د. مصطفى رجب: حيثيات إلغاء نظام وكالات التأمين وقضايا أخرى – تعليق على ما كتبه الأستاذ عطا عبد الوهاب في كتابه (سلالة الطين) عن فترة عمله في ميدان التأمين
نشرت هذه المقالة أصلاً في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:
مقدمة: قبل عدة سنوات قرأت كتاب الأستاذ عطا[1] وتوقفت عند الفصل المتعلق بفترة عمله في حقل التأمين. وقررت، في حينه، عدم التعليق على ما كتبه بشأن إلغاء وكالات التأمين وإعادة عملها الذي اتخذه مجلس إدارة المؤسسة العامة للتأمين في بغداد وذلك للأسباب الآتية:-
- تربطني بالأستاذ عطا علاقة شخصية نشأت عن علاقة العمل خلال الفترة التي أمضاها في حقل التأمين. وحيث أنه تعرض لما تعرض له من مأساة تفوق ما يستطيع تحمله البشر، فقد قررت في حينه أنه من غير المناسب أن أضيف جرحاً للجروح العميقة التي تعرض لها.
- أكن احتراماً لعائلته الكريمة التي تحملت ما تحملت من أهوال ومآسي فكانت بحق (السيدة الصابرة المتصبرة).
- وأخيراً احتراماً لذكرى شخص زكي النفس عفيف اليد واللسان صاحب الذكرى العطرة هو المرحوم الأستاذ/زكي عبد الوهاب، طيب الله ثراه.خلال شهر شباط (فبراير) من هذه السنة (2017) كتب إلىَّ أحد الإخوان الذين أحترم رأيهم رسالة يشير فيها أنه اطلع (ويبدو مؤخراً) على ما كتبه الأستاذ عطا ويطلب مني، للتاريخ، إبداء الرأي فيما كتب. وحيث قد مضت مدة تزيد على (12) سنة على صدور الكتاب فاعتقد أن النفوس قد بلغت درجة من الهدوء تسمح بالاستماع إلى رأي آخر.التعليق: ينقسم ما سأقوله إلى جانبين: جانب موضوعي وآخر شخصي.الجانب الموضوعي: في إدارة المؤسسات الحكومية والشركات التابعة لها هناك نوعان من القرارات: قرارات نابعة من السياسة الاقتصادية للنظام الحاكم (أياً كان النظام الحاكم) وقرارات فنية صرفة. هذه القرارات الأخيرة تختص بها الإدارات العليا للمؤسسات والشركات والكادر الفني التابع لها.أما الأولى: فإنه يفترض بأي نظام يأتي إلى الحكم سواء عن طريق الانتخاب أم الانقلاب كما حصل في العراق أن تكون له سياسة اقتصادية يسعى إلى تطبيقها وأهدافاً يسعى لتحقيقها. وحينما يتخذ النظام الجديد قرارات تتعلق بالسياسة الاقتصادية العليا للدولة فعلى إدارات المؤسسات والشركات التابعة لها (أي للقطاع العام) أن تنفذ أو أن تترك موقعها أو أن تجبر على ترك موقعها.في الدول الديمقراطية حينما يتم تغيير الفئة الحاكمة عن طريق الانتخاب فإن الفئة الجديدة تأتي بوزراء جدد ويتم تغيير رؤساء بعض المؤسسات الحساسة (وأؤكد على كلمة الحساسة). أما بقية الكوادر الحكومية فإنه لا يطالها التغيير أما في العراق وبسبب تغيير الأنظمة عن طريق العنف فإن التغيير شمل المؤسسات الحساسة وغير الحساسة بل وصل الأمر أحياناً إلى إنهاء خدمات فراشين على أساس أنهم من أتباع النظام السابق! وبالرغم من أن شركات التأمين ليست من قبيل المؤسسات الحساسة إلا أن الطريقة العراقية في التغيير لا تهمها درجة الحساسية في المؤسسات وبالتالي فإن التغيير يطال الجميع. شخص واحد لم تشمله الطريقة العراقية بالرغم من التغييرات المتعددة التي طالت أنظمة الحكم في العراق سآتي على ذكره فيما بعد.قرارات مثل قرار التأميم وقرار إلزام شركات التأمين بإسناد حصة إلزامية إلى شركة إعادة التأمين العراقية وقرار إلغاء وكالات التأمين وقرار إعادة وكالات التأمين للعمل في السوق قرارات نابعة من السياسة الاقتصادية للنظام الحاكم (أياً كان النظام الحاكم). بعض هذه القرارات نتيجة طبيعية لقرارات أخرى. وكالات التأمين ألغيت بتوجيه من المؤسسة الاقتصادية التي كانت قائمة آنذاك، وهو قرار ينسجم مع السياسة الاقتصادية التي تبناها نظام الحكم آنذاك وهي سياسة قائمة على تأميم العديد من المنشآت الاقتصادية ومن بينها شركات التأمين. فلما تغير نظام الحكم وجاءت فئة أخرى لا تؤمن بالتأميم ولا بالإجراءات التي اتخذها النظام السابق، كان من الطبيعي أن تكون إعادة وكالات التأمين ثم الانتقال بها إلى نظام الوساطة في التأمين من بين أولويات النظام الجديد.مجلس إدارة المؤسسة العامة للتأمين كان، في حينه، يضم أعضاء لم يأت بهم أي نظام من الأنظمة التي توالت على الحكم في العراق وآخرين يبدو أنهم جاءوا بسبب علاقاتهم بهذه المجموعة أو تلك. الفئة الأخيرة هي التي كان عليها أن تختار وبالتالي فإنه حين تقرر إعادة الوكالات بحكم السياسة الاقتصادية للنظام الجديد كان على كل فئة أن تختار: الفئة الأولى ليست من المتخاذلين والفئة الثانية ليست من الأبطال، بل كل عضو اتخذ الموقف الذي ينسجم مع تاريخه ومبادئه وأسلوب عمله ومفهومه للعمل في القطاع العام.وليت الأعضاء من الفئة الثانية استمعوا إلى صوت الحكمة الصادر عن الفئة الأولى لما جرت الأمور بالشكل الذي جرت به لاحقاً.لقد علق الأستاذ عطا موضوع استمراره في إدارة شركة التأمين الوطنية على موضوع وكالات التأمين وجوداً أو تغييراً في حين أن الأمر، باعتقادي، ليس بالأمر الخطير الذي يستدعي اتخاذ موقف حدّي كهذا. وقد يكون للأمر جانب شخصي ولا علاقة له بالجانب الموضوعي.لم يستمع الأستاذ عطا لوجهة نظرنا أنا والدكتور خالد الشاوي وآثر الاستقالة. وبالتالي لا أجد أي مبرر لإلقاء اللوم على الآخرين. وليته ألقى اللوم فقط.الجانب الشخصي:-
- يكيل السيد عطا الانتقادات (وبعضها يخرج عما هو لائق) لأشخاص مثل ممتاز العمري وخالد الشاوي ومصطفى رجب ولا يجد مكانه بينهم في حين أنهم من خيار القوم، هم من الصفوة الإدارية التي لا يرقى الشك إلى سيرتها، يصفها بأقذع الأوصاف… يترك أناساً يضعون أفضل ما عندهم في خدمة بلدهم وخدمة المؤسسات والشركات التي يديرونها بكل تجرد.
- وأعود إلى الذي لم تشمله الطريقة العراقية في التغيير بالرغم من التغييرات العديدة التي طرأت على أنظمة الحكم في العراق فأقول: لقد بقيت أدير شركة إعادة التأمين العراقية لمدة عشرين عاماً (بعد أن قمت بتأسيسها) بالرغم من التغييرات التي طرأت على أنظمة الحكم في العراق. فما هو السبب؟لتسهيل مهمة القارئ حسن النية، أعرض بعضاً من المبادئ التي اعتنقها وأطبقها (وقد طبقتها فعلياً) في حياتي الشخصية والوظيفية: -تكويني الذهني ينفر من التبعية الفكرية لأية مجموعة أو فئة أو حزب سواء كان حاكماً أو غير حاكم. وكنت، ولا زلت، أعتقد أنني بانتمائي لأية فئة أو جماعة إنما أفقد استقلاليتي في الرأي وحياديتي في الحكم على الأمور والأشخاص وحريتي في اتخاذ القرار، لذلك أستطيع أن أقول، بكل فخر، أنني لست مديناً في جميع المواقع الحكومية وغير الحكومية التي أشغلتها لأية فئة أو جماعة، سواء المواقع التي أشغلتها في بلدي العراق أو في بعض البلدان العربية الشقيقة. هدفي الوحيد هو خدمة بلدي وخدمة البلد الشقيق الذي يستضيفني. أضع كل إمكانياتي العلمية والعملية في خدمة المؤسسة التي أديرها أو التي أعمل فيها.
- لا أحاسب الناس على أفكارهم بل أحكم عليهم (في قرارة نفسي فقط) حسب تصرفاتهم.
- لا أطلب من الآخرين أن يتضامنوا معي في أي قرار أتخذه فانا وحدي المسؤول عن نتائجه دون إلقاء اللوم على الآخرين.
- أُؤمن بالحوار الهادئ ولا أستسيغ العنف بكل أشكاله: العنف المادي والمعنوي بل وحتى العنف اللفظي (من المؤسف أن يحتوي الفصل الخاص بالتأمين من كتاب الأستاذ عطا على قدر كبير من العنف اللفظي!)هذه ليست فردية في التفكير بل قواعد تعني احترام النفس واحترام الآخرين. وفي هذا السياق أقول:-لقد طبقت هذه المبادئ حينما كنت اتخذ قرارات تعيين العاملين معي في جميع الشركات التي كلفت بإدارتها. فأنا لا أسألهم عن رأيهم السياسي أو الفئة التي ينتمون إليها. المعايير الوحيدة التي آخذها بنظر الاعتبار هي الكفاءة والنزاهة ثم أصبحت النزاهة والكفاءة.المتقدمون للعمل يخضعون لامتحان تحريري وآخر خلال المقابلة ثم يتم تعيين الأفضل.وفي إحدى المرات التي تغير فيها نظام الحكم في العراق أعلمني الوزير الجديد المسؤول عن التأمين انه تبين لهم انه لا يوجد في الشركة التي أديرها من هو من الجماعة التي أتت مع النظام الجديد فأجبته أن هذه معلومة لا علم لي بها لأنني لا اسأل الموظفين لأية جهة أو جماعة ينتمون؟كما طبقت هذه المبادئ على علاقتي بالعاملين معي في الشركات التي كنت أديرها فكنت أغرس في فكرهم أنهم غير مدينين لي في مواقعهم في الشركة، وأنهم إنما يحتلون مواقعهم بحكم كفاءتهم وإخلاصهم. لذلك ليس عليهم من حرج أن يكون لهم رأي يختلف عن رأيي بل أن بإمكان أي منهم أن يكتب رأيه المخالف تحريرياً على أن يبقى رأيه داخل الشركة فقط.
- يقول السيد عطا في كتابه أنه (أي مصطفى رجب) أمكر من أن يسعى إلى الحيلولة دون انسحاب عنصر (يقصد نفسه) يبدو انه وجد فيه نداً، رغم صداقتي له ودعمي الدائم لشركة الإعادة منذ تأسيسها. ولعله لم يكن وحده من المتربصين والطامعين بإزاحتي)؟هذا كلام غريب فمن المعروف عني أنني لم أفكر يوماً أن أزاحم أحداً على موقعه بل لم أشعر يوماً أن أحداً يزاحمني على موقعي. ثم أنني أعمل في إعادة التأمين وهو يعمل في التأمين المباشر فأين مني من الطامعين بإزاحته ولماذا التربص به؟ فقد كنت ولا زلت أكن له كل مودة وتقدير واحترام لا لشيء إلا لكفاءته وإخلاصه في عمله. وأعتقد أن هذا الكلام هو من قبيل التخيلات.وفي هذا السياق أقول:للتدليل على أنني لا أفكر في مزاحمة أحد على موقعه، أقدم ما طبقته في الشركات التي كنت أديرها:-لقد اتبعت سياسة قلما تتبناها الإدارات العربية في الشركات التي تعهد إليها إدارتها وهي تحضير الخلف المناسب. وقد طبقت هذه السياسة في بغداد وبيروت وأبو ظبي فكان انتقال الإدارة حينما يحين موعد رحيلي عن الشركة انتقالاً هادئاً. وقد اثبتوا جميعاً حسن ظني بهم. هذه السياسة منطلقة من قاعدة أؤمن بها أن المدير الناجح ليس هو الذي يحقق الأهداف فقط بل الذي يُعدُ من يخلفه عند رحيله كذلك.
- ولتوضيح وجهة نظري متى وأين يجب اتخاذ قرارات حدية أسرد الواقعة الآتية: – تغيّر نظام الحكم ذات مرة في بغداد وحينما أتيت إلى مكتبي في الشركة التي كنت أديرها علمت أن ثلاثة من المدراء الفنيين في الشركة قد ألقي القبض عليهم في الليلة السابقة.كان هذا الإجراء بالنسبة لي إجراءً مؤلماً يتطلب أن أفهم أسبابه كما أنه يؤثر على السمعة الدولية للشركة تلك السمعة التي كانت تشكل جزءاً كبيراً من رأسمال الشركة.اتصلت بوكيل وزارة الداخلية الجديد وكنت على معرفة به ورجوته إعلامي عن أسباب اعتقالهم حيث أنني لم ألمس أي نشاط سياسي لهم طيلة فترة عملهم في الشركة. وعدني بالاستفسار والعودة إلىّ. مضت ساعتان وإذا به يتصل بي ويبلغني أنه لا توجد أشياء خطيرة وأنه سيطلق سراحهم بعد بضعة أيام. أجبته أنه حيث لا يوجد ما يبرر اعتقالهم فإنني سأذهب إلى بيتي وأعود للعمل حينما يطلق سراحهم. أجابني أن الأمر لا يستدعى اتخاذ هذا الموقف. أبلغته أنني أشعر أنني مسؤول عنهم وحيث أنك تقول إنه لا توجد أمور خطيرة فلا أستطيع تحمل بقائهم قيد الاعتقال دون جريمة أو شبهة جدية وذهبت إلى بيتي. في اليوم التالي اتصل بي وكيل الوزارة وأبلغني أنه سيتم إطلاق سراح أثنين وقد أطلق سراحهما فعلاً وسينظر في أمر الثالث في اليوم اللاحق. أبلغته أنني سأعود للعمل اليوم وآمل أن يطلق سراح الثالث يوم غد وبالفعل تم إطلاق سراحه في اليوم اللاحق. حينما قصصت ما جرى على أحد الأصدقاء عاتبني على موقفي وقال إنك تعرض نفسك لمشاكل أنت في غنى عنها! أسوق هذه الحادثة لأدلل على أن المسؤول يفترض به أن يتخذ موقفاً حدياً حينما تقتضي دواعي الواجب والضمير أن يتخذه، وليس عليه أن يتخذ موقفاً حدياً في أمر يعود القرار النهائي فيه إلى جهة رسمية أخرى وضمن اختصاصها وإلا كان مندفعاً حيث لا يجدي تسمية الاندفاع بطولة.وأخيراً وبصرف النظر عما أكتبه أنا أو ما يكتبه غيري فإن التاريخ وحده هو الذي يحكم على الأشخاص ومواقفهم وليس ما يكتبون هم عن أنفسهم.20/3/2017* مؤسس ومدير عام شركة إعادة التأمين العراقية (1980-1960)
[1] عطا عبد الوهاب، سلالة الطين (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004)، ص 375 وما بعدها لها علاقة بموضوع هذه الورقة. يمكن الاطلاع عليه باستخدام هذا الرابط:
(المحرر)