Monthly Archives: أفريل 2014

Scientific Research, Future of Insurance

البحث العلمي، مستقبل التأمين[1]

كرستوف كورباج و باتريك م. ليدتكه

ترجمة ياسر نهاد غازي عسكر

نشر هذا المقال في اقتصاديات التأمين العدد 56، تموز 2007، وهي من مطبوعات المؤسسة البحثية المعنية بالخطر واقتصاديات التأمين، المعروفة باسم جمعية جنيف The Geneva Association

Christophe Courbagé and Patrick M. Liedtke, “Scientific Research, Future of Insurance,” Insurance Economics, No. 56, July 2007.

في سنة 1973، قررت مجموعة صغيرة من المؤمِنين الأوربيين بقيادة فابيو بادوا Fabio Padoa رئيس مجموعة جنراليالايطالية (Generali group)آنذاك وبدعم من رايموند بار (Raymond Barre)تشكيل جمعية جنيف (The Geneva Association). كان هدف الجمعية في ذلك الوقت تكوين بنية هيكلية تدعو للبحث في مجالي الخطر والتأمين. لقد أدرك الأعضاء المؤسسون لجمعية جنيف قبل ثلاثين سنة مضت الدور الفاعل الذي سيلعبه التأمين وإدارة الخطر في اقتصاد السوق. وبتشكيل هذه الجمعية عبر أعضاؤها عن رغبتهم ليس فقط في المشاركة من أجل فهمٍ أفضل لتطور مجتمعاتنا بل في تحفيز الدارسين والباحثين في دراسة أنشطة التأمين أيضاً. في الوقت نفسه أتاحت لهم هذه المبادرة  تكييف الإدارات الخاصة بشركاتهم لتتماشى مع متطلبات عصرنا.

حداثة البحث في التأمين

من الجدير بالذكر انه في بداية السبعينيات كانت البحوث في إقتصاديات الخطر والتأمين لاتزال في طور التحديث. كان ينظر للتأمين كنشاط اجتماعي غير مهم، ولم تلقَ وظيفته الاقتصادية الاهتمام الكافي، والأسئلة المتعلقة به كانت تُحل على أساس الرياضيات الاكتوارية والقانون. ومع مرور الثلاثين سنة المجيدة(Trente Glorieuses) [2] وبداية نمو اقتصادي مطرد، ظهرت أهمية التأمين تدريجياً كعامل فعـّال في أي استراتيجية للتنمية الاقتصادية. فقد استطاع الباحثون من خلال دمج مبدأ عدم التأكد (uncertainty) في النظرية الاقتصادية والاستفادة من تطور النظرية المالية ونظرية اتخاذ القرار، فَهْم القضايا ذات العلاقة باقتصاديات التأمين وبإدارة الخطر، مثل: توازن التأمين في السوق، والطلب الفردي للتأمين، ومشكلة التباين في المعلومات، وبنية عقود التأمين، وتنظيم الأسواق .. الخ. في أيامنا هذه ازدادت البحوث الأكاديمية في اقتصاديات التأمين. ونجد الآن مجلات أكاديمية تأمينية متخصصة وتم نشر موسوعات في التأمين. لقد أصبح هذا المجال مادة تُدّرس في أفضل الجامعات، ويمكننا التجرؤ بالقول ان جمعية جنيف شاركت في هذا التطور.

ماذا يعني البحث العلمي؟

بالرغم من وجود المعرفة الاكاديمية والنتائج النظرية والعملية في إقتصاديات التأمين بكثرة في الوقت الحاضر فمن العدل ان نتساءل حول مدى فائدتها لقطاع التأمين. هذه التساؤلات تشير بشكل كبير إلى ضرورة البحث العلمي. فالبحث العلمي، قبل كل شيء، يلعب دوراً فاعلا في تطور الابتكار والإبداع. وبهذه الطريقة سيخدم البحث العلمي هدفين: من جهة، تطوير معرفة جديدة قائمة على اكتشاف المجهول من خلال البحوث الأساسية. ومن جهة اخرى، تطوير معرفة موجودة لتكوين نتائج جديدة من خلال البحوث التطبيقية. هذان الهدفان مكملان لبعضهما لأن البحوث الأساسية بدون تطبيقات ممكنة ستكون ذات فائدة محدودة وفي الوقت نفسه فإن البحث التطبيقي بحاجة إلى البحوث الأساسية.

وهكذا فإن قطاع التأمين يستفيد بصورة كبيرة من البحث العلمي لفهمٍ أفضلَ لآلية التأمين وعمله، حيث يمكنه [البحث العلمي] تقديمَ منتجاتٍ تعكس بدقة تقريباً الخطر المراد تحمله ويساعد في تكوين القرارات المتعلقة به من خلال تصميم نماذج (models) غاية في الدقة لتقييم الأخطار والتنبؤ بها. ويمكنه أيضاً تشخيص أخطار جديدة تكون الحاجة للحماية منها عالية. أخيراً، لا حاجة للتأكيد على العلاقة القوية بين البحث والتعليم. البحث العلمي هو استثمار للمستقبل. نحن نعلم ان دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) تستطيع مع الوقت زيادة قابليتها الإنتاجية إذا قام أفراد منها بإكمال دراساتهم العليا حيث لا يمكن الاستهانة برأس المال البشري. التوجهات الديمغرافية الحالية تشير إلى نقص العاملين في مجال التأمين ويظل تدريب الأفراد في هذا القطاع يُشكّل تحديا كبيرا.

إن هذه الاعتبارات تقودنا بالتأكيد إلى أسئلة متنوعة في حيثيات تمويل البحوث. هل نستطيع خصخصة البحوث الأساسية مع الحفاظ على جعل نتائجها بمتناول الجميع؟ هل من الضروري جعل العلوم التطبيقية حكراً خاصاً بالشركات أو نرضى بإدراجها في مشاريع عامة؟ هل من الممكن إيجاد أرضية تعاون بين القطاعين العام والخاص قادرة على أن تحافظ على مصالح الشركات والمجتمع بنفس الوقت؟ يبدو أن القطاع المصرفي قد نجح في الإجابة على هذه الأسئلة من خلال تفاعله مع الوسط الأكاديمي. ومن حقنا أن نتساءل عن عدم اهتمام صناعة التأمين باقتصاديات التأمين والعلوم الاكتوارية. الجواب الأول يأتي من وجود منتجات مالية معقدة تستدعي نماذج وتقنيات جديدة لتقييم الأصول المالية. ومن غير الواضح إذا كانت الطرق الإحصائية والمنتجات التأمينية قد تعرّضت لنفس التطورات. ثانيا، استفادت البحوث في قطاع المال من مجموعة كبيرة من المعطيات لتقييم نماذجه، واختبار نتائجه وتطبيقه مباشرة من قبل العاملين فيه. لسوء الحظ مثل هذه المعطيات عن التأمين غير متوفرة، مما يؤثر على توسيع  البحث.

توجهات البحث في مجال التأمين

إن البيئة الاقتصادية الحالية تتمثل بالترابط المتزايد بين الأخطار والنشاطات مما يؤدي إلى زيادة الإحساس بالانكشاف أمام الأخطار والحاجة إلى الحماية. لذلك سيلعب التأمين دورا كبيرا في عدد من القطاعات الاقتصادية. ماهو المتوقع من البحث العلمي في حقل التأمين؟ ماهي مجالات البحوث الملائمة التي تلتقي مع الاهتمام المتزايد بقطاع التأمين مستقبلا؟ الإعتبار الأول يكون بتمييز البحث الذي نتائجه ليست محددة بالتأمين فقط، مثل البحوث المتعلقة بالابتكار، والأخطار المتعلقة بالبيئة، والديموغرافيا … الخ، مِن البحوث المتعلقة بالتأمين كما يجري تطويرها في إطار العلوم الاكتوارية واقتصاديات الخطر والتأمين. وقد حددت جمعية جنيف، من خلال برامجها البحثية، عدداً من التوجهات التي تستحق تحليلاً مكثفاً واستثماراً للبحث الأكاديمي، والتي يمكن أن توفر تطبيقات للمزيد من البحوث الأساسية. لن نقدم قائمة مسهبة هنا لكننا سنطرح بعض التوجهات التي لها الأولوية.

قطاع المال، الملاءة والمحاسبة

إن المقاربة المالية لقطاع التأمين مرت بتطورات ملحوظة من خلال قياس الملاءة والمحاسبة (solvency and accounting). وقد تم تعزيز هذه القضايا مؤخراً بالتعديلات التي أدخلت على قواعد الملاءة المصرفية (Basle II)، والاصلاحات في معايير المحاسبة الدولية (IAS) واطلاق الاصلاحات في الإطار الاوربي للتأمين (Solvency II). السؤال المهم هنا هو الفهم الأفضل لهذه المتغيرات وعواقبها لقطاع التأمين. بصورة عامة، من الضروري فهم كيفية توزيع رأس المال وإدارته في المؤسسات المالية. ومن الضروري أيضا معرفة مصادر عدم الكفاءة في المجموعات المالية. وأخيراً، فهم الابتكارات المالية الاخيرة في مجال توريق (securitization) صنوف معينة من الخطر تحتاج إلى تطوير.

القانون والمسائل الرقابية

مع التطور الحالي في تنظيم أسواق التأمين، يمكننا التساؤل عن القيمة التي أضافتها قوانين تنظيم الخدمات المالية في عالم يكون فيه عرض الخدمات وطبيعة المنتجات المالية في الغالب معقداً ومبهماً. هل هناك ضرورة لمنظم [مراقب] واحد لجميع الخدمات المالية أو وجود عدة منظمين اعتماداً على نوع الخدمة؟ هذا بدوره سيدفعنا للتساؤل حول فعالية نظام [للمراقبة] مقارنة بنظام آخر. بنفس الطريقة، كيف يمكننا أن نُقدّر الكلفة لشركة التزامها بالقوانين التنظيمية غير متكامل ومساعدة صناع القرار [في مثل هذه الشركات] لكي يفهموا بشكل أفضل عواقب اختيارهم؟ من وجهة نظر قانونية، فإن قضايا المسؤولية لاتزال في الواجهة، وتحديداً في القطاعات الطبية والبيئية حيث أسعار التغطية التأمينية لأخطار المسؤولية قد تزايدت بشكل كبير في السنوات الأخيرة. إن خطر المسؤولية حالة خاصة من حيث المبدأ إذ أن الفترة بين تحديد الخطر ودفع التعويض عن الضرر غالباً ما تكون  طويلة. مثل هذه العقود الطبية والبيئية تمر بدورات مهمة مما يجعل من تقدير الخسائر مسألة حساسة جدا.

الشيخوخة، التقاعد والتأمين الصحي

تبين الاتجاهات الديموغرافية الجديدة ظهور تغيرات جوهرية من حيث ادارة المخاطر المتعلقة بالحياة. كيف يمكننا تغطية هكذا خطر؟ من الضروري استيعاب القرارات الاستهلاكية خلال فترة حياة الفرد وبذلك يتم تقليل العبء على افراد المجتمع الذين قد يتخذون خيارات خاطئة وباهظة الثمن. هذا بدوره يتطلب فهماً افضلَ للعواقب المتأتية من رسملة أكبر لأنظمة الحماية الاجتماعية. كيف يمكن تصميم الآليات الخاصة والعامة لتمويل الأنظمة الصحية لدعم الابتكار (بدون توليد نفقات اضافية)، وتحسين نوعية العناية وتقليل الأخطاء الطبية؟ من المهم أيضاً أن نفهم بشكل أفضل المؤثرات الديموغرافية على الأنظمة الصحية، من حيث تدريب الكادر الطبي، وأنواع الرعاية الصحية، وتوزيع وتمويل العناية. أخيراً، هذه الاتجاهات الديموغرافية يجب أن تعزز التفاعل بين الأنظمة التقاعدية والصحية مما يحتاج إلى وقفة عالمية.

إدارة الخطر

مع ازدياد الترابط بين النشاطات البشرية، أصبحت الأخطار مرتبطة ببعضها أكثر فأكثر مثل أحجار الدومينو. كيف يمكننا قولبة [وضع نموذج] وقياس وإدارة هذه الأخطار؟ ما هي الصعوبات النظرية والعملية؟ إن الأخطار التشغيلية مثالٌ واضحٌ وتحتاج إلى معالجة خاصة من قبل المؤسسات المالية وغير المالية. وإذا كانت طرق إدارة الخطر الحالية غير مثالية، يجب التفكير في الاستفادة من النظريات والمناهج والممارسات المعتمدة في فروع المعرفة الأخرى في هذا المجال. هل سنستفيد من سبر مجالات أخرى مثل علم المناخ، علم الاجتماع، علم الانسان (الأنثروبولوجيا) والهندسة العالية؟ أخيراً، يمكننا التساؤل عن امكانية إدارة خطر المؤسسة [المشروع، الشركة] Enterprise Risk Management بشكل تطبيقي ليتم استخدامه بشكل مباشر من قبل الشركات أو الافراد.

القابلية التأمينية والمزج بين القطاعين العام والخاص

هذا الموضوع [القابلية التأمينية أو التأمينية اختصاراً insurability][3] هو من كلاسيكيات اقتصاد التأمين الذي ارتبط مع أول دراسة قام بها برلينر Berliner(1982) حول مفهوم القابلية التأمينية. وتظل هذه الدراسة دائماً أساسية وتثير الكثير من الأسئلة المهمة مثل: كيف يمكن تكوين إطار نظري ووضع مجموعة من المبادئ تشمل القطاعين العام والخاص لأغراض توزيع الخطر؟ كيف يمكن أيضاً تعويض الضحايا من الأضرار الناتجة عن الأخطار طويلة الأمد مثل التعرض للمواد السامة والخطرة؟ كيف يمكن تحسين آلية إدارة الخطر المرتبط بالأحداث الطبيعية والارهاب وغيرها من الأخطار الكارثية؟

الخاتمة

هذا المقال المختصر بـيّن أهمية البحث العلمي لقطاع التأمين، ليس فقط لكون البحث حيوياً لتحفيز الباحثين للعمل على مواضيع متعلقة بالتأمين بل تقديم الوسائل للقيام بذلك. ان التخصيص الحديث لمقاعد اكاديمية لدراسة الخطر في الجامعات الفرنسية ومراكز البحوث الممولة من قبل شركات التأمين هي خطوة مهمة في هذا الاتجاه، وهي علامة قوية على اهتمام صناعة التأمين يعكس صورة طويلة الأمد على أهمية دور ووظيفة التأمين وإدارة الخطر في الاقتصاد. وعطفاً على ما تقدم فإن جمعية جنيف تدعم هكذا مبادرات وتنوي ان تصبح أحد المشاركين الأساسيين فيها. ويجب ان لا ننسى أن عملية خلق الأفكار وتوزيع المعرفة في مجال التأمين كان من الأهداف الأساسية لمؤسسي الجمعية.

المصادر

Berliner, B., Limits of Insurability of Risks, Englewoods Cliffs, 1982.

Dionne, G. (Ed); Handbook of Insurance, Kluwer Academics Publishers, 2000.

Liedtke, P. (Ed); Ventures in Insurance Economics and Strategy, Blackwell Publishing, 2003.

Liedtke, P. et Courbage, C. (Eds); Insurance and September 11 – One Year After, PWS Publishing, 2002.

Loubergé, H.; “Risk and insurance economics – 25 years after”, The Geneva Papers on Risk and Insurance – Issues and Practices, no 89, 1998, p. 540-567.

Authors: Christophe Courbage and Patrick M. Liedtke are respectively Head of Research Programme andSecretary General and Managing Director of The Geneva Association.

تمت الترجمة في 9 نيسان/أبريل 2014

[1]هذا النص هو نسخة مختصرة من مقالة منشورة في Risques – Les cahiers de l’assurance, vol 69, 2007, pp. 111-115

[2]وهي السنوات الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى عام 1975 (المحرر).

[3]للتعريف بالتأمينية من منظور تاريخي أنظر: جيفري كلارك، “وجهة نظر تاريخية عن التأمينية”، نص مترجم في كتاب مصباح كمال، مؤسسة التأمين: دراسات تاريخية ونقدية (مصباح كمال: مكتبة التأمين العراقي، 2014)، ص 60-76.

في تقديمه لترجمة هذه الدراسة ذكر المترجم أنه “ليس لنا في اللغة العربية مقابل واضح وسهل للمفردة الإنجليزية (insurability) ولذلك استخدمنا كلمة “التأمينيّة” (بدلاً من قابلية الخطر للتأمين من عدمه) كمصدر صناعي (ياء مُشددة وتاء تأنيث في آخر الكلمة).  والقارئ اللبيب يعرف كيف يُفرّق بين استعمال هذه المفردة حسب السياق الذي ترد فيه كمصدر صناعي وكأسم منسوب (صفة) كما في قولنا الحماية التأمينية.  وأتمنى على من هو ضليع باللغة العربية أن يُسعفنا في بيان صحة هذا الاستخدام أو تقديم بديل مناسب.” ص 60-61 (المحرر)