Monthly Archives: ديسمبر 2014

World Insurance: The Evolution of a Global Risk Network

عرض كتاب

نشر ترجمة هذا العرض في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين

عرض كتاب: بيتر بورشايد، ونيلز فيجو هويتر، المحررين، التأمين العالمي: تطور شبكة الأخطار العالمية. أكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، 2012. عدد الصفحات 16+ 729 (تجليد فني)، السعر 180 دولار، ردمك: 978-0-19-65796-4.

بيتر بورشايد، ونيلز فيجو هويتر، المحررين، التأمين العالمي: تطور شبكة الأخطار العالمية. أكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، 2012.  عدد الصفحات 16+ 729 (تجليد فني)، السعر 180 دولار، ردمك: 978-0-19-65796-4.

Peter Borscheid and Niels Viggo Haueter, editors, /World Insurance: The Evolution of a Global Risk Network/. Oxford: Oxford University Press, 2012.  xvi + 729 pp. $180 (hardcover), ISBN: 978-0-19-65796-4.

Published by EH.Net (August 2013)

All EH.Net reviews are archived at http://www.eh.net/BookReview

عرض

جيفري كلارك، قسم التاريخ، جامعة ولاية نيويورك في بوتسدام

ترجمة

مصباح كمال

هذا الكتاب الضخم حول انتشار وتكامل خدمات التأمين على المستوى العالمي يأتي في أعقاب صدور مجموعتين من المقالات الأقل شمولاً بكثير حول عولمة التأمين خلال القرنين الماضيين.[1] الدراستين السابقتين كانتا واعيتين بكونهما جهوداً رائدة لرسم معالم مشهد تاريخي معقد ومترامي الاطراف والتي نادراً ما قام الباحثون بسبر أغوارها حتى الآن.  ومع صدور التأمين العالمي: تطور شبكة الأخطار العالمية فإن تطور وانتشار التأمين في جميع أنحاء العالم قد تم تناوله بوضوح قاطع على الرغم من أنه ليس دراسة نهائية.  ولأول مرة فإن المؤرخين، الذين يبحثون عبر مجموعة من الموضوعات تشمل المالية والتحديث الاقتصادي والرعاية الاجتماعية وحتى الدين، صار بإمكانهم الاستفادة من دراسة منهجية لكيفية تحويل صناعة التأمين لبيئة المخاطر التي يواجهها بلايين الناس في مختلف أنحاء العالم، وكيف أن هذه العملية قد جمعت معاً اقتصاديات وثروات المجتمعات والثقافات النائية.

وبرغم هذا القول فإن قلة من القراء لديها المثابرة لقراءة هذا الكتاب من أوله إلى آخره، وهو ما توقعه المحررين بحكمة من خلال عرضهما لموضوعه.  فقد قدّم بيتر بورشايد ملخصاً موجزاً رائعاً للمواضيع الأساسية في مقدمة عامة، متبوعاً بستة أقسام مخصصة تباعاً لتغطية التطورات في أوروبا وأمريكا الشمالية وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والشرق الأوسط وشمال أفريقيا والشرق الأقصى والمحيط الهادئ وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. كل إقليم من هذه الأقاليم يخضع لنظرة تمهيدية عامة بقلم بورشايد، تليها عدد من المقالات تركز على بلدان معينة.

هذا التنظيم في عرض المقالات يسمح بسهولة للقراء لتكوين صورة للميزات العريضة لأعمال التأمين العالمية أو الغوص في تجربة منطقة معينة أو أمة واحدة. التغطية الجغرافية ليست موحدة – وربما لا يمكن أن تكون كذلك في ضوء حقيقة أن خدمات التأمين في العصر الحديث انطلقت إلى حد كبير من المملكة المتحدة وتم تبنيها أولاً وبقوة في أوروبا وأمريكا الشمالية. وتنعكس الفروق الشاسعة في الثروات على مستوى العالم والاختراق التأميني الذي لا يزال مستمراً حتى وقتنا الحاضر في سرد يتوزع في ثمانية فصول تغطي الدول الأوروبية على انفراد بينما يتناول فصل واحد فقط التاريخ الوطني للدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، وهي الحالة الاستثنائية جداً لجنوب أفريقيا. وتتضح هذه الفجوة أيضاً في الملاحظة المذهلة لبورشايد أنه (لو تركنا جنوب أفريقيا جانباً) فإن مجموع أقساط التأمين المدفوعة حالياً في جميع بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يعادل مجرد 1.5 مرة من أقساط التأمين المنفقة في إمارة ليختنشتاين الصغيرة (ص 324).

أحد المواضيع المحورية الذي ينتظم المقالات في كتاب التأمين العالمي، ويجادل بورشايد بقوة بشأنه، هو أن انتشار التأمين في جميع أنحاء العالم ارتبط ارتباطاً وثيقاً بهجرة الأوروبيين أنفسهم بدلاً من مجرد تصدير فكرة التأمين وحدها.[1]  فقد تركزت خدمات التأمين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أساساً على الممتلكات وأرواح الأوروبيين الذين استقروا في الخارج.  وحتى عام 1950، للاستشهاد بمثال صارخ في هذا الوقت المتأخر، فإن 99 في المائة من حاملي وثائق التأمين في إثيوبيا كانوا من المقيمين الأجانب (ص 316).  وتُقدم هذه المقالات عدة تفسيرات للاعتماد البطيء لعادة التأمين من قبل السكان الأصليين.  فانتشار الفقر على نطاق واسع في العديد من المناطق جعلت من شراء بوالص التأمين ببساطة أمراً بالغ الصعوبة، في حين أن استمرار الشبكات المجتمعية والقرابية للمساعدات المتبادلة قلّلت الحاجة إلى التسهيلات التي توفرها مرافق التأمين على النمط الأوروبي.

من ناحية أخرى، وكما يشير بالاچاندران، فإن الأحكام الاستعمارية المسبقة دفعت شركات التأمين الغربية إلى أن تكون حذرة من مد مظلة الحماية التأمينية للسكان الأصليين.  واحدة من مجلات التأمين الصادرة في عام 1891 اعترضت بأن الهنود يشكلون مخاطر [تأمينية] سيئة لأنهم عرضة للموت المبكر وأنه من الصعب تشخيصهم بشكل إيجابي، وأن هذه الحقيقة تشجع على الاحتيال لأن “سكان البلد الأصليين، كقاعدة عامة، … ينقصهم الحس الأخلاقي في مسألة إقرار الحقيقة” (ص 447). وفي الختام، فإن الوازع الديني قد حال أحياناً دون قبول التأمين، وخاصة في شبه الجزيرة العربية المحافظة، وذلك لأن الشريعة الإسلامية لا تعترف بعقود التأمين وتحظر المضاربة على حياة الإنسان.  وفي خطوة تذكرنا بالمحاولات الأوروبية السابقة للتحايل على الحظر المفروض على الربا، فإن شركات التأمين في البلاد الإسلامية ابتكرت التكافل، وهو شكل من أشكال التأمين التبادلي يتوافق مع الشريعة الإسلامية.[2]

على الرغم من أن أحد الأهداف المعلنة لكتاب التأمين العالمي هو توفير السياق الثقافي لسرعة انتشار التأمين في جميع أنحاء العالم (ص 1)، إلا أن الانتباه يتركز على الأبعاد الاقتصادية والسياسية لهذا التطور. وقد تم تدشين الموجة الأولى لعولمة التأمين في عصر الليبرالية مع قيام القوى الأوروبية بإنشاء المرافق الاكتتابية في الجيوب الاستيطانية ومن ثم بدأت بتطوير السوق المحلية لتأمين أخطار الحريق، والممتلكات والحوادث، وإلى حد أقل بكثير، التأمين على الحياة.

نحو نهاية القرن التاسع عشر بدأت الدول الأوروبية بإقامة حواجز حمائية ضد شركات التأمين الأجنبية، وهي خطوة تم تكرارها في العقود التالية في بلدان آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، التي فرضت قيوداً مختلفة على [مستوى] الاحتياطيات التي يجب الاحتفاظ بها، والعملة، والضرائب التمييزية على الشركات الأجنبية، لمنع تدفق رأس المال نحو الخارج، وتعزيز صناعات التأمين المحلية.  وفي كثير من الحالات نجحت هذه الجهود في تطوير السوق المحلية، لكن ذلك كان على حساب أشياء أخرى: فالعديد من الشركات التي دخلت في هذه الأسواق الناشئة كانت دون رسملة كافية وكانت سيئة في الإدارة، مما دفع الحكومات في أوروبا وحول العالم للبدء بغربلة تنظيمية دورية للشركات الضعيفة.

وعلى أي حال، فإلى أي مدى يمكن حقاً أن تكون أسواق التأمين الوطنية معزولة عن الاقتصاد العالمي كان مقيداً بفائض المخاطر [وهي المخاطر التي تزيد عن القدرات المالية للشركات المحلية لاستيعابها لحسابها الخاص] المسندة من قبل شركات التأمين المحلية إلى شركات إعادة التأمين الدولية مثل الشركة السويسرية لإعادة التأمين (وليس من قبيل الصدفة، أن هذه الشركة هي الراعية لهذه الدراسة التاريخية حول تدويل التأمين).  لقد وصل هذا العصر الحمائي إلى نهايته في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي مع ما تصفه هيرونيا بونز بتدشين الموجة الثانية من عولمة التأمين، التي انطوت على تخفيف القيود على شركات التأمين الأجنبية؛ وسلسلة من عمليات الاندماج والاستحواذ؛ وإنشاء شركات تابعة أجنبية؛ وتحقيق مزيد من الكفاءة نتيجة المنافسة القوية.

تقلبت فرص انتشار التأمين أيضاً مع المد والجزر في برامج خصخصة التأمين أو تحويله لملكية المجتمع.  ويوفر إنشاء الاتحاد السوفياتي وجمهورية الصين الشعبية أكثر الأمثلة إثارة لتحويل ملكية خدمات التأمين [من القطاع الخاص] لسيطرة الدولة. ولكن سواء تم تحويل الملكية باسم الاشتراكية أو الفاشية أو الديمقراطية الاجتماعية أو القومية المناهضة للاستعمار، فإن تسنم الدولة مسؤولية توفير الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية، أو التعويض عن الخسائر الناجمة عن الحرائق والفيضانات، أو الخسائر في الأرواح، كل ذلك قلّص من أو قضى على حرية القيام بأعمال التأمين العابرة للحدود الوطنية.[1]

إن العودة مؤخراً إلى التركيز على المشاريع الخاصة الأقل خضوعاً للرقابة في توفير غطاء التأمين، فضلاً عن تقديم الخدمات المالية الأكثر تكاملاً والتي تجسدت في التأمين عبر المصارف (bancassurance)، هو مجرد أحدث تأرجح للبندول في اتجاه سيطرة القطاع الخاص، متمثلاً الآن بسلطة الشركات متعددة الجنسية وأيديولوجية الليبرالية الجديدة.  وفيما إذا كانت الكارثة المالية بعد عام 2008 ستدفع باتجاه العودة إلى بيئة رقابية أكثر صرامة وإلى نمط جديد من نهج الدولتية في مجال التأمين هو السؤال الذي يجب أن ينتظر تكملة لكتاب التأمين العالمي لبورشايد وهويتر الفخم الذي وضع معايير البحث في مجاله.

ملاحظة:

Note:

  1. Peter Borscheid and Robin Pearson, editors, Internationalisation and Globalisation of the Insurance Industry in the 19th and 20th Centuries (Marburg: Philipps-University, 2007).

Robin Pearson, editor, The Development of International Insurance (London: Pickering & Chatto, 2010).

Geoffrey Clark is Professor of History at the State University of New York at Potsdam. He is the author of Betting on Lives: The Culture of Life Insurance in England, 1695-1775 and co-editor of The Appeal of Insurance. He is working on a study of slavery insurance in the late medieval Mediterranean.

[1] ارتبطت بعض موجات الهجرة بالتوسع الاستعماري “فخلال المرحلة العاصفة من العولمة في أوائل القرن العشرين أثبتت التجارة والهجرة كونهما الوكيلين الأكثر كفاءة لصناعة التأمين.  ففي عصر الإمبريالية الأوروبية … احتل التجار كل ركن من أركان الكرة الأرضية يعد بالربح، وجاء التأمين في اعقابه.” (ص 62).  [المترجم]

[2] يرد في الكتاب (ص 85) أن الجماعة الإسماعلية، وقائدها الروحي آغا خان الثالث، قامت عام 1937 بتأسيس شركة تأمين في ميناء مومباسا، وهي أول شركة تأمين أفريقية وطنية، فتحت فروعاً لها في دار السلام، وكمبالا، وزنجبار، وموريشيوس، وبومباي، وكراتشي.  ويعلل بيتر بورشايد اهتمام هذه الجماعة الإسلامية بالتأمين بالقول انها أكثر ليبرالية في إيمانها من غيرها، وتسمح بالتفسير الفردي للقرآن، وهي بذلك، خلافاً لغالبية المسلمين، لم ترى في تسديد شركات التأمين للفوائد سبباً لرفض التأمين.  [المترجم]

[1] تنصب الإشارة إلى حرية العمل عبر الحدود على حرية شركات التأمين الغربية، دون الاهتمام بالتوجهات المحلية لتطوير الصناعات والخدمات الوطنية ومنا تكوين وتطوير سوق وطني للتأمين.

كما أن تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية لم يكن دائماً موضوعاً للتساؤل، والكتاب الحالي يعرض هذا الدور فيما يخص الخدمات التأمينية وتأسيس دولة الرفاهية الاجتماعية (ص 93-96) [المترجم]

ISIS and its Impact on Iraq’s Insurance Market

آثار داعش على قطاع التأمين العراقي

مصباح كمال

نشرت هذه المقالة في شبكة الاقتصاديين العراقيين
http://iraqieconomists.net/ar/2014/10/26/

مدخل

ينصبُّ اهتمام الكتابات الغربية، باللغة الإنجليزية، على حاجات المستهلك الغربي ومواقف أسواق التأمين الغربية، ولا تعير أي اهتمام بمصائر سوق التأمين العراقي. وكالعادة، لم يكتب ممارسو التأمين في العراق عن تأثير تدهور الأوضاع الأمنية وخروج مناطق من سيطرة الحكومة الاتحادية على النشاط التأميني ومستقبل هذا النشاط.

هذه المقالة هي محاولة للاقتراب من دراسة تأثير داعش الحالي والمحتمل على تطور قطاع التأمين العراقي. آمل أن يقوم ممارسو التأمين في العراق، والمهتمين بالشأن التأميني، بملء الفجوات وتوفير البيانات الكمية واجتراح السياسات للتعامل مع التاثيرات الداعشية.

لقد صارت داعش جزءاً من البلاء العراقي المتمثل بسيادة التفكير الطائفي والإثني وفي المحاصصة في إدارة الدولة والحكومة. نأمل أن ينتهي هذا البلاء مع زوال داعش. عندما نقرأ ونكتب علينا أن نتذكر عذابات الناس العاديين في العراق والقتل بالجملة والجرائم الأخرى التي يتعرضون لها، وسرقة أحلامهم في العيش الكريم. علينا أيضاً أن نتذكر أن ما نكتبه اليوم قد يصبح غير صحيحاً في الأيام القادمة بفعل التغيرات المستمرة على أرض الواقع، إضافة إلى أن الأخبار المنشورة ليست دائماً متسقة وقد تكون غير صحيحة.

هناك الكثير من التحليلات السياسية لصعود داعش بعضها تؤكد على السياسات الاقصائية والتهميشية للحكومات العراقية ودور الولايات المتحدة وأدوار دول أخرى وكذلك التنازع بين حكومة الاتحاد وحكومة الإقليم. ولسنا هنا بصدد الخروج باستنتاج معين سوى التعبير عن تخوف من تدهور اقتصادي ومادي كالذي شهدته بلدان أخرى، وكما نلاحظه في مشاهد الدمار التي تخلفها الأعمال العسكرية، وكذلك تدهور سياسي وانفراط “العقد السياسي” الذي يقوم عليه النظام السياسي الحالي.

اهتمام اقتصادي بالتداعيات الداعشية على التأمين

كتب د. علي مرزا مقالة مهمة بعنوان “آثار اقتصادية لوضع جيوسياسي متغير في العراق” ذكر فيها التأثير الاقتصادي السلبي لنهوض داعش وخروج بعض المناطق من سيطرة الحكومة الاتحادية. وفي عرضه لأهم الآثار الاقتصادية السلبية للوضع الذي فرضه تقدم داعش في شمال غرب العراق ذكر، في الفقرة 6 من هذه الآثار، فيما يخص موضوع مقالتنا، ما يلي:

“تأثر حركة الطيران الدولية الجوية للعراق وارتفاع تكاليف النقل والتأمين.
يقود الوضع المتوتر في العراق إلى تجنب شركات الطيران من الهبوط والإقلاع من العراق. لا بل أن العديد من هذه الشركات أخذ يتجنب الطيران في المجال الجوي العراقي في رحلاته إلى بلدان أخرى يقع العراق في طريقها (مدفوعاً بتصاعد العمليات العسكرية وكذلك حادثة سقوط الطائرة الماليزية فوق أوكرانيا في أواخر شهر تموز). وحتى الشركات التي ستستمر في الهبوط والإقلاع فإن رسوم [أقساط] التأمين قد ترتفع لتزيد كلفة السفر ونقل البضائع ولتزيد العزلة التاريخية التي وضع [؟] العراق بها نفسه طيلة العقود الخمسة الماضية.”

هذا هو الحال في كل الأزمات حيث تأخذ أسعار التأمين في الارتفاع وتتشدد شركات إعادة التأمين العالمية في فرض شروطها للاكتتاب بالأخطار المعروضة عليها. كان هذا هو الحال الذي ارتبط مع بدء الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988). ولكن كانت مساحة التحرك آنذاك، في العراق وفي الدول العربية، ضد هذا الارتفاع مُتاحة، تجلّت في تأسيس الصندوق العربي لتأمين أخطار الحرب فيما يخص التأمين البحري. لكن مثل هذه الحرية في التحرك غير موجودة في الوقت الحالي، فلا قطاع التأمين العراقي يتمتع بقوة أو قيمة مالية مهمة تذكر ولا قطاع التأمين العربي يتمتع برؤية تشمل عموم البلاد العربية رغم وجود الاتحاد العام العربي للتأمين. ولذلك يظل قطاع التأمين العراقي ضحية لتطورات هو غير قادر على التعامل معها بفعالية، فقد قوّضت سنوات الحصار الدولي (1990-2003) مكانة هذا القطاع واستنزفت موارده البشرية ودفعت به إلى الحضيض. ولم يتقدم القطاع إلا ببطء شديد بعد الغزو الأمريكي فقد أرهقه قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 (الأمريكي الصنع) وحرّمه من ملايين الدولارات من أقساط التأمين التي انتهت في خزائن شركات التأمين وشركات إعادة التأمين الأجنبية. وها نحن نشهد ضربة جديدة للقطاع متمثلة بداعش.

لعله من المفيد أن نضيف تعليقاً قصيراً إلى ما ذكره د. مرزا وهو أن “الوضع المتوتر في العراق [يقود] إلى تجنب شركات الطيران من الهبوط والإقلاع من العراق. لا بل أن العديد من هذه الشركات أخذ يتجنب الطيران في المجال الجوي العراقي في رحلاته إلى بلدان أخرى يقع العراق في طريقها.”

شركات الطيران تتجنب الهبوط والإقلاع في بعض المطارات العراقية الواقعة في المناطق التي خرجت من سيطرة الحكومة الاتحادية في الوقت الحاضر ومنها مطار الموصل. المطارات الأخرى تعمل بانتظام، كما يبدو. أما تجنب الطيران في المجال الجوي العراقي فإنه ليس واضحاً تماماً. فالمعروف أن شركات الطيران الكبيرة تتزود بمعلومات مستمرة وذكية عمّا يجري على الأرض (لنتذكر هنا لجوء بعض شركات الطيران إلى تحويل رحلاتها من تل أبيب عندما كانت إسرائيل تقوم بتدمير البنى التحتية لقطاع غزة في الفترة تموز-آب 2014). والمعروف أيضاً أن شركات الطيران تستطيع الاستمرار في استخدام المجال الجوي الاعتيادي لرحلاتها وذلك بتحليق طائراتها على ارتفاع يقع خارج نطاق المدافع المضادة للطائرات.

ومع ذلك فإن تكاليف النقل البحري والجوي والبري تميل إلى الارتفاع مع بروز الأزمات، وكذلك ارتفاع تكاليف شراء التأمين. يُضاف إلى ذلك أن الخسائر الكبيرة تدفع مكتتبي التأمين إلى زيادة الأسعار. وبالنسبة لقطاع الطيران فقد شهد هذا العام عدداً من الخسائر ومنها: حادث الهجوم الصاروخي على مطار بغداد أوائل 2014 حيث قدرت الخسارة بمليوني دولار. واختفاء الطائرة الماليزية في آذار (كلّفت شركات التأمين 108 مليون دولار فيما يخص هيكل الطائرة و 380 مليون دولار للتعويض عن المسؤوليات القانونية). وبعدها في تموز، تضررت طائرات في مطار طرابلس في ليبيا (بلغت كلفتها التأمينية 233 مليون دولار)، وتبع ذلك إسقاط الطائرة الماليزية في أوكرانيا في تموز (97 مليون دولار لهيكل الطائرة و 400 مليون دولار للتعويض عن المسؤوليات)، وسقوط طائرة سْوفت إير، العاملة للخطوط الجوية الجزائرية، في تموز أيضاً، وقدرت تكاليف الحادث بـ 4 مليون دولار لهيكل الطائرة و 85 مليون للمسؤوليات.

الآثار المباشرة وغير المباشرة

تمثَّلَ الأثر المباشر بتعطيل عمل فروع شركات التأمين العاملة في الموصل وفي تكريت. على سبيل المثال، فإن مكتب فرع شركة التأمين الوطنية العامة في الموصل تعرّض إلى أضرار مادية ومنها كسر زجاج النوافذ وسرقة مسلحي داعش لبطاريات المولدات الكهربائية في المكتب. وقد توقف الفرع عن العمل وبات موظفوه ملازمين لبيوتهم لكن الدولة ما زالت مستمرة بدفع رواتبهم الشهرية. وينطبق هذا الأمر على فرع الشركة في تكريت مع فارق أن الفرع هنا يقوم بتوفير بعض الخدمات التأمينية من مدينة سامراء لكن هناك صعوبات أمنية تحول دون انتظام هذه الخدمات. ويبدو أن فرع الشركة في كركوك يعمل بشكل اعتيادي.

لم نجرِ مسحاً لأوضاع شركات التأمين الأخرى في إقليم كوردستان، ونفترض بأنها تعمل بشكل اعتيادي اعتماداً على استمرار فرع شركة التأمين الوطنية في كركوك في العمل رغم أن المدينة شهدت بعض التجاذبات. لكن حجم الأعمال التي تكتتب بها تأثر سلباً من جراء العمليات العسكرية على تخوم المدينة.

إن التطورات الحالية تؤثرُ سلبياً على النشاط التأميني ونوجزها بالآتي:

عرقلة ووقف تنفيذ المشاريع الهندسية الحكومية المتعاقد عليها مع المقاولين الأجانب، كما هو الحال بالنسبة لمشاريع توليد الطاقة وغيرها في المناطق الغربية، وتأجيل إحالة عقود إنشائية جديدة.

تعريض بعض المنشآت والمعامل المؤمنة، ومنها المنشآت النفطية، إلى خطر الأعمال العسكرية، وبالتالي تخوف شركات إعادة التأمين العالمية من الاستمرار في توفير الحماية الإعادية لشركات التأمين العراقية فيما يخص تأمين هذه المنشآت. والمعروف أن بعض المنشآت، كمصفى بيجي وبعض أنابيب نقل النفط، أصبحت مسرحاً نشطاً للعمليات العسكرية رغم عدم وضوح الأخبار بشأنها.

يضاف إلى ذلك أن داعش تقوم بعمليات نهب منظمة لمحتويات بعض المعامل قبل نسفها. ففي خبر نقلته طريق الشعب (12 تشرين الأول 2014، ص 2) نقرأ بأن تنظيم داعش فجّر معمل خياطة بَرْطَلّة للألبسة الجاهزة شرقي الموصل (تابع لوزارة الصناعة والمعادن وانشئ عام 2013 بتمويل من منظمة انسانية بكلفة 14 مليار دينار عراقي، كمشروع خيري وفرَّ فرصة عمل لأكثر من 500 شخص من أهالي المنطقة) مما أسفر عن تدميره بشكل كامل، فيما أكد مسؤول أمني في محافظة الموصل أن عناصر التنظيم صادروا مكائن الخياطة والاثاث في المعمل قبل أن يفجروه.

ربما كان هذا المعمل مؤمناً عليه لدى إحدى شركات التأمين العراقية وقد توقف تأمينه الآن بعد زواله من الوجود. وهكذا يخسر أصحاب المعامل مصانعهم، وتخسر شركات التأمين فرص الاستمرار بالتأمين عليها، ويخسر الاقتصاد العراقي (إزالة جزء من الثروة الوطنية للبلاد).

وتشمل التداعيات الصعوبات التي تكتنف تسديد أقساط التأمين محلياً وتحويل حصة معيدي التأمين منها إلى الخارج. إن صعوبة حركة أقساط التأمين وكذلك التعويضات تنشأ من تعرُّض القنوات المالية إلى آثار النزاع.

ومن التداعيات الأخرى عدم قدرة الكاشفين ومسوّي الخسائر الوصول إلى مواقعها، هذا في حال أن استطاع المؤمن لهم تبليغ شركة التأمين عن وقوع خسائر لممتلكاتهم المؤمن عليها. ومن الصعب في الوقت الحاضر تقدير حجم الأضرار والمطالبات بالتعويض نظراً لعدم استطاعة شركات التأمين الوصول إلى مواقع الممتلكات المؤمنة.

تَشدُّد شركات التأمين في طلب المعلومات التفصيلية عن أشكال الحماية في مواقع العمل وأثناء النقل، سواء كان التأمين ينصبُّ على الحريق، أو كافة أخطار المقاولين، أو النقل البحري أو البري.

نتوقع ازدياد كلفة التأمين على أخطار الطيران ونعني بها تأمين هياكل الطائرات والمسؤوليات القانونية والتعاقدية للخطوط الجوية العراقية، وكذلك تأمين أخطار الحرب للهياكل. وهذه الزيادة ستعكس الاتجاهات العامة في السوق العالمي لتأمين أخطار الطيران، وتعرض إحدى طائرات الخطوط الجوية العراقية للأضرار في مطار بغداد (كانون الثاني 2014)، والوضع الأمني غير المستتب في العراق واستمرار العمليات العسكرية.

ونتوقع أيضاً انكماشاً في الطاقة الاستيعابية المتوفرة (underwriting capacity) في أسواق التأمين العالمية للاكتتاب بأخطار التأمين في العراق. وستستخدم هذه الطاقة بانتقاء واعتماداً على مدى انكشاف مناطق معينة في العراق للعمليات العسكرية وانتظام الحياة العامة من عدمه وتوفر الأمن. وفي الوقت الحاضر، تظل المنطقة الجنوبية هي الأفضل من وجهة نظر المكتتبين في اسواق التأمين الأجنبية.

بالنسبة للطلب المحلي الفعّال على التأمين، وهو على العموم ضعيف على مستوى الأفراد والشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، فإن أي ارتفاع في أسعار التأمين سيكون عاملاً إضافياً للحد من الطلب الفعّال على الحماية التأمينية. وفي أحسن الحالات فإن طالبي التأمين ربما يكتفون بشراء الحدود الدنيا من الحماية التأمينية تتناسب مع قدراتهم المالية.

هناك هبوط واضح في الطلب على التأمين البحري-بضائع، وهو يعكس تقلّص استيرادات القطاع الخاص، وكذلك هبوط في طلب التأمين على الحريق، وتأمين النقد أثناء النقل بالنسبة للمصارف. هذا الوضع يعكس “تأجيل أو تقليص أو إلغاء الإنفاق على المشاريع الاستثمارية وسلع الاستهلاك الدائم. وينطبق ذلك على النشاطين العام والخاص (المحلي والأجنبي). ومما ركز هذا الامر بالنسبة للنشاط العام عدم إقرار مشروع موازنة 2014 والاقتصار بدلاً من ذلك على قواعد إنفاق ترتبط بميزانية 2013 زائداً نفقات ضرورية أخرى خاصة المتعلقة بالجانب العسكري. وعلى مستوى النشاط الخاص تدل مؤشرات جزئية وانطباعية على انخفاض عام في الطلب الاستثماري والاستهلاكي الدائم (خاصة على السكن والأراضي). وسيستمر عدم اليقين هذا، ومن ثم عدم وضوح المنظور الاقتصادي المستقبلي، حتى تنتهي العمليات العسكرية وتنجلي صورة المستقبل.”

يؤشر هذا الوضع على الاعتماد الكلي لقطاع التأمين على وضع الاقتصاد وحركته على المستوى الاتحادي والإقليمي. ولا تقتصر الآثار الداعشية على النشاط التأميني، فقد جاء في خبر أن سوق الأوراق المالية في العراق كان ينمو بسرعة منذ 2009 إلا أن الأزمة الحالية ستؤدي إلى إضعاف ثقة المستثمرين (الوطنيين والأجانب) وإبطاء الاستثمار.

موقف معيدي التأمين

بالنسبة لأسواق التأمين الأجنبية، كسوق لندن العريق، فإن تعاملها مع الأزمات في العالم العربي له تاريخ طويل. وما لم تمنع القرارات السيادية والدولية تعامل شركات التأمين العالمية مع شركات التأمين العراقية وكذلك الاكتتاب بأخطار تأمينية عراقية خارج نظام الرقابة، فإن شركات التأمين العالمية تعرف متى تقدم خدماتها وبأية أسعار وبأية حدود للتعويض.

ومن آثار داعش تقليص حدود التغطية بالنسبة لبعض وثائق التأمين (كتأمين خطر الإرهاب). على سبيل المثال، قبل تفاقم سيطرة داعش على بعض المناطق كانت حدود التأمين تصل إلى 200 مليون دولار للحادث الواحد، واليوم تقلص هذا الحد كثيراً إلى الربع في أحسن الحالات، حسب قرب أو ابتعاد موقع الخطر المؤمن عليه من مناطق النزاع والعمليات العسكرية. وحتى هذا الحد المتدني صار من الصعب الحصول عليه في أسواق التأمين العالمية.

البُعد الاتحادي

عدم انتظام العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كوردستان يؤثر سلباً على تطوير سوق تأمين فيدرالي إذ أن سوق التأمين العراقي شبه ممزق على مستوى الاتحاد والإقليم. وقد عبّر عن هذا الوضع، على مستوى الاقتصاد الكلي، أ. محمد سعيد العضب في تعليقه على دراسة د. مرزا من خلال إثارة التساؤل التالي:

هل فعلا ان العراق بعد هذه الاحداث يتميز بسمات اقتصاد كلي واحد وله سوق موحده؟ بل يبدو ان اقتصاده الهش اخذ في التشتت والانفصام، وبالتالي قد يصعب اعاده كينونة السوق والوحدة الاقتصادية، مما لكل ذلك من اثار سلبيه على الامد البعيد والحد من فرص التطور التنموي الممكنة والمحتملة.

التأمين هو “يتيم القطاع المالي” ووضعه يعكس حال الاقتصاد والتنمية الرثة التي تتبعها الحكومات العراقية منذ الغزو الأمريكي، مثلما يحمل معه الإرث الذي خلفته الدكتاتورية. وفي إطار هذا الوضع فإن التمزيق المناطقي للسوق “الوطني” والعزل الجغرافي الذي تعمل داعش على تعزيزه يضعف دور شركات التأمين بحرمانها من العمل على مستوى الوطن والانكفاء في حدود ضيقة.

إن السياسات التي تطبقها حكومة الإقليم تصبُّ في ذات الاتجاه. فحسب المعلومات المتوفرة، وهي بحاجة إلى تمحيص للتأكد من صحتها، لم تفلح جهود شركتي التأمين العامتين لدى الجهات الحكومية في الإقليم، منذ 2003، لاستعادة نشاط فروعها في الإقليم، مثلما لم تستطع معظم شركات التأمين الخاصة في بغداد فتح فروع لها في الإقليم. وهكذا يجتمع الأثر الداعشي مع ما يبدو أنه انغلاق إثني ورثاثة في العلاقات المحاصصية بين الاتحاد والإقليم لعرقلة تقدم النشاط التأميني على المستوى الوطني.

وتأتي دراسة د. علي مرزا لتؤكد توصيفنا لواقع قطاع التأمين فهو يقول: “لعل أهم اثار استمرار العمليات العسكرية، على مستوى الاقتصاد الكلي، بالإضافة لانعزال المناطق، يتمثل في عدم اليقين من نتائج العملية الاقتصادية.” أي استمرار التنمية الرثة وتأثيرها السلبي على تطور قطاع التأمين على المستوى الوطني.

داعش والتأمين

ليس لأوباش داعش علاقة بمؤسسة التأمين فهم لا ينتمون إلى عصرنا، فقد توقف عندهم الزمن في ماضٍ مُتخيل مشوّه. وما يَرْشَحُ منهم من أفكار سقيمة تكشف عن البلاء الذي يحملونه للعراق فها نحن نقرأ عن «إحياء الرق قبل قيام الساعة»، والمبررات الدينية لإعادة العمل بنظام الرق. لا يحتل التأمين مكاناً لدى أصحاب هذا التفكير المتكلس المتخلف، المنافي لحقوق الإنسان وقيم المساواة والعدالة، فهم لا يحتاجون إلى التأمين.

لندن 20 تشرين الأول 2014

Insurance in the Iraqi Governments 2014 Programme

التأمين في المنهاج الحكومي
قراءة أولية

مصباح كمال

نشرت أصلاً في الثقافة الجديدة، العدد 370، تشرين الثاني 2014، ص 51-63.

المنهاج: بيان لبناء نظام رأسمالي عصري

هذه المقالة هي قراءة سريعة لبعض مواد المنهاج الحكومي فيما يخص مؤسسة التأمين وموقف المنهاج من بعض أشكالها. وهي محاولة للتنبيه وليس التحليل المنهجي. ونبدأ، فيما يلي، بتوصيف النظام الاقتصادي-الاجتماعي الذي ستعمل الحكومة على تحقيقه. وهو، في نظرنا، نظام رأسمالي عصري يحاول تجاوز التنمية الرثة التي شهدها العراق، ولكن دون أي تأكيد على وضع خطة اقتصادية. ومن الملاحظ أن وثيقة الاتفاق السياسي بين الكتل السياسية المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية تخلو من أية إشارة إلى الاقتصاد الوطني والتخطيط الاقتصادي وكأنه موضوع منجز لا يشغل بال الأحزاب والكتل المشاركة في الاتفاق. ربما هو كذلك بفضل الفهم الضّيق لما يسمى بالاقتصاد الحر الذي يردده السياسيون كأطروحة لا تحتاج إلى مناقشة.
هذا المنهاج، الذي يحتمل النقد، يمثل نقلة مهمة في تفكير الطبقة السياسية الحاكمة مقارنة بالحكومة السابقة (فوضى السياسة النفطية، وضعف أو غياب التنسيق بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كوردستان والمحافظات، وغياب الرؤية الاقتصادية، والتخبط في الإنفاق العام .. الخ). ويمكن ملاحظة الفرق بين مضمون هذا المنهاج ومقارنته بالإطار العام لبرنامج الحكومة الاستراتيجي للسنوات 2011-2014 كما ورد في رسالة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في تموز 2011 وجاء فيه:

“هذه الوثيقة .. هي برنامج الحكومة الاستراتيجي، وفيها تظهر المحاور الآتية في لغة واضحة وستكون نصب أعيننا في خلال فترة رئاستنا لهذه الحكومة:

1- أمن العراق واستقراره
2- الارتقاء بالمستوى المعاشي والحياتي للمواطن العراقي
3- تحقيق اقتصاد أفضل وزيادة القدرة التنافسية للمؤسسات العامة والخاصة
4- زيادة إنتاج النفط والغاز لتحسين الاستدامة المالية
5- إصلاح الخدمة المدنية
6- تنظيم العلاقات الاتحادية – المحلي[ية].”

وللقراء أن يحكموا على ما تحقق من هذه المحاور الستة على أرض الواقع خلال السنوات الماضية. ومن رأينا أن حكومة المالكي فشلت في برنامجها الاستراتيجي هذا بدءاً بأمن العراق وانتهاءً بما أسمته بالعلاقات الاتحادية-المحلية. يحدونا الأمل ألاّ يكون مصير المنهاج الحكومي الحالي مشابهاً لما مضى قبله.

المنهاج الحكومي واقتصاد السوق الاجتماعي

نعتمد في هذه المقالة على نص المنهاج الحكومي الذي نشرته جريدة الصباح بتاريخ 9 أيلول 2014. نقرأ الآتي تحت الباب “ثانيا: الارتقاء بالمستوى الخدمي والمعيشي للمواطن”:

“بغية تطوير الواقع الاقتصادي وحماية المواطن العراقي مع [من] الغش والتلاعب وجشع التجار تسعى الحكومة الى تحقيق ما يلي:

حسم توجه الاقتصاد العراقي نحو اقتصاد السوق وتخلي الدولة التدريجي عن النشاطات الاقتصادية.”

ونقرأ تحت الباب “خامسا: الاصلاح الاداري والمالي للمؤسسات الحكومية” عن:

البدء بتطبيق نظام تحصيل أجور الخدمات التي تقدمها الدولة بغية تعظيم موارد الدولة والسيطرة على الهدر والتبذير وتحسين كفاءة الخدمات مع الاخذ بنظر الاعتبار عدم إثقال كاهل الطبقات الفقيرة والمتوسطة بأجور تلك الخدمات.”

وهو ما يعني بناء اقتصاد رأسمالي حديث على النمط الغربي أو ما أسماه د. مظهر محمد صالح اختصاراً باقتصاد السوق الاجتماعي الذي “يتمثل بدعم الشرائح المهمشة والفقيرة من المجتمع مثل العاطلين والمعاقين وغيرهم وذلك بإيجاد حلول علمية تتفق مع المرحلة القادمة بتوفير فرص عمل حقيقية خارج مؤسسات الدولة ورواتب مجزية للعوائل المتعففة التي ازدادت في الآونة الاخيرة لعدة اسباب.” وهو بهذا اختار جانباً من أطروحة اقتصاد السوق الاجتماعي.

وكان د. كاظم حبيب قد طرح موضوعة اقتصاد السوق الاجتماعي في دراسة بخمس حلقات بعنوان “نقاش اقتصادي مفتوح وصريح مع السيد الدكتور برهم صالح، نائب رئيس الوزراء العراقي” (جريدة المدى، أيار 2009). وقمتُ بدوري بمناقشته في مقالتي “التأمين: موضوع مهمل في الكتابات الاقتصادية العراقية.” واقتبس هنا جزءاً من مقالتي لإلقاء بعض الضوء على اقتصاد السوق الاجتماعي وما يعنيه لقطاع التأمين. كانت إحدى النقاط الجوهرية التي أثارها د. حبيب بصيغة السؤال التالي:

“وكيف يُفترض معالجة قطاع التأمين وإعادة التأمين في العراق ليلعب دوره الاقتصادي وكاحتياط ضروري لثروات العراق؟”

كي نتابع موقف د. حبيب من الدور الاقتصادي للتأمين، ولفائدة القارئ، نقتبس مطولاً من دراسته. يذكر د. حبيب أن “الهدف المركزي منذ الآن وعلى مدى السنوات العشرين القادمة” يتركز “في تخليص العراق من التخلف والاعتماد الوحيد الجانب على موارد النفط في تكوين الدخل القومي. أي تنويع وتطوير الإنتاج ومصادر تكوين الدخل القومي.” وهذه أطروحة مشتركة بين معظم الاقتصاديين العراقيين ومنهم زميلينا د. صبري زاير السعدي و د. كامل العضاض.
بعد ذلك يدعو د. حبيب إلى التزام جملة أدوات ومنها:

“1 الاستفادة من إمكانيات القطاعين الخاص والحكومي في عملية التنمية، بما في ذلك القطاع الخاص العربي والإقليمي والدولي، إضافة إلى التعاون مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.

2 حماية الإنتاج المحلي من المنافسة الأجنبية خلال المراحل الأولى من تنفيذ استراتيجية التنمية، أي تنظيم التجارة الخارجية بما يسهم في زيادة استيراد سلع الإنتاج وتقليص تدريجي لسلع الاستهلاك ووضع سياسة جمركية تساعد على تحقيق ذلك.

3 التحكم بتأمين انسياب نسبة تتراوح بين 60 – 70% من إيرادات النفط الخام صوب التثمير الإنتاجي وتنشيط القطاع الخاص لهذا الغرض أيضا.

4 وضع سياسة مالية ونقدية، بما فيها السياسة الضريبية والجمركية، وسياسة جادة للتأمين وإعادة التأمين على نطاق البلاد كلها تتناغم مع استراتيجية التنمية الوطنية وتساهم في تحقيق تلك الأهداف الأساسية وتنقل البلاد من حالة الاقتصاد الشمولي المتخلف إلى حالة الاقتصاد المتقدم، اقتصاد السوق الاجتماعي، إذ أن السياسة المالية والنقدية، ومعها التأمين، هي الأدوات التنفيذية للسياسات الاقتصادية.” [التأكيد من عندنا]

[وقد وردت هذه الأدوات بصيغ مختلفة في المنهاج الحكومي أيضاً].
اقتصاد السوق الاجتماعي والتأمين

وقبل التعليق على رسم سياسة للتأمين وإعادة التأمين وما يتعلق بالسياسة المالية والنقدية نود التعريف باقتصاد السوق الاجتماعي الذي يرد في دراسة د. حبيب هذه وغيرها من دراساته لنعرج بعدها إلى ما يعنيه هذا الاقتصاد بالنسبة للنشاط التأميني.

اقتصاد السوق الاجتماعي أشبه ما يكون بمشروع بناء “طريق ثالث” بين الليبرالية (اقتصاد السوق، المبادرة الفردية، المنافسة) والاشتراكية (العدالة الاجتماعية). ويتطلب تحقيقه اعتماد سياسات تقوم على تأكيد المنافسة (والوجه الآخر له هو منع الاحتكار)، توفير الشروط لتحقيق تكافؤ الفرص بين الكيانات الاقتصادية وتعطيل سيطرة فئة على مقاليد الاقتصاد الوطني، وتدخل الدولة عند فشل السوق في أداء دوره (دور اضطراري). وقد يضاف إلى هذه السياسات تدخل الدولة لتوجيه الإنفاق والاستثمار لتلبية حاجات اجتماعية (هياكل ارتكازية، مدارس، مستشفيات وغيرها من خلال مشاركة الدولة مع القطاع الخاص الوطني أو الأجنبي أو الاستثمار المباشر وهذا الأخير هو الذي ينتظم دعوات الاستفادة من الريع النفطي لأغراض البنية التحتية، المادية وغير المادية، بما فيها التعليم والصحة والحفاظ على البيئة).

وبالنسبة للعراق فإن خيار الانتقال من الاقتصاد الشمولي الأوامري إلى اقتصاد السوق مسألة مفروغ منها وإضافة الصفة الاجتماعية لا يغير من طبيعة التوجه الاقتصادي للحكومة والأحزاب السياسية بما فيها أحزاب اليسار. فهناك تقدير واعتراف بدور جديد للدولة، في صيغتها الاتحادية، في العراق، رغم عدم وضوح الأفكار بشأن هذا الدور في الوقت الحاضر وضعف مؤسسات الدولة الاتحادية والتضارب في تحديد العلاقة بين الاتحاد والإقليم، يقوم على منهج الرعاية الاجتماعية، والتنمية البشرية والتكنولوجية وتدريب القوى العاملة ومحاربة الفساد المالي والإداري (مفوضية النزاهة) وإعلاء سلطة القانون. وبعبارة أخرى فإن التلكؤ الحالي في إدارة الاقتصاد وغياب السياسات الواضحة هو الممهد لإنهاء دور الدولة كمقرر لإدارة الاقتصاد. نحن بإزاء قيام اقتصاد رأسمالي في العراق رغم الأوصاف الأخرى التي تُطلق عليه والذي سيترسخ مع دخول العراق عضواً في منظمة التجارة العالمية.

ماذا يعني ذلك بالنسبة للنشاط التأميني؟ ربما يعني خروج الدولة من السوق التجاري للتأمين. ويقتضي هذا خصخصة شركات التأمين وإعادة التأمين التابعة لها، وحصر دورها (دور الدولة) بتوفير أنماط من التأمين الاجتماعي، أو تطوير ما هو قائم منها، كما هو الحال في الديمقراطيات الغربية، أو تكوين مُجمّع تأميني لمقابلة الخسائر والأضرار المادية المترتبة على الكوارث أو خطر الإرهاب. وقد يكون هذا المجمع ممولاً من الميزانية العامة أو من مساهمة الشركات أو رسوم مفروضة على وثائق تأمين معينة، وقد يكون مشروعاً مشتركاً بين شركات التأمين والدولة. لكننا نستبق ما سيسفر أو لا يسفر عنه المستقبل.

يعني ذلك أيضاً ضمان الدولة للمنافسة (منع الاحتكار) بين شركات التأمين، وتوفير الشروط لتحقيق تكافؤ الفرص بين الكيانات الاقتصادية (عدم تفضيل شركة تأمين على غيرها في التأمين على الأصول المادية والمسؤوليات المادية) وتعطيل سيطرة فئة على مقاليد النشاط التأميني (الاندماج بين مجموعة من شركات التأمين بهدف السيطرة على السوق لتعظيم أرباحها)، وتدخل الدولة عند فشل شركات التأمين في أداء دورها (دور اضطراري ربما قد تلجأ إليه عند إفلاس شركة تأمين للحفاظ على حقوق حملة وثائق التأمين كما هو الحال بالنسبة للمودعين في المصارف). وقد يضاف إلى هذه السياسات تدخل الدولة لتوجيه الإنفاق والاستثمار لتلبية حاجات اجتماعية (وهو ما تمارسه الدولة من خلال الإنفاق العام الذي يخلق فرص جديدة لشراء أغطية التأمين، وتحديد مجالات استثمار صناديق التأمين، والسياسة الضريبية الخاصة بالنشاط التأميني ومنها عدم فرض ضريبة على عقود التأمين على الحياة لتشجيع الإدخار، أو وثائق التأمين الصحي لتقليل الضغط على الخدمات الصحية التي تقدمها الدولة).

التأمين في منهاج الحكومة

جاء ذكر التأمين في المنهاج متناثراً. ونقتبس منه الآتي اعتماداً على ما نشر في جريدة الصباح. لأول مرة يرد ذكر التأمين في خطاب رسمي وضمن ما يبدو أنه بداية اعتماد سياسة أو موقف تجاه جوانب من التأمين تمثّلَ بالبنود التالية:

 اعتماد نظام التأمين الصحي للمواطنين كافة وتطبيق نظام طبيب الاسرة.
 جعل التأمين على المُنْتَجْ والمسؤولية المهنية فيما يتعلق بالسلع والخدمات المنتجة اجبارياً وذلك لحماية حقوق المستهلك.
 توفير مظلة فاعلة من التأمين الزراعي تحمي المزارعين من الخسائر الناجمة عن الكوارث الطبيعية.

هذه البنود الثلاثة، كما هي، لا تعدو أن تكون غير عناوين عريضة بحاجة إلى دراسات تفصيلية ومناقشات ومديات زمنية للتطبيق وتحديد الأطراف التي ستقوم بها وقنوات تمويلها ..الخ. فيما يلي سنعرض بعض الملاحظات على هذه البنود.

 اعتماد نظام التأمين الصحي للمواطنين كافة وتطبيق نظام طبيب الاسرة

هذا عنوان عريض يجذب اهتمام المؤمنين بضرورة تقديم الدولة لخدمات معينة للمواطنين والمواطنات كافة مجانياً، ويجذب كذلك اهتمام أولئك الباحثين، في الداخل والخارج، عن فرص استثمارية تعتمد مبدأ الربح في تقديم الخدمات.

باستثناء الإشارات المستمرة للتأمين الصحي، كجزء من نظام الرعاية الاجتماعية، لم يخضع الموضوع لدراسات علمية أو يخضع لنقاش عام وتحديداً ما له علاقة بنظام طبيب الأسرة الذي يُعرض لأول مرة. وليس معروفاً إن قامت الحكومة، سابقاً، ومستشاري رئيس الوزراء الحالي، بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة ومنها نقابة الأطباء والصيادلة ونقابة العمال وجمعية الاقتصادين العراقيين وغيرها من النقابات ووزارة الصحة. وليس معروفاً إن كان التأمين الصحي سيكون شاملاً، متاحاً لكل مواطنة ومواطن، دون مقابل (كون التمويل معتمداً على ضريبة الدخل التي يدفعها العاملون أو ضريبة خاصة بالتأمين الوطني تفرض عليهم مستقبلاً)، أم أنه سيصبح سلعة بثمن تقوم بتوفيره شركات التأمين التجارية الخاصة ومنها شركات التأمين الأجنبية.

المنهاج الحكومي، كما نعتقد، يرمي إلى بناء نظام رأسمالي. ونرى أن هذا النظام، بطبيعته، سيفرض أعباءً على الفئات الفقيرة والضعيفة والمهمشة أو يهملها. لكننا نأمل أن لا يكون نظام التأمين الصحي المقترح، إن كان تجارياً، برنامجاً للمقتدرين مالياً. آمل أن يكون هذا النظام موضوعاً لنقاش مفتوح سياسي واقتصادي. وأقدم هنا قراءتي لموقف الحزب الشيوعي العراقي فها قصب السبق.

ربما كان الحزب الشيوعي العراقي متفرداً بالاهتمام بالتأمين الاجتماعي، ومنه التأمين الصحي، وقد كتبت عنه مقالة سنة 2009 أراها مفيدة لمن يرغب بمتابعته. اقتبس هنا قليلاً مما كتبته عن الأشكال المختلفة للضمان الاجتماعي التي وردت في وثيقته الأساسية برنامج الحزب الشيوعي العراقي. يرد في البرنامج تحت باب سياستنا الاقتصادية والاجتماعية ما يلي:

“12 توفير ضمانات العيش الكريم للمواطنين وحمايتهم من الفقر والعوز بالاستخدام العادل لثروات البلاد وعوائد التنمية، وذلك من خلال:

أ‌- استكمال بناء نظام الضمان الاجتماعي عبر تعزيز الشبكة الحالية وتطويرها لتشمل إنشاء صناديق تقدم الإعانات المالية في حالات البطالة والعجز عن العمل والشيخوخة بما يؤمن حداً أدنى معقولاً من الدخل، وإيجاد نظام فعال لتمويل هذه الصناديق.”

ويتكرر ذكر الضمان الاجتماعي في الأبواب التالية من البرنامج:

“الزراعة
لكي يحقق هذا القطاع الهام أهدافه ويضمن الأمن الغذائي لابد من:

7 تطوير القوى المنتجة في الريف عن طريق تشجيع الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة، الخاصة والمختلطة والحكومية، وحماية العمال الزراعيين عن طريق التشريع والتنظيم النقابي والضمان الاجتماعي والصحي.

الصحة
أدت سياسات النظام المباد وممارساته في هذا الميدان، والسياسة الصحية اللامنهجية بعد زواله، إلى تردي الوضع الصحي لعموم الشعب. ولمعالجة ذلك لا بد من:

1 ضمان تقديم خدمات الرعاية الصحية المجانية، الوقائية والعلاجية، إلى المواطنين والعمل على إيصالها إلى كافة المناطق، والارتقاء بمستواها.
2 توسيع شبكة المستشفيات والمستوصفات الحكومية في المدينة والريف وتامين كل الفعاليات ذات الصلة كالتحصين والصحة المدرسية وصحة الأسرة والرقابة الصحية وغيرها.
3 ضمان حق التأمين الصحي للسكان، جميعاً، كجزء من منظومة الضمان الاجتماعي، واعتماد نظام عادل لتمويله.

آمل أن يتوسع مناقشة النظام الصحي المقترح ليشمل الجوانب الفنية التنظيمية والاقتصادية والإدارية، وهو موضوع ذو بعد طبقي.

 جعل التأمين على المُنْتَجْ والمسؤولية المهنية فيما يتعلق بالسلع والخدمات المنتجة اجبارياً وذلك لحماية حقوق المستهلك.

كان تأمين المسؤوليات المهنية من بين التمنيات التي قدمتها سنة 2013. وقتها قلت إن “بعض هذه التمنيات ربما تكون بعيدة المنال، أو غير واضحة، أو مبتورة. وهذه مقصودة لإثارة التفكير بها وملابساتها. قائمة التمنيات طويلة نكتفي بعرض بعضٍ منها كيفما اتفق ودون تحديد الأسبقيات. هي مقترحات/جدول عمل بصيغة تمنيات لسنة 2013.” وذكرتُ ضمن هذه التمنيات

“إلزامية التأمين على خطر الحريق، ومسؤولية رب العمل، والمسؤوليات المهنية، والمسؤولية العشرية.”

التأمين على المُنْتَجْ
أرى أن المقصود بالتأمين على المنتج هو التأمين على المسؤوليات القانونية المترتبة على المنتجات المحلية حيث يمكن للطرف الثالث المتضرر من استعمال المنتج الرجوع على مُنتج البضاعة لجبر الضرر اللاحق به. وبالنسبة للمنتجات المستوردة يمكن الرجوع إلى المستورد.

نفترض أن الحكومة ستتقدم لمجلس النواب بمشروع قانون، بالاستفادة من القانون المدني وقانون حماية المستهلك، لتحديد مسؤولية الصانعين والموزعين والمجهزين والمستوردين وتجار التجزئة وغيرهم عن الأضرار الناجمة عن المنتجات التي تلحق بالأطراف الثالثة. ومثل هذا القانون سيساعد شركات التأمين في صياغة أغطية التأمين المناسبة لمثل هذه المسؤولية التي يمكن أن تتأسس لعيب مصنعي في المنتج، أو عدم سلامة المنتج بالضد مما يعلن عنه صاحبه، وغيرها من الأسباب التي تؤدي إلى قيام المسؤولية.

نفترض أيضاً أن جمعية التأمين العراقية ستقوم باتخاذ موقف ووسائل توعية وإجراءات أخرى كما سنشير إلى بعضها أدناه باختصار.
كما نفترض أن تنظيمات رجال الأعمال وغرف التجارة والمؤسسات المماثلة سيكون لها موقف. وأرى أن يتم التنسيق بينها وبين جمعية التأمين العراقية وإيصال صوتها لمجلس النواب.

تأمين المسؤولية المهنية
ها أنا أرى أن التأمين الإجباري على المسؤولية المهنية يقترب من إحدى تمنياتي. ويصبُّ الإعلان عن هذا المشروع، متى ما تحقق، لصالح تطوير سوق التأمين العراقي. والمطلوب أن تتقدم الحكومة أولاً بمشروع قانون عن المسؤولية المهنية يُعرض على مجلس النواب ويكون أساساً لأجراء التأمين من قبل أصحاب المهن (من العراقيين والأجانب العاملين في العراق). ونفترض أن مشروع القانون سيحدد المهن التي ستخضع للتأمين، كالأطباء، والمحامين، والمحاسبين، والمهندسين المعماريين وغيرهم.

من المطلوب أن تقوم جمعية التأمين العراقية بتقديم ورقة موقف تجاه هذه السياسة المعلنة في المنهاج، وتقوم بصياغة وثيقة/وثائق تأمين نموذجية تمثل الحدود الدنيا للغطاء التأميني للمسؤولية، ويترك لشركات التأمين حرية التوسع في الغطاء بالاتفاق مع أصحاب المهن. ومن المفيد أيضاً أن تقوم الجمعية، كإجراء آني، بتوزيع بعض الدراسات عن المسؤولية المهنية على أعضائها. وكذلك استمزاج رأي أصحاب المهن المنضوين في نقابة أو جمعية إذ أن بإمكان هذه النقابات إدارة صندوق تأمين لتغطية مسؤوليات أعضائها من مطالبات الأطراف الثالثة المتضررة من خرق الواجب المهني أو سوء التطبيق.

سيساهم جعل هذا التأمين إجبارياً في تعظيم أقساط شركات التأمين العراقية والتي يفترض أن تقوم بالاكتتاب به لوحدها أو بالتعاون مع معيدي التأمين أو ضمن ترتيبات خاصة مع النقابات والجمعيات المهنية العراقية.

 توفير مظلة فاعلة من التأمين الزراعي تحمي المزارعين من الخسائر الناجمة عن الكوارث الطبيعية

يبدو لي أن هذا البند هو استمرار للمبادرة الزراعية التي أطلقتها حكومة نوري المالكي (اللجنة العليا للمبادرة الزراعية) وتضمنت الاهتمام والتوسع في الأغطية التأمينية لصالح المزارعين والمستثمرين في قطاع الزراعة؛ وربما هو من توصيات مؤسسات دولية، وهو ما أرجحه.

وافترض بأن الجهة التي قامت بصياغة هذا البند قد أخذت علماً بوجود تأمين زراعي في شركة التأمين الوطنية العامة منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي. وقد تم تبني هذا التأمين آنذاك بالاستفادة من تجربة شركة التأمين التبادلي للنقابة الوطنية للمزارعين البريطانية (The National Farmers Union Mutual Insurance Society Limited) وكذلك بعض معيدي التأمين ووسطاء إعادة التأمين الدوليين.

لا أدري ما المقصود بـ”مظلة فاعلة” لحماية المزارعين من الخسائر الناجمة عن الكوارث الطبيعية. فالوثيقة المركبة (الشاملة) للتأمين الزراعي تغطي أخطار الحريق والسرقة والأخطار الطبيعية (كالعواصف، والفيضانات والصواعق والبَرَدْ وتساقط الثلوج والآفات الزراعية وغيرها). وبالنسبة لموضوع التأمين فإن الوثيقة تغطي مسقفات الثروة الحيوانية، معامل العلف، المفاقس، مخازن الحبوب المخازن المبردة، الدواجن، المواشي، المحاصيل الزراعية، المركبات الزراعية.
المهم في الموضوع هو أن التأمين الزراعي يساهم في ديمومة الإنتاج الزراعي من خلال توفير بدل نقدي تعويضاً للخسائر المادية التي يتعرض لها المزارعون بسبب الحوادث الطبيعية والبشرية. وبذلك يتم استبدال التالف من الممتلكات والنافق من المواشي والتعويض عن فقدان الدخل بسبب التلف اللاحق بالإنتاج النباتي.

ترحيب وتقييم أولي للمنهاج

حسب تقييم الخبير الاقتصادي باسم جميل أنطون فإن “المنهاج الحكومي … تضمن 6 محاور اساسية، اربعة منها تخص الجانب الاقتصادي للبلد مما يعكس مدى التطور المراد تحقيقه على الارض”. وأن “المحور الاول تضمن تقويم الجانب الامني الذي يعتبر الرديف الاساسي لبناء اقتصاد قوي قادر على مواجهة الازمات وتوفير الرفاهية المبتغاة للمواطن البسيط”. كما ان “المحور الثاني أكد على النهوض بواقع الخدمات المتردي والذي يتضمن البنى التحتية الماء والمجاري وبناء المدارس النموذجية وتطوير الواقع الصحي من خلال بناء المستشفيات الحديثة والاهتمام بالقطاعات الاجتماعية الفقيرة.” وهذه تخلق فرصاً جديدة لعمل شركات التأمين في توفير الأغطية التأمينية المرتبطة بتزايد عدد الوحدات الاقتصادية (الصناعية والتجارية والخدمية) وبإنشاء مشاريع البنية التحتية وغيرها من المشاريع التي تتولاها الدولة والقطاع الخاص على أنواعها، من خلال التأمين البحري على المكائن والمعدات والمواد المستوردة (يجب هنا أن يكون عقد البيع على أساس قيمة البضاعة والشحن C&F كي ينفتح المجال أمام شركات التأمين العراقي لعرض خدماتها التأمينية)، والتأمين الهندسي وتأمين المسؤوليات تجاه الطرف الثالث، وتأمين المشاريع بعد إكمالها ووضعها قيد التشغيل.

يتمنى المرء أن لا تبقى هذه السياسات مجرد شعارات بل تخضع للدراسة المعمقة والتفكير بكلفتها الاقتصادية ووسائل تمويلها وتطبيقها على أرض الواقع. هناك ما يمكن وصفه بالحماس لبعض السياسات دون الالتفات إلى كلفتها الاقتصادية كما هو الحال مع تشكيل قوات الصحوات والحرس الوطني في المحافظات وغيرها من القوات العسكرية الموازية للقوات المسلحة، وكلها تستنزف موارد الدولة دون أن تساهم في نمو الإنتاج.

هذه الحزمة من المقترحات في مجالات الصحة، والمسؤوليات القانونية الناجمة عن المنتجات وأخطاء المهنة، والإنتاج الزراعي من شأنها أيضاً أن تقدم تحدياً إضافياً لشركات التأمين العراقية لمواجهتها باستحداث وثائق تأمين جديدة أو تطوير ما هو موجود منها.

ويبقى هناك البعد الفيدرالي لهذه المقترحات وهل أنها ستكون ملزمة لإقليم كوردستان العراق، كما نرغب، أم أن حكومة الإقليم ستشرع قوانينها الخاصة للتأمين في هذه المجالات.

خطوات حكومية أخرى والاقتراب من رؤية لمؤسسة التأمين

طالما أن الحكومة الحالية مهتمة بالنشاط التأميني، كما يظهر لنا من مقترحاتها بإدخال وثائق تأمين جديدة تشكل عنصراً مكملاً لمشروعها في بناء نظام رأسمالي عصري، عليها أن تتخذ خطوات أخرى لتعزيز قطاع التأمين العراقي. يمكن إيجاز بعض هذه الخطوات بالآتي:

 إعادة النظر ببعض أحكام قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 الضارة بمصالح شركات التأمين العراقية.
 تشجيع الإقبال على شراء وثائق التأمين على الحياة من خلال الإعفاء من الضرائب والرسوم.
 تفعيل الوظيفة الرقابية التي يقوم به ديوان التأمين.
 تشجيع الدمج بين شركات التأمين الصغيرة في رأسمالها وكوادرها الفنية.
 تعزيز مكانة شركة إعادة التأمين العراقية من خلال استعادة مبدأ إسناد نسبة من أعمال شركات التأمين لها.

آمل أن تندرج هذه الخطوات ضمن مشروع تطوير رؤية تجاه قطاع التأمين لدى مؤسسات الحكم والأحزاب والكتل السياسية وكيانات التأمين.

لندن 17 أيلول 2014