أنموذج للدور القيادي في الوظيفة العامة:
السيرة الوظيفية للأستاذ عبد الباقي رضا
نشرت هذه المقالة في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 347-348، 2012، ص53-62.
أ. د سليم الوردي
لم يسبق لي وان كتبت في سير الرجال. ولعلني لا أتوفر على أدوات ومداخل هذا الضرب من الكتابة. واذ أتصدى للكتابة عن السيرة الوظيفية للأستاذ عبد الباقي هادي رضا، فلأنه يعزف عن الكتابة عن نفسه. وربما يعود ذلك الى تواضعه واعتبار ان سيرته قد جرت ضمن السياقات المفترضة للوظيفة العامة، بينما نجد نحن فيها تجربة ثرّة ومتميزة، يمكن ان تفيد منها العناصر الشابة التي تتطلع الى ان تشغل مواقع قيادية في الوظيفة العامة او منظمات الأعمال.
يمثل الموقع القيادي في الوظيفة العامة في العراق عبئا كبيرا على من يتسنمه، نظرا للتغيرات السياسية والاجتماعية الدراماتيكية التي شهدها العراق في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي تتطلب من القيادي في الوظيفة العامة قدرة غير اعتيادية على الموازنة والحصافة في اتخاذ القرار وبعد النظر. ولعل التكنوقراط الصرف غير القادر على استقراء الموازنات السياسية والاجتماعية يضيع في معمعة الإحداث التي شهدتها تلك المرحلة. ان نجاح القيادي في الوظيفة العامة في كنف تلك الضغوط يشفّ عن ملكة غير اعتيادية. ومثل هذه الملكة لا تتكون وتتبلور بين يوم وليلة، ولا تحكمها التطلعات الإرادية للقيادي وحسب، بل تعود بالدرجة الأولى الى الظروف والعوامل التي أثرت في نشأته وملكاته الفطرية. من هذه الزاوية سأحاول ان أتناول نشأة وتطور السيرة الوظيفية للأستاذ عبد الباقي رضا.
ولد الأستاذ عبد الباقي رضا في مدينة كربلاء المقدسة في 18 تموز 1930 وحين درج في الدراسة ابدي تفوقا في جميع مراحلها: الابتدائية والمتوسطة والثانوية ( الفرع العلمي ). وفضلا عن تفوقه العلمي تميّز بمواهب مختلفة بين إقرانه من التلاميذ. كان خطاط المدرسة ورسامها، واشرف على إصدار نشرة جداريه وتولى تحريرها، وفي عين الوقت عدّ شاعر الثانوية .ويذكر انه القى في حفل عام أول قصيدة من احد عشر بيتا من نظمه وهو في الصف الثاني المتوسط. قبل سنوات اطلعت على كتاب يتناول شعراء مدينة كربلاء، أشار الكتاب الى أن الأستاذ عبد الباقي يعدّ من شعراء المدينة. وكان يشارك في المطاردات الشعرية التي تقيمها المواسم الثقافية ويحصد الجوائز، الى جانب كونه خطيبا في الاحتفالات والمناسبات. وحين تأسست مكتبة عامة في مدينة كربلاء تطوع مع نفر من الطلبة الى مساعدة مسؤولها، والدعاية للمكتبة. وذكر لي انه قبل تأسيس المكتبة العامة كان يلجا إلى استعارة الكتب من مكتبات السوق لقاء اجر (أربعة فلوس) عن كل ليلة للكتاب الواحد، الأمر الذي كان يحفزه الى انجاز قراءة الكتاب في ليلة او نحوها، تفاديا للكلفة العالية!
انهى امتحان البكلوريا للدراسة الثانوية بتفوق، ما أهله للترشح لبعثة علمية لدراسة هندسة الري. وأفادني أن ذلك الاختصاص لم يكن يلبي رغبته التي كانت تميل الى اختصاص الهندسة المعمارية بحكم موهبته في فن الرسم. كما ان الظروف المعيشية وقت ذاك كانت تتطلب منه العمل، لكي يتاح له الجمع بين العمل والدراسة الجامعية مساءا. فعمل في وظيفة كاتب في ذاتية معارف كربلاء. ومن ثم تشبث لكي ينقل الى مثل الوظيفة في مخزن وزارة المعارف في بغداد سنة 1950، ما أتاح له الالتحاق بالدراسة المسائية لكلية التجارة والاقتصاد. وتخرج منها بتفوق سنة1955 اذ كان الثاني على متخرجي دورته الذي تجاوز عددهم المئتين طالباً. عند تخرجه انتقل الى وظيفة تدريسية مساءا في المعاهد المهنية للإدارة المحلية. في عين الوقت عمل صباحا مدقق حسابات في أول مكتب لأول محاسب قانوني في العراق (مكتب نزهت محمد طيب). واستمر ذلك لحين التحاقه بالبعثة الدراسية الى الولايات المتحدة الأمريكية في اختصاص محاسبة التامين سنة 1957.
الخلفية التأمينية
كان توجه مديرية البعثات ان يكون اختصاصه في محاسبة التامين بيد انه واجه في الجامعة مشكلة غياب مثل هذا الاختصاص، وان دراسة محاسبة التامين تتعلق بدراسة تامين الحياة، وهي دراسة اكتوارية متخصصة في رياضيات التامين على الحياة. فما كان منه إلا أن يدرس مواد تامين الحياة والحوادث والحريق تلبية لمتطلبات عنوان بعثته. وبعد إنهائه دراسة الماجستير سنة 1959 في اختصاص المحاسبة عين تدريسيا في كلية التجارة والاقتصاد (الدوام المسائي). وعمل صباحا في شركة التامين العراقية، وهو ما يمثل بداية دروجه مباشرة في النشاط التأميني.
توجهت شركة التامين العراقية إلى الاكتتاب في وثائق التامين على الحياة من دون ان يكون لها سابق خبرة فنية واكتتابية في هذا النوع من التامين. وتقرر ان يتولى الأستاذ عبد الباقي إدارة هذا القسم. ويقول بهذا الصدد ان خلفياتي عن التامين على الحياة نظرية، اعتمدت على كتاب أمريكي قيم، ولكن ذلك لوحده لا يؤهل للتعاطي مع هذه المحفظة. اتفقت شركة التامين العراقية مع شركة إعادة التامين السويسرية على البدء بممارسة التامين على الحياة، لتكون أول شركة عراقية تكتتب فيه. انتدبت شركة إعادة التامين السويسرية السيد لاري كريانوف ( وهو ذو أصول روسية ونشأة إيرانية وثقافة اوربية ) فعمل في الشركة أشهراً لتهيئة متطلبات ممارسة التامين على الحياة. في ذلك الوقت كان السيد عبد الباقي مسؤول إعادة التامين في الشركة العراقية، فكلف بملازمة الخبير كريانوف. بذل كريانوف جهودا للعثور على شخص مناسب له خلفية رياضية لتعيينه مديرا للقسم الجديد بعد تأهيله. ويتذكر السيد عبد الباقي انه صاحب الخبير كريانوف في زيارة لكلية العلوم لمقابلة احد أساتذة الرياضيات والاستعانة به. ولكن تلك المساعي لم تفلح. فقرر أخيرا اسناد الوظيفة الى السيد عبد الباقي، ورتب له منهاجا للتدريب في شركة إعادة التامين السويسرية (قسم الحياة حصرا) ودام ذلك المنهاج مدة أربعة اشهر من صيف سنة 1961.
بعد عودته من زيورخ تولى إدارة قسم التامين على الحياة وساعده موظفان هما: السيد سالم يوحنا والسيد زهير بطرس. يقول السيد عبد الباقي: لكي اقنع الغير بالتامين على الحياة، كان لابد ان اشرع بنفسي. وصدرت لي الوثيقة رقم 600001 للتامين على حياتي (من نوع التامين المختلط) لمدة عشرين سنة. واستحقت الوثيقة التسديد سنة 1981. وتسلمت مبلغها في عهد إدارة المرحوم السيد مدحت الجراح مع هدية اعتز بها وهي كتاب (الاغاني لابي الفرج الاصفهاني) في 24 مجلدا. ويمكن اعتبار تلك الوثيقة هي اول وثيقة حياة من نوع (Endowment)تصدر عن شركة تامين عراقية.
وانا أتطرق الى هذه الرواية، أتذكر اننا في ثمانينات القرن الماضي تقصينا عن عدد العاملين في شركة التأمين الوطنية الذين يملكون إحدى وثائق التأمين، فتبين لنا ان عددهم ضئيل، والاكثرية لم تقتن ولا وثيقة واحدة. علقت في حينه على هذه النتيجة ببيت شعر لشوقي على لسان قيس بن الملوح في مسرحية “مجنون ليلى “:
وشاة بلا قلب يداونني بها وكيف يداوي القلب من لا له قلب
وتيقنت في حينه ان خلق وعي تأميني متقدم في المجتمع العراقي مشواره طويل لان الحكمة تقول: ابدأ بنفسك!
الصفة القيادية
القيادة سمة من سمات عدد قليل من الناس، ولا يتأتى لها ان تتبلور إلا في بيئة تغذيها وتحفزها الى الظهور. ويبدو ان السيد عبد الباقي وجد في شركة التأمين العراقية الوسط الإداري المؤاتي لظهور ملكته القيادية. كما ويبدو ان المجموعة التي كانت تنتمي اليها الشركة كانت تتوسم فيه قائدا للشركة وتهيئه لهذا الموقع. ومن المرجح ان الاوساط التأمينية في العراق كانت تقدر شخصيته القيادية، بما في ذلك الأوساط الرسمية. وقد ترجم ذلك الى تعيينه مديرا عاما لشركة بغداد للتأمين على اثر صدور قرارات التأميم في 14 تموز 1964 وقد سمع القرار من المذياع كما افادني. استمر عمله في هذا الموقع لحين عملية دمج شركات التأمين في العراق على اساس التخصص، فكان ان تخصصت ثلاث شركات هي: شركة التأمين الوطنية ( إعمال التأمين العام ) والشركة العراقية للتأمين على الحياة، وشركة اعادة التأمين العراقية، بوصفها منشآت ترتبط بالمؤسسة العامة للتأمين. ونقل عندها الى مدير عام في المؤسسة العامة للتأمين. في 1/2/1966 سمي مديرا عاما لشركة التأمين الوطنية. وفي هذه الشركة الضخمة من حيث عدد العاملين والمسؤوليات تفتقت المواهب الإدارية والقيادية للاستاذ عبد الباقي رضا، واستمرت خدمته فيها اثنتي عشرة سنة .
دوره التأسيسي في شركة التأمين الوطنية
تأسست شركة التأمين الوطنية كشركة حكومية سنة 1950 للتامين على أموال دوائر ومنشآت الدولة، تعاقب على ادارتها في البداية مديران عامان يحملان جنسية أجنبية. ومن ثم مدراء عامون عراقيون. ويتجلى الطابع التأسيسي لشركة التأمين الوطنية بعد عملية الدمج في المسؤوليات الكبيرة التي انيطت بها بوصفها محتكرا لسوق التأمين العام في العراق بمختلف أنواعه ووثائقه. وتمثلت الإشكالية الأولى التي واجهتها الشركة في إدارة محفظة تأمينية كبيرة، انحدرت اليها من محافظ الشركات المدمجة التي تتباين في أساليبها الاكتتابية والترويجية. هذا فضلا عن اختلاف مستويات الكوادر التي كانت تعمل في الشركات الأهلية، ومرتباتهم التي صارت تحدد بموجب معايير الوظيفة الحكومية. وكان دمجهم في كيان وظيفي يعمل بإيقاع موحد مهمة شائكة للغاية. وإذا كانت عملية الدمج قد صدرت بقرار، فأن الاندماج الفعلي للكوادر العاملة قد استغرق وقتا أطول .
وجد الأستاذ عبد الباقي حرجا في موقعه الجديد، لأنه كان اصغر سنا من معظم قيادات الشركة. وكان الفنيون منهم أوسع خبرة منه في مجالات اختصاصاتهم، وأطول خدمة. وخشي ان يؤدي ذلك الى عدم تقبلهم القادم الجديد وعدم التعاون معه. بيد أن هواجسه تلك لم تكن في محلها- كما يبدو- فلم يواجه بمواقف سلبية بل بتعاون قيادات الشركة معه. المشكلة التي واجهها كانت تكمن في سياقات الاتصالات الإدارية. فقد الف المدراء في شركاتهم الصغيرة سابقا الاتصال المباشر مع المدير العام. ولكن هذا أصبح يمثل عبئا إداريا كبيرا في شركة تضمّ مئات الموظفين.
وعلى هذا الأساس بات من الملحّ إعادة النظر في الهيكلية التنظيمية للشركة وسياقات الاتصال الإدارية. وعلى هذا النحو نضجت فكرة فصل الإدارة العامة عن النشاط الفني الاكتتابي حسب محافظ التأمين المختلفة. وتمخض عن ذلك استحداث فروع تمارس صلاحيات أوسع، ما يحقق انسيابية اكبر في انجاز الإعمال اليومية. وكانت البداية مع الفرع الرئيسي الذي أوكلت إدارته إلى احد رؤساء الأقسام. ثم تطور الأمر إلى هيكلية تنظيمية قائمة على إدارة عامة وفروع متخصصة وفروع ومكاتب جغرافية.
تأثر الأستاذ عبد الباقي من السنوات الأربعة والنصف التي أمضاها في شركة التأمين العراقية، وكان اول من عمل فيها، واستوعب طبيعة وديناميكية عمل القطاع الخاص. فقد كان القائمون على مجموعة الشركة المالكون لأكثر أسهم رأسمالها من ذوي الخبرة والنشاط في مجال مشاريع القطاع الخاص، وذوي أفق وطموح الى التوسع في مختلف أوجه الاستثمار. ويشيد الأستاذ عبد الباقي بهمة رئيس مجلس إدارة الشركة. فهو الذي سعى الى شراء محفظة شركة يونيون الفرنسية في تأمين الحياة، وعمل على تعريق البنك العثماني الى بنك الاعتماد، وبنك انترا الى البنك العراقي المتحد. ثم توجه الى الاستثمار خارج العراق. كان الأستاذ عبد الباقي محل ثقة رئيس مجلس إدارة الشركة وقياداتها، اذ كانوا يتطلعون الى توليه إدارة الشركة. لذلك لم يتردد في الاستقالة من وظيفته التدريسية في جامعة بغداد والتفرغ لأعمال الشركة، مع ما للوظيفة الجامعية من وجاهة اجتماعية، وضمان راتب تقاعدي عند الشيخوخة .
سافر سنة 1963 وبصحبة رئيس المجموعة الى ليبيا بهدف تأسيس شركة تأمين فيها. وتم الاتصال ببعض رجال الإعمال الناشطين في ليبيا وقد كانت وقتذاك على أعتاب نهضة اقتصادية وعمرانية على اثر اكتشاف النفط فيها. ولقد لقيت فكرة تأسيس شركة تأمين وطنية فيها ترحابا من قبل عدد من رجال الإعمال الليبيين. ولم يكن في ليبيا في حينه شركة تأمين وطنية، بل فروع ووكالات لشركات تأمين عربية وأجنبية. انتخب الدكتور نور الدين العنيزي أول رئيس لمجلس إدارة شركة ليبيا للتأمين. وقد زار الأستاذ عبد الباقي ليبيا مرة أخرى سنة 1964 لمتابعة إجراءات التأسيس. وكانت نسبة مساهمة شركة التأمين العراقية 40% من رأسمال الشركة، ووقع عن الجانب العراقي. ويتذكر الأستاذ عبد الباقي انه دعي الى ليبيا سنة 1989 للاحتفال باليوبيل الفضي لتأسيس اول شركة تأمين وطنية في ليبيا.
على اثر قوانين التأميم في 14 تموز 1964 الذي شمل شركة التأمين العراقية فوجئت المؤسسة العامة للتأمين، بعدم قبول الدكتور العنيزي القطاع الحكومي شريكا في شركة ليبيا للتأمين، واستجابت المؤسسة لرغبته دون سعي منها لمحاولة اقناعه باستمرار التعاون. فباعت شركة التأمين العراقية مساهماتها الى الليبيين. وهكذا أجهضت تلك المحاولة .
وتحت تأثير تجربته مع شركة ليبيا للتأمين، وبتوجيه من وزارة الاقتصاد تابع الأستاذ عبد الباقي فكرة استثمار قطاع التأمين العراقي خارج العراق. وكانت البداية مع أسواق دول الخليج العربي. فسافر ومعه المرحوم السيد عزيز مراد الى كل من الكويت والدوحة والبحرين وابو ظبي ودبي لاستطلاع الإمكانات المتاحة. واستقر بهما الرأي بعد حملة الاستكشاف الى ترشيح البحرين لتأسيس شركة تأمين وطنية فيها، اذ لم يكن فيها سوى فروع ووكالات لشركات أجنبية مرتبطة برجال إعمال ذوي نفوذ. زار البحرين عدة مرات، ومرة منها بصحبة رئيس المؤسسة العامة للتأمين [1].
يبدو ان وكالات وفروع شركات التأمين الأجنبية ( بامتداداتها الاقتصادية والسياسية ) لم ترحب بتأسيس شركة تأمين وطنية في البحرين. بيد ان حكومة البحرين، متمثلة بأميرها الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة دعم بحماسة الفكرة. وسعى التيار السلبي في أوساط رجال الإعمال البحرينية الى تقليص المساهمة العراقية في رأسمال الشركة الى 20% بدلا من 40%. وتم الاتفاق في النهاية على نسبة 30 %وبدأت إجراءات التأسيس .
لم يكن في البحرين وقتذاك قانون للشركات، وكان التأسيس يتم بصدور (براءة) من الأمير، والتي تضمنت ما يتضمنه قانون الشركات، إضافة الى الإحكام الخاصة بطبيعة اعمال الشركة. تولى الأستاذ عبد الباقي إعداد صيغة البراءة بنفسه، حين علم ان المحامي يستوفي مبلغا باهضا لقاء هذه الخدمة. وأصبح اسم الشركة: شركة البحرين للتأمين برأسمال قدره 100000 دينار، حصة قطاع التأمين العراقي منها30000 دينار. وقد وزعت المساهمة على شركات التأمين العراقية بواقع 40 %لشركة التأمين الوطنية و 30 % لكل من الشركة العراقية للتأمين على الحياة، وشركة إعادة التأمين العراقية. اما مجلس إدارة الشركة فقد تكون من اربعة أشخاص من البحرين واثنين من العراق. وانتخب الحاج خليل كانو رئيساً لأول مجلس إدارة للشركة. وعين من العراق اول مدير عام لها، وهو السيد منيب خسرو، اعقبه السيد هشام بابان واخرهم كان السيد منعم الخفاجي الذي توقفت ادارته سنة 1991 بعد غزو العراق للكويت.
استمرت عضوية الاستاذ عبد الباقي في مجلس ادارة شركة التأمين للبحرين لحين مغادرته شركة التأمين الوطنية. ودعي للاحتفال بمرور عشرين سنة على تأسيس الشركة سنه 1989. وزار حينها حاكم البحرين الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفه، الذي يصفه بانه كان رجلاً ودوداً. والجدير بالذكر انه قد تأسست بعد ذلك عدة شركات وطنيه مثل الشركه الكويتية البحرينية للتأمين. ربما يسترعي الانتباه ان الجانب العراقي لم يحشر العراق في اسم الشركة حرصا منه على اسباغ الصفة الوطنية البحرينية الخالصه على اول مشروع في هذا القطاع .
رعاية الموظفين
اذا كانت احاطة رب العمل بشؤون العاملين تحت ادارته في القطاع الخاص ممكنا، نظراً لمحدودية عددهم فان هذه المهمة تتعقد عندما يكون عدد الموظفين بالمئات، وربما ناهز عددهم 1100 موظفاً في عشيه مغادرة الاستاذ عبد الباقي لشركة التأمين الوطنية سنه 1978. يبدأ اهتمامه بالموظف مع تقديم اوراقه ثم خضوعه لاختبار القبول. كان اهتمامه لا يقتصر على مضمون الاجابة وحسب، بل وبخطه وانشائه واملائه، ليقف على قدرته على تحرير الكتب والمذكرات والتقارير. ادرك الآن اهمية الخط والانشاء لدى تصحيحي دفاتر الطلبة في الامتحانات الجامعية فكثير من الاجابات تكون مرتبكة بسبب رداءة الخط وضعف التعبير. كنت فيما مضى اصحح الاخطاء اللغوية، وتوقفت مؤخرا بسبب كثرتها، ما يصرف تركيزي عن مضمون الاجابات. وعلى وجه العموم يتعذر ايصال الفكرة، من دون حسن التعبير عنها.
كان الاستاذ عبد الباقي يبدي اهتماماً كبيراً في زجّ الموظفين وخاصه الجدد في منهاج تدريبي. كان شرطاٍ ان ينخرط الموظف الجديد بدورة ابتدائية تأهيلية في انواع التأمين. وبعد سنة او سنتين يضمّ الى دورة متقدمة في شؤون التأمين المختلفة: الفنية والتسويقية والاقتصادية. اتذكر انني رشحت بعد سنتين من خدمتي في الشركة الى دورة متقدمة كانت تقيمها المؤسسة العامة للتأمين وقتذاك. وحين اطلعت على مواد برنامج الدورة قرأت اسمي فيها محاضراً في مادة “اقتصاديات التأمين” ورأيت مفارقة ان اكون محاضراً وطالباٍ في آن. اطلعت الاستاذ عبد الباقي على تلك المفارقة، فلم ير فيها مفارقة وقال لي ما معناه: تتعلم ما لا تعرفه وتعلّم ما تعرفه في اختصاصك. وكانت ممارسة ممتعة، حظيت بارتياح المتدربين، حين كنت انسلخ عن رحلة الطالب واعتلي منصة التدريسي. والآن وانا احمل لقب الاستاذ الجامعي ما زلت اتذكر تلك التجربة ما جعلني أؤمن ان الاستاذ هو طالب للمعرفة، ويحتاج بين الحين والاخر الى دورة او برنامج ثقافي ينعش فيه معارفه .
في صيف 1971 حصلت على مقعد دراسي في كلية الاقتصاد في صوفيا لدراسة الدكتوراه. وتقدمت بطلب اجازة دراسية الى ادارة شركة التأمين الوطنية. فلقيت ترحابا من لدن الاستاذ عبد الباقي، وشجعني على الالتحاق بالدراسة. حين واجهت المعاملة عراقيل في وزارة المالية بحجة ان موازنة الشركة لم تتضمن نفقات اجازة دراسية قال لي الاستاذ عبد الباقي: لا علاقة لك بالأمر والسبب مناكفة بين الوزارة والشركة، وقعت انت ضحية لها. وقال بتصميم: لا تفوت فرصة اكمال الدراسة حتى لو كلفك الاستقالة من الوظيفة، واضمن لك اعادة التعيين حين عودتك. ولحسن الحظ المسألة سويت في وزارة المالية بعد عدة اشهر من المعاناة .
حين عدت بعد حصولي على شهادة الدكتوراه، شعرت بنفس متحسس ازائي من الخط الفني والاداري المتقدم في الشركة، خاصة حين حصلت على سيارة “المرسيدس” التي وزعت على اصحاب الكفاءات في حينه. وذلك لان عنواني الوظيفي كان بدرجة ملاحظ، عدل بعدها الى رئيس ملاحظين. بيد ان ذلك الموقف المتحسس الذي كنت استشعره لم يثنن عن مواصلة العمل والتطلع الى تطوير اعمال الشركة واساليب عملها خاصة لشعوري بدعم المدير العام لي وتقييمه لما احمله من تطلعات. بعد عودتي بأشهر اقترحت على ادارة الشركة تنظيم دورة في الاحصاء التأميني للجهاز الاحصائي في الشركة، وتوليت القاء المحاضرات فيها. وحضر الاستاذ عبد الباقي محاضرة الافتتاح، والقى فيها كلمة اشاد فيها بي وحرصي على توظيف معارفي لخدمه الشركة. بعد تلك الدورة شعرت ان الموقف المتحسس ازائي بدأ بالتزحزح .
سنة 1976 تقدمت بدراسة تناولت ضرورة انتهاج الشركة اسلوب التخطيط في ادارة اعمالها. تحمس الاستاذ عبد الباقي للفكرة وناقشها معي مراعيا ان التخطيط سيملي اساليب جديدة في الادارة، وقد يصطدم بضعف الوعي التخطيطي لدى ادارات الاجهزة مما يتطلب التدرج في الخطوات، تفاديا لردود فعل الادارات التي لم تألف التخطيط منهجاً في عملها. كتبت ورقة عمل، وزعت على ادارات الاجهزة، ثم تمت دعوتهم الى ندوة لمناقشة الورقة، واستمرت الندوة ومناقشاتها نهاراً كاملاً. وعلى اثرها أُعدت صيغة التعليمات التي تنظم آليات اعداد خطة الانتاج ومتابعة تنفيذها. وشعرت ان ادارات الاجهزة قد تبنت التعليمات لأنها شاركت في مناقشتها، ولم تمل عليهم بأسلوب اداري فوقي، واصبح ذلك نهجاً اتبعه قسم التخطيط الذي توليت ادارته، وخاصة ما يتعلق بإعداد البرامج التسويقية لجهاز الانتاج الميداني. وكانت تلك البرامج السنوية تمثل اختراقاً للأسلوب العشوائي الذي كان يسير عليه المنتجون، خاصه ان العمولات التي كانوا يحصلون عليها ترتبط بنتائج تنفيذ تلك البرامج. وحين التقي هذه الايام ببعض المنتجين القدامى يستذكر باعتزاز تلك الحقبة التي كان المنتجون فيها يعملون كخلية نحل.
ان اهتمام الاستاذ عبد الباقي لم يقتصر على البرامج التدريبية والتأهيلية للمستويات الوظيفية كافة، بل تجاوزه الى التطوير النوعي الجماعي للمهارات الفنية والقانونية. واذكر بهذا الصدد الندوات الاسبوعية التي كانت تعقدها الكوادر الفنية والقانونية في الشركة، تناقش خلالها اشتراطات الوثائق ونصوصها ومطالبات التعويض المعقدة. وذكر لي السيد رفعت الفارسي الذي كان احد الناشطين في تلك الندوات، ان محاضرها اذا ما رتبت تصلح لان تكون مرجعاً فنياً وقانونياً ثراً للعاملين في شركات التأمين .
كان الاستاذ عبد الباقي يهتم بتحسين سمعة الشركة لدى الجمهور، وذلك عبر قنوات مختلفة تأتي في مقدمتها مشاركة الشركة في فعاليات اسبوع التأمين الذي كانت تنظمه المؤسسة العامة للتأمين: ندوات ولقاءات اذاعيه وتلفزيونية ومواد اعلامية في الصحف والمجلات. وكانت اللقاءات تمتد الى طلبة المتوسطات والاعداديات والجامعات، لانهم يمثلون النشأ الجديد، وتوزع خلالها المواد الدعائية والترويجية.
السياسة التعويضية المنفتحة
كان الاستاذ عبد الباقي حريصاً على الاهتمام بجمهورالمؤمن لهم الذين يتعاملون مع الشركة بوصفهم نواة لجمهور واسع واعد من العملاء. ومن نافلة القول ان العلاقة بين العميل وشركة التأمين تحكمها الثقة المتبادلة بينهما. فان تزعزعت، يتحول العميل من داعية للشركة الى داعية ضدها يشكك بصدقيتها في الوفاء بالتزاماتها تجاه عملائها. وتتحقق مرحلة الاحتكاك المباشر بين العميل والشركة، عندما يطالب بالتعويض عن خسارة تحملها بموجب عقد التأمين. فاذا كان الموظف متشدداً يعمد الى التشبث بمختلف الذرائع لحجب التعويض، لاسيما ان وثيقة التأمين تضمّ الكثير من الاشتراطات والتحذيرات التعاقدية التي غالباً ما تطبع بحروف ناعمة، ويندر ان يطلع المؤمن له عليها، فما بالك في ان يفقه مضامينها!
واذ ادرك الاستاذ عبد الباقي هذه الاشكالية راح يؤكد على اجهزة التعويض على تسهيل حصول العملاء على تعويضاتهم. واتذكر توصيته المتواترة الى موظفي اقسام التعويض بالشركة: “فتشوا في الحروف الناعمة لوثيقة التأمين عن مسوّغ لتسديد التعويض وليس لحجبة عن المؤمن له.”
بعض مطالبات التعويض كان يتعذر الوصول فيها الى تسوية ترضي طالب التعويض، مما يحدو به الى اللجوء الى القضاء للبتّ في الموضوع. كان الاستاذ عبد الباقي يفضل عدم لجوء طالب التعويض الى القضاء، ويعّد ذلك مثلبة في العلاقة بين المؤمن له وشركة التأمين القائمة على مبدأ حسن النيّة القصوى. وكان ينصح اقسام التعويض بتفادى حالات لجوء المؤمن له الى القضاء، الا بعد ان تتيقن من عدم استحقاقه التعويض. والجدير بالذكر ان قرار تسديد التعويض من عدمه ذو طبيعة اجتهادية تتباين بين هذا الموظف او ذاك، وبهذا الصدد كان يوجه بأن ترفع اليه المطالعات المؤيدة لتسديد المطالبات التي رجح قرار رفضها، على امل ان يجد في بعضها مسوغا لتسديد التعويض. يجدر بأجهزة التعويض الحريصة على ادامة ثقة جمهور المؤمن لهم بشركة التأمين ان تتسم بالمرونة في قراراتها، ما يرجح تسوية مطالبة التعويض لصالح المؤمن لهم من حيث المبدأ، الاّ اذا انتهك بصورة فاضحة اشتراطات وتحذيرات عقد التأمين .
اننا نتحدث عن شركة التأمين الوطنية حينما كانت تمارس دوراً احتكارياً في سوق التأمين العام في العراق. اما اليوم حين يعمل الى جانبها عشرات شركات التأمين الاهلية فان المرونة في تسوية مطالبات التعويض تمثل الميزة التنافسية الاساس لشركة التأمين، التي تحدد موقف جمهور المؤمن لهم منها .
وفي هذا السياق وجه الاستاذ عبد الباقي سنة 1974 بإجراء استبيان واسع النطاق للوقوف على انطباعات الجمهور من خدمات الشركة. وتضمنت عينة البحث 5000 استمارة استبيان وزعت على مختلف الشرائح المهنية والطبقية للمجتمع العراقي. وخلصت الى دراسة مستفيضة، كانت نتائجها وتوصياتها محل اهتمام مجلس ادارة شركة التأمين الوطنية، وترجمت الى توجيهات لأجهزة الشركة الفنية والتسويقية .
المتابعة
امتلك الاستاذ عبد الباقي قابلية غير اعتيادية في متابعة اعمال ومراسلات الاجهزة الكثيرة والمتنوعة. وغالباً ما كانت ساعات الدوام الاعتيادية لا تكفيه فيأخذ معه الى البيت حقيبة مليئة بالمعاملات. كان يعنى بالمراسلات التي تصدر عن الشركة، وينبه محرريها – بهوامشه – الى الاخطاء اللغوية والانشائية. واتذكر انه ذات مرة عمم على الموظفين قواعد كتابة الارقام بالعربية. وحينما كنا نرفع له مطالعات، نتشوق الى تصحيحاته وهوامشه التقويمية. كنا نسجلها ونحرص على مراعاتها في مطالعاتنا اللاحقة. كان لا يوقع كتاباً بعد طباعته الا بعد ان يقرأه بإمعان وحين يكتشف بعض الاخطاء الطباعية، سواء اكان النص عربياً او انجليزياً، يعيد الكتاب لتصحيحه في شعبة الطابعه .
بعد خدمته في شركة التأمين الوطنية
بعد 12 عاما امضاها في ادارة شركة التأمين الوطنية، نقل الاستاذ عبد الباقي سنه 1978 الى ديوان المؤسسة العامة للتأمين بوظيفة مستشار. وبعد الغاء المؤسسة العامة للتأمين سنة 1987 نقل بوظيفة مستشار في وزارة المالية، واوكلت له مهمة الاشراف على القطاعين التأميني والمصرفي .
في عام 1994، احيل على التقاعد ببلوغ السن، بعد ما يتجاوز الاربعة عقود امضاها في خدمة الوظيفة العامة. وفي عشية تقاعده وجه له وزير المالية وكالة ورئيس الوزراء في حينه كتاب شكر وتقدير قيّم فيه عاليا، مجمل المسيرة الوظيفية المعطاء الحافلة بالإخلاص والتفاني في اداء الوظيفة العامة. كما وجه له رئيس مجلس ادارة شركة التأمين الوطنية كتاب شكر وتقدير على خدماته المتميزة للشركة ولقطاع التأمين العراقي.
وقد تحمس الكثير من الشركات الى استقطابه والافادة من خبراته. وعلى راسها شركة التأمين الوطنية فسمي عضواً مزمناً في مجلس ادارتها، وما يزال نائبا لرئيس مجلس ادارتها (تشرين الأول 2011). وفي عين الوقت عمل مستشاراً في القطاع المصرفي الاهلي، وما يزال، وعضوا في مجالس ادارة عدد من الشركات المساهمة.
واذا نوثق لشذرات من السيرة الوظيفية للاستاذ عبد الباقي رضا، سواء في القطاع الحكومي او القطاع الاهلي، فنحن نضرب مثلاً على الدور القيادي الذي نهض به والخبرة النوعية اللامعة التي تجاوز عمرها اكثر من نصف قرن. ونتمى له طول العمر والصحة والعافية والذهنية المتيقظة التي ما يزال عليها وهو يتجاوز العقد الثامن من العمر.
[1] للمزيد من المعلومات راجع: مصباح كمال “مساهمة قطاع التأمين العراقي في تأسيس شركات تأمين عربية: لمحة أولية” مجلة التأمين العراقي، 18/8/2008
http://misbahkamal.blogspot.com/2008/08/30-1964-40-60-1969-30-70-1990.html