4] ربما تكون محاولتي اليتيمة في اقتفاء بعض المعلومات عن هذه الوكالات في العراق هي الأولى من نوعها. أنظر: مصباح كمال، “وكالات التأمين في العراق عام 1936: محاولة في التوثيق،” مجلة التأمين العراقي:

http://misbahkamal.blogspot.co.uk/2012/05/1936-19-2012-1936-1936-883.html

وكذلك: مصباح كمال: “اليهود والنشاط التأميني في العراق: التأمين في ذاكرة عزرا حكّاك،” مجلة التأمين العراقي:

http://misbahkamal.blogspot.co.uk/2016/11/jews-insurance-activity-in-iraq.html

وتظل هذه المحاولات غير مكتملة وتحتاج إلى من يحفر في أثريات التأمين لإشباع الموضوع.

 

[5] أنظر بهذا الشأن أحكام قانون شركات التأمين رقم 74 لسنة 1936 في مقالنا “إطلالة على بواكير التأمين والرقابة على النشاط التأميني في العراق،” مجلة الثقافة الجديدة، العدد 331، 2009. نشر أيضاً في مجلة التأمين العراقي:

http://misbahkamal.blogspot.co.uk/2009/09/331-2009-44-52.html

 

[6] الاتحاد المصري للتأمين، صناعة التأمين في مصر عبر قرن ونصف (القاهرة: الاتحاد، 2014)، ص 26-27. يرد في الكتاب أسماء شركات تأمين أخرى.

 

[7] “التأمين في لبنان…تاريخ عريق وآفاق من غير حدود!” فصل في كتاب جوزف زخور، كتابات في التأمين وإعادة التأمين (بيروت: ج. زخور وشركاه، 1998)، ص 11-12.

 

[8] لم أعثر على تفاصيل هذه الشركة: أسماء المساهمين العراقيين في رأس المال، مديرها العام، عدد العاملين، أنواع التأمين التي كانت تكتتب بها … الخ.

 

[9] لا نعرف من كان أول وسيط تأميني عربي لكن المرحوم جاد قبّان نشر مذكراته بالإنكليزية لتوثيق دوره الرائد في وساطة التأمين في لبنان: Jad G. Kabban, Memoirs of a Pioneer Arab Insurance Broker (Jounieh, published privately, 2004).

أنظر: جوزف زخور، “جاد قبان .. إرث تزهو به “يو آي بي”” مجلة البيان، العدد 399، شباط/فبراير 2005، ص 95. ويرد في هذا التأبين أن جاد قبان بعد عودته إلى لبنان من المملكة العربية السعودية، حيث كان يعمل مع شركة الزيت الأمريكية أرامكو، “التحق بشركة اوفرسيز بروكرج سرفيسز (OBS) التي كان أطلقها رجل الأعمال الأمريكي اللبناني الأصل الكس نادر، وهي الشركة التي أدخلت وساطة التأمين بوجهها الحديث إلى لبنان …”

[10] الوقائع العراقية، العدد 4038 الصادرة بتاريخ 26 آذار 2007.

[11] ليست هناك معلومات منشورة عن عدد الوسطاء في أسواق التأمين العربية سوى ما نشره بنك معلومات التأمين العربي وهي للفترة 2010-2011:

http://insurabia.jo/websiteDocs/BrokersAndAgents/wosata-ar.pdf

 

[12] http://www.meinsurancereview.com/Magazine/ReadMagazineArticle/aid/38542/Lebanon-Independent-brokers-generate-234-mln-in-premiums-in-2015

 

[13] Abdul Zahra Abdulla Ali, Insurance Development in the Arab World: Available Domestic Retention Capacity and Demand for International Reinsurance (London: Graham Trotman, 1985).

[14] http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2017/05/رسالة-بهاء-بهيج-شكري-إلى-مصباح-كمال-20-أيار-2017-نظام-الوكالات-والمنتج….pdf ص 4