Monthly Archives: أفريل 2020

COVID-19 and its Impact on General Insurance

منعم الخفاجي*

 

تأثير فيروس كورونا على التأمينات العامة

 

 

نشرت هذه الورقة أصلاً في النشرة الإلكترونية للاتحاد العام العربي للتأمين: www.gaif-1.org/userfiles/file/newsletter/27-04.pdf ونشرت أيضاً في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين http://iraqieconomists.net/ar/2020/04/29/منعم-الخفاجي-تأثير-فيروس-كورونا-على-ال/

 

 

لا شك أن وباء كورونا يجتاح العالم بأسره، وخلّف وسيخلف كوارث بشرية حيث حصد آلاف الأرواح وحجر الناس في منازلهم مما أدى إلى تداعي مختلف اقتصاديات العالم من بينها التأمين وبشكل غير مسبوق حيث فاقت أضراره حتى ما خلفه الكساد الاقتصادي الذي اجتاح العالم سنة 1928.

 

إن ما يهمنا هو التداعيات الاقتصادية لهذا الوباء على قطاع التأمين وكيف يتم التعامل معها.  ومن أهم هذه التداعيات ما يلي:

 

أولاً- انخفاض أجمالي أقساط التأمين وأقساط إعادة التأمين بسبب انخفاض عدد طلبات التأمين الجديدة إضافة إلى ما سيتحقق من أقساط تأمين مرجعة نتيجة لتعديل الأغطية الاعتيادية السارية لتتطابق مع حالة توقف الأنشطة المفروضة بسبب الحجر المنزلي ومنع التجول، سيحصل انخفاض شديد في دخل أقساط التأمين عما هو مخطط له لدى شركات التأمين، مع بقاء المصاريف الإدارية دون تخفيض يذكر.  وهذا ما يشكل حالة سلبية على نتائج العمل.

 

ومع ذلك يتوجب على المؤمنين الحرص على تغيير الأغطية السارية في حالة توقف الأنشطة لصالح كل أطراف عقود التأمين السارية أو تلك التي قد يتم طلبها أثناء فترة الحجر، وفقاً لشروط كل عقد من عقود التأمين، الصريحة والضمنية منها.  إن طرق تغيير أغطية التأمين لتتلاءم مع حالة توقف الأنشطة معروفة وتتم مزاولتها من قبل المختصين (المكتتبين) بالظروف الاعتيادية بشكل طبيعي وبنطاق ضيق وكلما استجد ظرف يستدعي ذلك.  ولكن نحن الآن أمام حالة عامة لها خصوصية تتطلب الاهتمام والمرونة والشفافية التامة من قبل المؤمنين لما لها من تأثير مستقبلي على قطاع التأمين، يتجلى في تعزيز ثقة المؤمن لهم بشركة التأمين.

 

ومن الأسس العامة التي يجب الالتزام بها عند تنفيذ هذه المعالجات ما يلي:

 

1– متى ما استحق قسط مرجع عن عملية تغيير الغطاء أو إنهائه، يتوجب أن يتم احتسابه بالطريقة النسبية (pro-rata basis) بغض النظر عن شرط الإنهاء، وهو حق وعدل باعتبار أن إنهاء سريان التأمين أو تخفيض سعر أو مبلغ التأمين لم يكن بإرادة المؤمن له إنما جاء بسبب هذا الظرف القاهر ((force majeure.

 

2- تاريخ إنهاء أو استبدال غطاء التأمين يتم من التأريخ الفعلي لتوقف وغلق محل العمل بغض النظر عن طلب المؤمن له باعتبار أن الحالة السائدة يفترض فيها العلم العام أولاً وأن الخطورة قد انخفضت من التأريخ الفعلي لتغير هذا الظرف.

 

3- في حالة وجود حادث وقع خلال فترة التأمين المعنية ترتب عليه تعويض مدفوع أو قابل للدفع، لا قسط مرجع يستحق للمؤمن له بشرط أن يزيد مبلغ التعويض/التعويضات على نسبة محددة من قسط التأمين (70% مثلاً).

 

4- إعادة جدولة تسديد أقساط التأمين مستحقة الدفع وعدم التمسك بشرط دفع قسط التأمين.

 

فيما يلي بعض المعالجات لعدد من أنواع التأمين على سبيل المثال وليس الحصر:

 

1- التأمين من الحريق

وثيقة التأمين من الحريق تتضمن شرطاً يقضي بتوقف التأمين إذا تُرك البناء المؤمن و/أو محتوياته لمدة معينة (30 يوماً مثلاً) بشكل مستمر، ولكن بقدر تعلق الأمر بتوقف العملية الإنتاجية في المصانع والأنشطة الأخرى فإن خطر الحريق وعدد من الأخطار الملحقة بوثيقة التأمين من الحريق تتراجع فرص تحققها أو يتلاشى تحقق البعض من الأخطار الملحقة، فبدلاً من إنهاء التأمين بشكل تام يمكن استبدال الغطاء الاعتيادي الساري بغطاء يتناسب مع حالة التوقف هذه يدعى بغطاء الخطر الساكن (silent risk) ويطبق سعر تأمين مناسب حسب تقدير المكتتب يحتسب بموجبه قسط التأمين المرجع للمؤمن له بالطريقة النسبية.  ونص هذا التعديل بسيط حيث يتم الاتفاق على أن العملية الإنتاجية في محل التأمين متوقفة تماماً ولا تجري فيه أي من عمليات الصيانة وعلى أن تتوفر حراسة مستمرة طيلة فترة التوقف.

 

2– التامين على السيارات

بقدر تعلق الأمر بالغطاء الشامل من كافة الأخطار (comprehensive cover) عند توقف العجلة عن الاستخدام يمكن بدلاً من إنهاء التأمين بالكامل أن يستبدل الغطاء ليشمل أضرار العجلة وهي في حالة توقف ((laid up cover حيث سيترتب قسط مرجع يتناسب مع هذه الحالة يحتسب طيلة فترة التوقف.  أما غطاء الشخص الثالث والحريق والسرقة فيعدل ليقتصر على خطري الحريق والسرقة فقط دون أضرار الشخص الثالث ويعاد إلى المؤمن له القسط المرجع المستحق.  وبالنسبة لوثائق التأمين الخاصة بغطاء المسؤولية تجاه الشخص الثالث، يمكن إنهائها أو أن يتم تعليق سريان التامين خلال فترة عدم الاستخدام ومن ثم، بعد بدء استخدام العجلة، تمدد فترة التأمين بمقدار فترة التوقف دون قسط إضافي.

 

3- التأمين الهندسي

وثيقتي التأمين الهندسي، الإنشاءات من كافة الأخطار ((CAR-Construction All Risks والنصب من كافة الأخطار (EAR-Erection All Risks) يتضمنان استثناءً يقضي بتوقف التأمين إذا توقف العمل ((cessation of works في الموقع لمدة معينة تزيد على (لنفرض 60) يوماً بشكل مستمر، إلاّ إذا تم إعلام المؤمن ويتخذ هذا الأخير إجراًء، بموافقة المؤمن له، يقضي باستمرار سريان التأمين ولكن بعد استبدال الغطاء الشامل من كافة الأخطار بغطاء آخر يعرف بـ (stand still cover) يشمل أُخطاراً مسماة أهمها أخطار الطبيعة (Acts of God)، والحريق و…الخ ويعالج قسط التأمين وفقاً لطبيعة كل موقع.

 

4- تأمين خسارة الأرباح

عقد تأمين خسارة الأرباح يعامل كما تعامل وثيقة الخسائر المادية الملحق بها وثيقة تأمين خسارة الأرباح بقدر تعلق الأمر بسعة غطاء التأمين وسعر التأمين وكذلك شمول التعويض من عدمه.

 

وعلى هذا المنوال تعالج الأغطية الأخرى وتعديلها لتتطابق مع الخطورة المستجدة وفقاً لشروط كل عقد واستناداً لمبادئ التأمين.  ففي تأمين الطيران مثلاً يمكن استبدال أغطيتها الاعتيادية بغطاء يشمل الحوادث والطائرة على الأرض في حظائرها.

 

ومن التداعيات الأخرى على قطاع التأمين إضافة إلى أقساط التأمين التي ربما سيكون ضررها أكبر هي:

 

ثانياً- انخفاض عوائد الاستثمار الذي سيتفاوت من شركة إلى أخرى حسب نوع وطبيعة هذا الاستثمار إذ من المعروف أن شركات التأمين وشركات إعادة التأمين تعتمد وبشكل كبير على عائد استثماراتها.  إن تراجع هذا العائد له تأثير سلبي يفوق في أحيان كثيرة تأثير انخفاض أقساط التأمين.

 

مع ملاحظة أن تسوية التعويضات في هذه الظروف يجب أن تتم استناداً لشروط واستثناءات كل عقد، وفي حال أي خلاف بين المؤمن والمؤمن له يجب الاستمرار بحله بالطرق الودية الاعتيادية أو بالتحكيم أو المحاكم إن أقتضى الأمر.

 

وكل ينال ما يترتب عليه من الجائحة التي تعصف بالكل دون تفريق.  أما الجهات الرسمية وغير الرسمية التي ترغب بإبداء العون والمساعدة، وهو من واجبات الحكومات والدول، فعليها مساعدة الأنشطة المتضررة من احتياطياتها، لا أن تنقل هذا العبء إلى جهات ربما هي الأخرى تحتاج إلى مساندة كما هو الحال بالنسبة لشركات التأمين وشركات إعادة التأمين.

 

بغـــــداد – في 12/4/2020

 

(*) خبير في قضايا التأمين

 

 

Catastrophe and Economic Recovery

جاك هيرشلايفر

الكوارث والانتعاش الاقتصادي1

 

جاك هيرشلايفر (1925-2005)

كان لحين وفاته أستاذاً للاقتصاد في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجليس

 

ترجمة: مصباح كمال

 

نشرت في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2020/04/جاك-هيرشلايفر-الكوارث-والانتعاش-الاقتصادي.pdf

 

 

هُزمت ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية وتعرضتا إلى القصف والدمار بالقنابل، ومع ذلك فقد شهدتا انتعاشاً بعد انتهاء الحرب أذهل العالم.  ففي غضون عشر سنوات أصبحت هاتان الدولتان، مرة أخرى، قوتان اقتصاديتان كبيرتان.  وبعد عقد من الزمان، استعاد كل منهما ليس فقط الازدهار ولكن تجاوزتا أيضاً، من الناحية الاقتصادية، وفي نواح مهمة، بعض المنتصرين في الحرب.

 

شهدت العصور السابقة أيضاً السرعة المفاجئة للتعافي من الكوارث.  فقد علَّق جون ستيوارت ميل [1806-1873]

 

إن ما يثير العجب غالباً السرعة الكبيرة التي تتعافى فيها البلدان من حالة الدمار، والاختفاء، في وقت قصير، لكل أثر للخسائر التي تحدثها الزلازل والفيضانات والأعاصير، وويلات الحرب.  عدوٌ يخرّبُ بلداً بالنار والسيف، ويدمر أو ينهب تقريباً جميع الثروات المنقولة الموجودة فيها، ويلحق الأضرار بجميع السكان ولكن في غضون سنوات قليلة بعد ذلك يعود كل شيء كما كان عليه من قبل. (ميل 1896، الكتاب 1، الفصل 5، الفقرة I.5.19)

 

ومع ذلك، فإن الانتعاش الناجح هو بأي حال من الأحوال ليس أمراً عاماً.  حضارة كريت القديمة ربما دمرها الزلزال أو لم يدمرها، وحضارة المايا دمرتها أو لم تدمرها الأمراض، ولكن في الحالتين كلتيهما فإن هاتين الحضارتين لم تشهدا انتعاشاً بعد الويلات التي لحقتهما.  وأشهر مثال، بطبيعة الحال، هو العصور المظلمة التي تلت سقوط روما والتي استمرت لعدة قرون.

 

لقد قام علماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤرخون ومخططو السياسات بدراسات مستفيضة لطبيعة ومصادر وعواقب الكوارث والانتعاش اللاحق، لكن الأدبيات الاقتصادية لم تُولِ الموضوع حقه من الاهتمام إلا بشكل غير منتظم وهو أمر مقلق.  وكمثال واضح على ذلك المجلدات الأربعة السميكة لقاموس بالغريف الجديد: قاموس الاقتصاد The New Palgrave: A Dictionary of Economics (1987) التي أهملت هذه المواضيع تماماً حتى أن عبارة “كارثة” و “انتعاش” لا تظهر في فهرس هذا العمل الموسوعي.  وفوق ذلك، فإن الكوارث هي تجارب اقتصادية طبيعية، وهي موازية لاختبارات درجة الدمار التي يقوم بها المهندسون وعلماء الطبيعة لمعرفة قوة المواد والآلات.  إن فهم السلوك تحت وطأة الظروف الشديدة التوتر تلقي الكثير من الضوء على الحياة الاقتصادية العادية.

 

السجل التاريخي

 

على الرغم من أن المآسي اليومية الصغيرة الحجم مثل حوادث السيارات والأمراض المعوقة وخيمة بما فيه الكفاية بالنسبة لأولئك الذين يتعرضون لها، فإن ما يعنينا هنا هو الأحداث الأكبر حجماً.  ومن المفيد أن نميّز ابتداءً بين المصائب (متوسطة الحجم) التي تلحق بمجتمع محلي مثل الأعاصير والفيضانات أو الغارات الجوية، وبين الكوارث (كبيرة الحجم) التي تلحق المجتمع الأكبر كتلك المرتبطة بالمجاعة واسعة الانتشار والثورة الاجتماعية المدمرة، أو الهزيمة والقهر بعد حرب شاملة.  ففي المجتمع المحلي فإن نسيج النظام الاجتماعي الأوسع يوفر شبكة أمان ضد المصائب، في حين أن وقوع الكوارث الواسعة النطاق التي تلحق بالمجتمع الأكبر تهدد النسيج الاجتماعي نفسه برمته.  قد تؤدي المصائب في المجتمع المحلي إلى وقوع مئات أو آلاف القتلى، في حين أن الكوارث التي تصيب المجتمع الأكبر تؤدي إلى وقوع مئات الآلاف أو الملايين من القتلى.  (كحالة خاصة، تعتبر حالات التضخم الجامح والكساد الاقتصادي الكبير أحداثاً تمتد آثارها على نطاق المجتمع الأكبر لا تؤدي مباشرة إلى خسائر بشرية كبيرة ومع ذلك فإن لها عواقب وخيمة).

 

تعتبر الكوارث متوسطة الحجم الني تصيب المجتمع المحلي أحداثاً متكررة نسبياً، مما يجعل التعميم التجريبي ممكناً.  فقد لوحظ في مثل هذه الكوارث تكيّف الأفراد والمجتمعات المحلية مع آثارها.  فالناجين من الضحايا ليسوا مغلوبين على أمرهم، فبعد وقت قصير جداً من الصدمة يبدأون بمساعدة أنفسهم وبعضهم البعض.  وفي الفترة التي تلي وقع الصدمة مباشرة يكون التماهي مع المجتمع قوياً، مُعززاً للجهود التعاونية والإيثارية الرامية إلى الإنقاذ والإغاثة والإصلاح.  بعد زلزال سان فرانسيسكو عام 1989، على سبيل المثال، هُرع سكان حي فقير عفوياً للمساعدة على إنقاذ سائقي السيارات المحاصرين بسبب انهيار طريق سريع.  وبعد الزلزال الذي أصاب مدينة أنكورج [في ولاية ألاسكا] عام 1964 خفَّضت محلات السوبرماركت المحلية أسعار المواد الضرورية في حين تعاون المستهلكون عموماً مع هذا السلوك من خلال تقنين المشتريات.

 

من ناحية أخرى، هناك بعض الحالات الخطيرة للسلوك المعادي للمجتمع.  ففي حين أن حسن النية والتعاون ساد في مدينة نيويورك خلال انقطاع التيار الكهربائي عام 1965، فإن انقطاع التيار الكهربائي ثانية في عام 1977 جلب معه العنف والنهب الكبير.  تجارب سيئة مشابهة وقعت بعد إعصار هيوﮔو Hurricane Hugo الذي ضرب الجزر العذراء Virgin Islands عام 1989.  ومع ذلك، وكما بيّن راسل دينز وتوماس درابيك Russel Dynes & Thomas Drabek، فإن السلوك الاجتماعي الإيجابي كان، تاريخياً، هو الغالب في مثل هذه الحالات.  وفي حين أن الحالات المعاكسة ليست نادرة فإن لهذه الحالات عادة جذوراً واضحة إلى حدٍ ما – ومنها، على سبيل المثال، وجود شعور قوي سابق بالظلم لدى أعضاء المجتمع المحلي.  وكتعميم أكثر موثوقية فإن الأزمات تُطلق دائماً تقريباً تدفقاً للدعم من خارج المنطقة المنكوبة، وهي الظاهرة التي أصبحت تعرف بـ “السلوك التآزري “convergence behavior”.”[2]  والمثير للدهشة في كثير من الأحيان، أن المجتمعات التي تسير صوب التعافي تتجاوز المعدلات السابقة للتقدم نظراً لظهور قادة جدد، وتعزز التماسك الاجتماعي، وإبطال العمل بالمواقف والقواعد التي عفَّ عليها الزمن.

 

وكمثال محدد، فإن الغارات بالقنابل على هامبورغ في تموز/يوليو وأغسطس 1943 كانت كوارث مكثفة للغاية أصابت المجتمع الأكبر.  وكما يحدث عادة في مثل هذه الحالات، أثبت الناس أنهم أشد صلابة من الهياكل المادية.  دمرت الغارات نحو 50 في المائة من المباني في المدينة، في حين أن الأربعين ألف شخص الذين قتلوا كانوا يشكلون أقل من 3 في المائة من السكان المعرضين للخطر.  غادر المدينة حوالي نصف الناجين وعاد حوالي 300,000 منهم في فترة التعافي، في حين أن حوالي 500,000 تم إجلاؤهم بشكل دائم إلى مناطق أخرى في أنحاء ألمانيا.  وأُغلقت “المنطقة الميتة” “dead zone” من المدينة للتركيز على الإصلاحات في المناطق التي كانت أقل تعرضاً لأضرار بالغة.  الكهرباء والغاز والخدمات البرقية أصبحت كلها كافية في غضون بضعة أيام بعد انتهاء الهجمات.  وظلت إمدادات المياه مشكلة صعبة واستخدمت الشاحنات الصهريجية لتوفير المياه.  نظام النقل تعافى جزئياً فقط بسبب الأضرار الجسيمة وحركة المرور الكثيفة، ولكن خدمات الخطوط الرئيسية للسكك الحديدية استؤنفت في غضون أيام قليلة.  في اليوم السابع أعيد فتح البنك المركزي لهامبورغ وبدأ نشاط الأعمال يجري بشكل طبيعي.  هامبورغ لم تكن مدينة ميتة، ففي غضون بضعة أشهر، حسبما ذكرت الهيئة الأمريكية لمسح القصف الاستراتيجي US Strategic Bombing Survey، استعادت المدينة 80 في المائة من طاقتها الإنتاجية السابقة.

 

لننظر الآن إلى كارثة واسعة النطاق حقاً: المحاولة البلشفية لفرض “شيوعية الحرب” “War Communism في روسيا بدءاً من 1917 حتى 1921، بالاستغناء عن الأسواق[3] وحتى استخدام النقود.  لقد كان الاقتصاد الروسي يسير نحو الانحدار الشديد خلال الحرب الأهلية السابقة فقد انخفض الإنتاج الصناعي إلى 20 في المائة فقط من مستوى ما قبل الحرب، وتقلصت المساحة المزروعة في القطاع الزراعي إلى نحو 70 في المائة.  وبعد الانتصار الأحمر النهائي فإن الاقتصاد، بدلاً من أن يتعافى، دخل في دوامة الانحدار الكلي.  وبهذا الصدد يستشهد ألكسندر بايكوف بلينين:

 

على الجبهة الاقتصادية، وفي محاولتنا للتحول نحو الشيوعية، عانينا، مع حلول ربيع عام 1921، هزيمة أكثر خطورة من أي وقت سابق لحقت بنا من قبل كولجاك و دينيكين و بيلسودسكي Kolchak، Denikin، Pilsudsky.  إن الاستيلاء الإلزامي في القرى والنهج الشيوعي تجاه مشاكل إعادة الإعمار في المدن – هذه هي السياسة التي … أثبتت أنها السبب الرئيسي لأزمة اقتصادية وسياسية عميقة. (Baykov 1947، ص 48)

 

يبدو التفسير أنه، في البداية، كان البلاشفة قد أسسوا السيطرة المباشرة فقط على “الصروح الشامخة” للصناعة (أي السيطرة على عدد صغير نسبياً من المصانع الكبيرة الموجودة أساساً في المدن الكبرى).  خارج هذا القطاع، حافظت طائفة متنوعة من المشروعات الخاصة والتعاونية على استمرار سير الصناعة والتجارة في حدها الأدنى على الأقل.  لقد سمح الانتصار العسكري للشيوعيين توجيه انتباههم إلى تصفية هذه المشروعات المتبقية.  إضافة إلى ذلك، فإن العديد من الرأسماليين الصغار الذين بقوا في البلاد على أمل هزيمة السوفيت رحلوا في النهاية وتخلوا عن أعمالهم ومشاريعهم.  وهكذا نرى قيام مفارقة الانهيار الاقتصادي بعد الانتصار السياسي والعسكري.

 

التحول في منتصف عام 1921 إلى السياسة الاقتصادية الجديدة New Economic Policy (NEP) (النيب)، واستعادة التبادل النقدي، وتوسيع المجال أمام المشاريع الخاصة، أدى على الفور تقريباً إلى انتعاش كبير.  إن هذا الانتعاش نفسه، بوصفه سمة ملحوظة، والذي خلق طلباً على العملة كوسيلة للتبادل، سمح للسوفيت استخدام المطابع للحصول على الأموال من خلال الزيادة الكبيرة في كتلة النقود في التداول.  لقد وفرت السياسة الاقتصادية الجديدة للاقتصاد فرصة لالتقاط الأنفاس قبل الشروع في الخطط الخمسية الستالينية، والدفع نحو العمل الجماعي والتصنيع.

 

العوامل المساعدة والمعوقة للانتعاش

 

أحد العوامل المواتية للانتعاش هو الانكماش الحتمي للطلب على الحاجات الأقل ضرورة، الذي يحرر الموارد للإنقاذ العاجل والإصلاح وإعادة التأهيل.  وفي جانب العرض، تتدفق الموارد المستوردة (الهدايا، وعائدات التأمين، والقروض التجارية، وغيرها) من مناطق الدعم الخارجي إلى المناطق المتضررة.  والأكثر أهمية، وخاصة في المدى الطويل، هو احتياطي الطاقة الإنتاجية.  فالعمال يعملون لساعات أطول، والأطفال يتركون المدرسة، ويعود كبار السن المتقاعدون إلى العمل.  كما يمكن تشغيل المكائن وهياكل الإنتاج بطاقتها القصوى.  وكذلك إحلال البدائل، مثل الخيام بدلاً من المنازل، أو الشاحنات بدلاً من الحافلات والقطارات – والتي تساهم في التوسع في توفير الضروريات.  وأخيراً، يمكن الاسترخاء في تطبيق الضوابط الرقابية التي تخنق التجارة والصناعة أو تعليق هذه الضوابط.  كما يمكن وضع الأنشطة الضارة اجتماعياً، مثل الجريمة والتقاضي الطفيلي، تحت سيطرة أكثر صرامة.

 

بالنسبة للكوارث متوسطة الحجم فإن المشاكل الرئيسية تكنولوجية وتوزيعية (على سبيل المثال، ندرة الموارد المحلية أو توفر تعويض عادل).  ولكن بالنسبة للمصائب واسعة النطاق فإن بقاء النظام الاجتماعي نفسه هو الذي يكون على المحك.  إن انتشار المجاعات والأوبئة والثورات الاجتماعية المدمرة، والحروب المدمرة، وحتى الكساد التجاري الحاد وحالات التضخم النقدي الجامح جميعها تهدد شبكة الترتيبات التي تدعم التقسيم المحكم للعمل الذي تعتمد عليه الاقتصادات الحديثة.

 

تاريخياً، فإن الجانب الأكثر انكشافاً لآثار الكوارث على هذا التقسيم للعمل كان تبادل المواد الغذائية والسلع المصنعة، من خلال النقود، بين المناطق الريفية والحضرية.  بالمقابل، فإن العلامة الأكثر وضوحاً على الانهيار [عقب الكوارث] هي حركة السكان من المدن إلى الريف، كما حصل بوضوح في العصور القديمة من إفراغ المدن من سكانها مع تدهور الإمبراطورية الرومانية.  وفي العصور الحديثة انخفض سكان موسكو وبطرسبورغ بنسبة تزيد على 50 في المائة بين عامي 1917 و 1920، أثناء الحرب الأهلية الروسية.  وبالمثل، ولكن ليس إلى ما يقرب من ذلك بدرجة كبيرة، انخفض عدد السكان في المناطق الحضرية الألمانية واليابانية على حد سواء انخفاضاً كبيراً في نهاية وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية.  وحتى في الولايات المتحدة، فقد شهدت فترة الكساد 1929-1935 توقفاً، وإلى حد ما تغيراً في الاتجاه على المدى البعيد نحو التحضر.

 

لقد كان السبب وراء انهيار التبادل النقدي في ظل شيوعية الحرب الروسية يكمن في قرار مؤدلج لمحاولة تحطيم نظام الحوافز الخاصة التي سبق لها أن عملت لتغذية المدن [من قبل الريف].  وبالنسبة لليابان وألمانيا، فقد كانت هناك عملية مختلفة نوعاً ما، “تضخم مقموع”، كما كان يحدث غالباً في وقت سابق، وعلى سبيل المثال خلال الثورة الفرنسية والكونفدرالية الجنوبية خلال الحرب الأهلية الأمريكية.

 

وتبدأ عملية التدهور مع وطأة الضغوطات العسكرية أو الاقتصادية، كالخسائر الإقليمية، وتعطل وسائل النقل، أو التدابير التضخمية لتمويل الحرب، التي تستتبع معها بالضرورة ندرة في المواد الغذائية.  والخطوة الحاسمة الخادعة إزاء ذلك هو اللجوء إلى وضع سقف أعلى لأسعار المواد الغذائية، وذلك بهدف توزيع “الحصص بعدل” أو ببساطة كبح الاضطرابات في المناطق الحضرية.  ولكن النتيجة هي أن المزارعين يعملون على الحد من إرسال المواد الغذائية إلى المدن.  في ظل هذه الأوضاع تظهر آليات غير رسمية للتوزيع: الأسواق السوداء، والمقايضة، والرحلات المضنية (رحلات يومية مضنية لسكان المدن إلى الريف)، وكلها تنطوي على خسائر ناجمة عن ارتفاع تكاليف المعاملات transaction costs.  ومع بدء فقد المدن لسكانها ينخفض الإنتاج الصناعي.  في غضون ذلك قد تحاول الحكومة مصادرة المحاصيل الزراعية باستخدام القوة العسكرية.  وهذا يهدد بالتسبب في انهيار عام لإنتاج الغذاء.  عند هذه النقطة، إن لم يكن قبلها وكما يشهد التاريخ، تتنازل الحكومات عن سياستها.  على سبيل المثال، عندما وقعت الحكومة البلشفية تحت الضغط لجأت إلى إدخال السياسة الاقتصادية الجديدة.  في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ولحسن الحظ، فإن دوامة الانحدار لم تتقدم بما يكفي نحو القاع قبل قيام ايرهارد Erhard (انظر المعجزة الاقتصادية الألمانية) وإصلاحات دوج Dodge [Joseph Morell Dodge] باستعادة سير العمل بنظام الأسعار.

 

قضايا السياسات العامة: دور الحكومة

 

هناك اتفاق واسع النطاق على أن الحكومة يجب أن تتحمل مسؤولية صيانة وترميم البنية التحتية الاقتصادية – نظام القانون ونسق الانضباط، بالإضافة إلى وسائل النقل الأساسية والاتصالات.

 

وبالنسبة للكوارث متوسطة الحجم التي تلحق بمجتمع محلي، فإن السؤال الرئيسي لخطة العمل هو مدى الأنشطة الإضافية التي يتعين على الحكومة القيام بها، سواء في مرحلة التخطيط أو مرحلة التعافي، والتي قد تعرقل أو تحلّ محل جهود القطاع الخاص.  فالمنح أو القروض المدعومة تعمل على تخريب البواعث للحماية الذاتية لدى القطاع الخاص.  على سبيل المثال، فإن التأمين على الفيضانات المدعم من الحكومة يدفع نحو الإفراط في البناء في المناطق المعرضة للفيضانات.  وبالمثل، فإن بعض أشكال الإغاثة الحكومية يعيق تعافي النشاطات التجارية العادية.  فالتوزيع المجاني للأغذية، على سبيل المثال، قد يؤدي إلى إبطاء استعادة قنوات التسويق العادية.  وهناك أمرٌ آخر، وهو أيضاً قابل للمناقشة، وهو إلى أي مدى يجب على الحكومة تقديم حوافز إضافية للاستعداد لمواجهة الكوارث فضلاً عن توفيرها، كراعية، شبكة أمان بالنسبة لأولئك الذين كانوا في وضع يسمح لهم بالتصرف الخاص لكنهم فشلوا في القيام بذلك [بسبب خطط الحكومة].  وكما ذكر جورج هوروفيتش Horwich George، على الرغم من أن الحكومة خلقت المثبطات للتصرف الخاص، فقد ظهرت إلى حيز الوجود شركات تجارية لمجابهة الكوارث (على سبيل المثال، شركة Disaster Masters في مدينة نيويورك) جنباً إلى جنب مع إصدار نشرة خاصة بهذا النشاط تحت عنوان المجلة الشهرية للمخاطر Hazard Monthly.

 

عندما يتعلق الأمر بالكوارث كبيرة الحجم التي تطال المجتمع الأكبر، على أي حال، فإن أطراف القطاع الخاص بالكاد تستطيع أن تحمي نفسها ما خلا اللجوء ربما إلى الهجرة.  وتشير التجربة التاريخية إلى أن التعافي والانتعاش يتوقف على قدرة الحكومة على صون أو استعادة حقوق الملكية جنباً إلى جنب مع نظام السوق الذي يدعم التقسيم الاقتصادي للعمل.

 

مع تبني نظرة أكثر اتساعاً، يمكن اعتبار موضوع الكوارث والتعافي منها كحالة خاصة ضمن المشكلة العامة للتنمية الاقتصادية.  وكما برهنت الأحداث في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين بقوة، فإن الاشتراكية عرّضت دول أوروبا الشرقية لعقود من الكوارث الاقتصادية.  بعضها، مثل بولندا واستونيا وجمهورية التشيك، بدأت تتعافى بشكل جيد من هذه الكوارث، والبعض الآخر، مثل أوكرانيا، ما زالت تناضل.

 

مراجع إضافية للمزيد من الاطلاع

[هذه المراجع من وضع كاتب المقالة-المترجم]

 

Anderson, J. L., and Eric L. Jones. “Natural Disasters and the Historical Response.” Australian Economic History Review 28 (1988): 3–20.

Baykov, Alexander. The Development of the Soviet Economic System. New York: Macmillan, 1947.

Dacy, Douglas C., and Howard Kunreuther. The Economics of Natural Disasters. New York: Free Press, 1969.

Douty, Christopher M. The Economics of Localized Disasters. New York: Arno Press, 1977.

Drabek, Thomas E. Human System Responses to Disaster. New York: Springer-Verlag, 1986.

Dynes, Russell R. Organized Behavior in Disasters. Lexington, Mass: Heath Lexington Books, 1970.

Fritz, Charles E. “Disaster.” In R. K. Merton and R. A. Nisbet, eds., Contemporary Social Problems. New York: Harcourt, Brace, Jovanovich, 1961.

Hirshleifer, Jack. Economic Behaviour in Adversity. Chicago: University of Chicago Press, 1987.

Horwich, George. “Disasters and Market Response.” Cato Journal 9 (1990): 531–555.

Iklé, Fred Charles. The Social Impact of Bomb Destruction. Norman: University of Oklahoma Press, 1958.

Mill, John Stuart. Principles of Political Economy. New York: D. Appleton, 1896. Available online at: http://www.econlib.org/library/Mill/mlP.html

Prince, Samuel Henry. Catastrophe and Social Change. New York: Columbia University Press, 1920.

Sorokin, Pitirim A. Man and Society in Calamity. New York: Dutton, 1942.

 

Copyright ©2008

Liberty Fund, Inc.

 

تعليق المترجم

 

هذه الدراسة مكتوبة من موقف ليبرالي وقد آثرنا ترجمتها للعربية لأن لها بعض العلاقة بالحماية التأمينية وكذلك بالدمار متعدد الأوجه الذي حلَّ بالعراق جراء سياسات النظام الدكتاتوري البائد وحروبه والغزو والاحتلال الأمريكي.  تضم الدراسة أفكاراً مهمة بشأن الكوارث الطبيعية والبشرية من منظور اقتصادي وتأميني أيضاً.

 

والملاحظ أن رؤية كاتب الدراسة، رغم الإشارات التي يوردها بشأن التعاضد الاجتماعي عند وبعد وقوع الكوارث، تقوم على التقليل من دور الحكومات في مجابهة آثار الكوارث، والتأكيد على دور النشاط الفردي الخاص.  فالكوارث من هذا المنظور تصبح سلعة قابلة للتسعير والتسويق من قبل شركات متخصصة يشير إلى إحداها بالاسم.

 

والكاتب بالطبع لا يستسيغ الاشتراكية ويستخدم تطبيقها السوفيتي كمثال للكوارث البشرية المدمرة.

 

ولو كان حياً في زماننا لربما أشار إلى الكساد المالي العظيم الذي أنتجه النظام الرأسمالي منذ عام 2008 ككارثة مالية كانت ستؤدي إلى عواقب وخيمة غير ما اختبرناه لولا تدخل الحكومات التي يحصر دورها بتحمل “مسؤولية صيانة وترميم البنية التحتية الاقتصادية – نظام القانون ونسق الانضباط، بالإضافة إلى وسائل النقل الأساسية والاتصالات.”

 

هو لم يتحدث عن نهب “العالم الثالث” من المنظور التاريخي البعيد المدى longue durée كنمط من الكوارث البشرية التي ألحقت الدمار باقتصادات هذا العالم.

 

قد لا نختلف معه بشأن تقييمه لتطبيق الاشتراكية لكننا نود تقديم التعليق التالي.  تقوم الاشتراكية، في نموذجها السوفيتي، على أساس اقتصاد مخطط مركزياً تسيطر فيه الدولة على جميع وسائل الإنتاج.  وقد نشأت الاشتراكية تاريخياً كاستجابة للاختلال الاقتصادي والأخلاقي للرأسمالية. واقترنت تطبيقات الاشتراكية في القرن العشرين أيضاً بخلل اقتصادي وقسوة أخلاقية.  ومع ذلك فإن فكرة ومثل الاشتراكية ما زالت قائمة كبديل للرأسمالية، ولكن ليس معروفاً إن كانت الاشتراكية، في شكل ما، ستعود في نهاية المطاف كقوة تنظيمية كبرى للشؤون الإنسانية.  ولكن لا يمكن لأحد تقييم آفاقها بدقة دون الأخذ في الاعتبار دراما نشوء وانهيار الاشتراكية في التطبيق.

 

 

[1] Jack Hirshleifer, Disaster and Recovery, The Concise Encyclopaedia of Economics, Liberty Fund Inc, 2008.

This article is translated, with permission, from David R. Henderson, ed., The Concise Encyclopedia of Economics, Liberty Fund, 2008.

تمت ترجمة هذه المقالة بإذن خطي من ديفيد آر هندرسون، صاحب الحقوق، الموسوعة الوجيزة للاقتصاد، صندوق الحرية، 2008.

نشرت الترجمة العربية كفصل من كتاب مقالات ومراجعات حول الخطر والتأمين، ترجمة وإعداد مصباح كمال، تحرير تيسير التريكي (بيروت: منتدى المعارف، 2019)، ص 79-90.

[2] هذا السلوك نجد ما يماثله في البلدان العربية تحت عنوان “الفزعة” أو “العونة” التي تتجسد بتأثير من القيم الاجتماعية غير المكتوبة في قيام الجماعة بالتكاتف والتعاضد أمام المصائب والرزايا الطبيعية والبشرية لتقديم الإغاثة للمحتاج والمصاب والمتضرر.  ولطالما ذكرتُ الفزعة كشكل بدائي لفكرة التأمين: تعاون الجماعة لإغاثة الفرد.  وهو تحرك، سلوك، غير رسمي، وتحرك تلقائي من قبل الناس نحو منطقة الكارثة لتقديم ما يستطيعونه.  (المترجم)

[3] لقد كانت المدن والقوات المسلحة على حافة الجوع خلال الحرب الأهلية، وأدى الحرب بالتزامن مع انهيار العملة، وشلل النقل، وانهيار التجارة الدولية إلى استحالة استمرار علاقات السوق العادية.  وهذا الوضع هو الذي دفع الحكومة السوفيتية الفتية إلى إرسال فرق الاستيلاء الإلزامي على الحبوب ومكافحة الكولاك (الفلاحين الأغنياء) وخزنهم للحبوب لتوفير الغذاء للمدن.  (المترجم).

Coronavirus and Insurance

فيروس كورونا والتأمين

محمد القره غولي*

نشر هذا المقال أصلاً في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين: محمد القره غولي* فيروس كورونا والتأمين

أعلنت منظمة الصحة العالمية حالة طوارئ صحية عالمية لانتشار فيروس كورونا المستجد COVID-19.  ومع وجود أكثر من 300,000 حالة مؤكدة بالفعل في جميع أنحاء العالم فإن المجتمع الدولي يعمل على التخفيف من أزمة الفيروس التاجي المستجد (على سبيل المثال، من خلال التحذير من السفر غير الضروري والحجر المنزلي واغلاق الحدود).  وبالنسبة لشركات فإنها تشعر بالقلق من التأثير المالي المحتمل على عملياتها نظراً لاستمرار الانتشار العالمي للفيروس التاجي.

 

لحسن الحظ، يمكن للشركات إدارة التعرض للفيروس التاجي بشكل استباقي الآن من خلال المراجعة الدقيقة لبرامج التأمين الحالية لتحديد ما إذا كانت توفر التغطية الكافية من الأضرار التي يسببها الفيروس التاجي والخسائر الأخرى المرتبطة بالأمراض المعدية، وتوثيق كل الخسائر التي يمكن أن تكون موضوعاً للتعويض بموجب وثائق التأمين العائدة لها. في حين أن نطاق التغطية سيعتمد على الشروط المحددة لكل وثيقة تأمين، فقد تستجيب بعض من التغطيات التأمينية لأنواع من خسائر الفيروسات التاجية التي قد يواجهها حاملو الوثائق التجارية.

 

هناك أنواع مختلفة من وثائق التأمين تقدم تغطية للخسائر المرتبطة بالأمراض المعدية والأوبئة وليس تحديداً للفيروس التاجي.

 

تأمين انقطاع او توقف الأعمال | خسائر الارباح | الخسائر التبعية

Business Interruption Insurance – Loss of Profit – Consequential Loss

 

إن المؤسسة الحريصة على ضمان استمراريتها رغم الخسائر التي قد تتعرض لها تقوم بتأمين انشطتها التجارية او الصناعية او الخدمية ضد اخطار متعددة مثل الحريق او عطل المكائن او اخطار اخرى تجدها مناسبه لطبيعة اعمالها.  غير ان هذه الوثائق تغطي الاضرار المادية فقط التي قد تتكبدها.  إن المؤسسة قد تجد نفسها انها لاتزال تعاني من خسائر تبعية ناتجه عن توقف انشطتها خلال فترة التصليح واعادة البناء والتعمير للمؤسسة ولغاية استئناف اعمالها وبالمستوى الذي كانت عليه قبل حدوث الضرر.  في هذه الحالة فإن المؤسسة تحتاج لوثيقة تأمين مستقلة ولكنها متربطه بوثيقة تأمين الضرر المادي تحميها من خسارة العائد التجاري نتيجة توقف اعمالها.  هذا التوقف يؤدي الى خسارة في الربح بالإضافة الى استمرار تحملها للمصاريف الثابتة مثل أجور الموظفين والإيجار وفواتير المياه والكهرباء.

 

ونتيجة للوضع الذي فرضهُ انشار وباء الفيروس التاجي المستجد، قد تتعرض الشركات الواقعة في المناطق التي يتركز فيها الفيروس إلى اضطرابات كبيرة وتوقف في انشطتها او انشطة الموردين للشركةSupply Chain  وقد يستجيب التأمين ضد توقف الأعمال في تغطية خسائر الدخل لهذه الشركات.

 

في العديد من وثائق التأمين على الممتلكات التجارية والصناعية مثل التأمين من الحريق وعطل المكائن، يتم تفعيل تغطية توقف وانقطاع الأعمال / خسائر الارباح عندما يتحمل حامل الوثيقة “خسارة مادية مباشرة أو تلف” للممتلكات المؤمن عليها بسبب الخطر المغطى بموجب وثيقة الضرر المادي، وفي حالة المطالبة بالتعويض عن الخسارة التبعية عند توقف الأعمال نتيجة الفيروس التاجي المستجد، قد تعارض بعض شركات التأمين ما إذا كان قد تم استيفاء شرط “الخسارة المادية”.  اي ان وثائق الخسارة التبعية لا تُفعَّل الا بعد ان يتحقق الضرر المادي للوثيقة الاصلية مثل وثيقة تأمين الحريق.

 

ومع ذلك، يجب على حاملي الوثائق أن يضعوا في اعتبارهم أن المحاكم لم تبت في قانون او تعريف ثابت عندما تتكبد الممتلكات المؤمنة “خسارة مادية”.  وانما تنظر في القضية المرفوعة لتحديد فيما إذا كان شرط الخسارة المادية قد تم اقامته material damage proviso

 

فمثلاً قررت المحاكم في عدد من الولايات القضائية أن التلوث والحوادث الأخرى، التي تجعل الممتلكات غير صالحة للسكن أو غير صالحة للاستخدام المقصود منها، تشكّل “خسارة مادية” كافية لبدء تغطية انقطاع الأعمال.  وبالتالي، فإن تحديد ما إذا كان قد حدث “خسارة مادية” يتطلب دائما فحصًا دقيقًا للحقائق الخاصة لكل حالة.

 

احياناً تضاف اغطية تأمينية متخصصة بخطر خاص وتوسيع مدى الغطاء الذي توفره وثائق التأمين الاساسية.  مثال على ذلك تلك التي تُباع إلى حاملي الوثائق في قطاعات خدمات الضيافة والرعاية الصحية – حيث تضاف تغطية تأمينية صريحة للخسائر التي تسببها “الأمراض المعدية ” دون الحاجة إلى أضرار مادية للممتلكات المؤمن عليهاnon-physical damage.  على الرغم من احتمالية توفر تغطية بموجب تأمين انقطاع او توقف الأعمال (يعتمد على توفر شرط الخسارة المادية)، يجب على الشركات التي تهتم بشكل خاص بخطر الاضطرابات الناجمة عن تفشي الأمراض المعدية أن تنظر أيضًا في شراء تغطية “الأمراض المعدية”.

 

بالإضافة إلى ذلك، توفر العديد من وثائق التأمين على الممتلكات التجارية تغطية تأمينية لخسائر الايرادات عندما تحظر “السلطة المدنية”civil authority او تقيد الوصول إلى مبنى المحل التجاري المؤمن عليه لحامل الوثيقة.  وهذا يعتمد على صيغة عقد التامين، وقد تتطلب أو لا تتطلب تغطية “حظر السلطة المدنية” الخاصة بوثيقه انقطاع او توقف الأعمال أن يكون غطاء تقييد الوصول denial of access ناتجًا عن “خسارة مادية” سبب الخسارة المغطاة.  وإذا كان الأمر كذلك، غالبًا لا يتطلب حدوث “خسارة مادية” لممتلكات حامل الوثيقة.  وبناءً على ذلك، في حالة قيام سلطة حكومية اتحادية أو محلية بتقييد الوصول إلى أو من المناطق التي تم فيها تحديد انتقال نشط لمرض مُعدٍ، فقد تستجيب تغطية ” تقييد الوصول denial of access ” مع تأمين خسائر الدخل المصاحبة للأعمال المتضررة.

 

في وثائق التأمين ضد اخطار العنف السياسي Political Violence (وهي وثيقة تعوض المؤمن له عن كافة الأضرار المادية التي تلحق بالممتلكات المؤمن عليها (المبني أو المحتويات أو أي جزء منها من جراء هلاكها أو تلفها نتيجة: أعمال الإرهاب، التخريب، أعمال الشغب والإضرابات و/أو الاضطرابات المدنية، الأضرار المتعمدة، العصيان المسلح والثورة أو التآمر، التمرد او الانقلاب العسكري و الحرب او الحرب الاهلية) قد توفر هذا الوثيقة تغطية لخسائر توقف الأعمال/الخسائر التبعية التي تتكبدها الشركة التي تعمل في بلد اجنبي ( البلد المضيف ) والناتجة عن الإجراءات التنظيمية التي قد تتخذها الحكومة المحلية.  فمثلا، تصدر الحكومة المحلية مرسوم صحي او سلسله اجراءات خاصة بانتشار وباء مثل تلك المتعلقة بانتشار الفيروس التاجي، ورغم ان هذه الاجراءات لا تعتبر “مصادرة ممتلكات “او “اخلال بالعقود” والتي عادة تغطيها وثائق التأمين ضد اخطار العنف السياسي فإن العديد من وثائق التأمين ضد اخطار العنف السياسي توفر تغطية لانقطاع الأعمال، حتى عندما لا يكون هناك ضرر مادي، نتيجة الاجراءات التي تتخذها حكومة البلد المضيف.

 

تأمين المسؤولية المدنية، وتأمين اصابة العمال، وتأمين الأخطاء والسهو وتأمين المديرين والمسؤولين

Liability Insurance: CGL, D&O, E&O, and Workers’ Compensation Coverage

 

مع تزايد حالات الإصابة بفيروس كورونا، قد تواجه الشركات – لا سيما تلك التي تعمل في مجال الضيافة – دعاوي قضائية من قبل الضيوف / النزلاء المصابين بدعوى فشل الشركة / الفندق في تطبيق اجراءات معقولة للحماية من خطر التعرض للفيروس أو التحذير منه.  تهدف وثائق تأمين المسؤولية المدنية إلى حماية رب العمل ضد مطالبات او دعاوي الطرف الثالث نتيجة للإصابة الجسدية او الاضرار التي تلحق بهم.  في مثل هذه الحالات يجب أن تستجيب وثائق تأمين المسؤولية المدنية Comprehensive General Liability (CGL) مع تغطية هذه المطالبات.  ويمكن أن تغطي وثائق المسؤولية العامة المرض الذي يشمل العملاء والأطراف الأخرى Third Party ولكن من غير المحتمل أن تغطي المطالبات على اساس الخوف من التعرض للإصابة دون أعراض مرضية فعلية.  كما يمكن ان تغطي وثائق المسؤولية العامة ضد التلوث البيئي Pollution Legal Liability حالات الاصابة بالفيروس ولكن هذا يعتمد على اللغة المستخدمة في الوثيقة والتي قد تشمل تعويض الخسائر في حالات الوباء.

 

وفيما يتعلق بالمطالبات المتعلقة بإصابات جسدية ضد شركة من قبل موظفيها، تنص قوانين تعويضات عمال معظم الدول على أن الموظف يحق له الحصول على مزايا تعويض ضد “الأمراض المهنية”.  في حين أن “أمراض الحياة العادية” (أي تلك التي يتعرض لها عامة الناس على قدم المساواة) مستبعدة بشكل عام من برامج تأمين تعويض العمالWorkers’ Compensation Coverage.  إذا كان بإمكان الموظف إنشاء علاقة سببية مباشرة بمكان العمل، قد تكون هناك حجة صحيحة لـتغطية تأمين تعويض العمال.  على الرغم من أن الفيروس التاجي المستجد ينتقل بشكل أساسي من خلال الاتصال بالحيوان أو الإنسان (وبالتالي يمكن القول إنه يشكل “مرضًا عاديًا”)، فإن الاصابة بفيروس كورونا في موقع العمل او في المختبر يمكن أن يكون مؤهلاً للحصول على تغطية تعويض العمال.  ومع ذلك، فان المطالبات من قبل الموظفين والمتعلقة بمرض فيروس كورونا قد تكون غير مؤهلة عادة للتعويض ضمن وثيقة تامين اصابات العمال، ولكن تظل التغطية متاحة بموجب بعض وثائق تأمين المسؤولية المدنية CGL

 

بالإضافة إلى تأمين المسؤولية المدنية CGL، يقوم العديد من مقدمي الرعاية الصحية أيضًا بشراء وثيقة التأمين من الأخطاء والسهو Errors and Omissions والذي يشار إليها عمومًا باسم تغطية المسؤولية المهنية professional liability للمستشفى.  تحمي وثائق التأمين المتخصصة هذه من الأضرار التي يُطلب من مقدم الرعاية الصحية دفعها مقابل الإصابات الجسدية الناشئة عن تقديم الخدمات الطبية أو عدم تقديمها.  على الرغم من أنها تستبعد عادةً تغطية الإصابات الجسدية للموظفين التي تحدث أثناء عملهم (والتي يمكن تغطيتها بموجب وثائق تأمين اصابات العمال)، يجب أن تستجيب وثيقة المسؤولية المهنية للمستشفى لمطالبات الإصابات الجسدية المتعلقة بالفيروس التاجي المستجد لمتلقي الخدمات الطبية بشرط اثبات ان مقدم الخدمة الطبية فشل في تقديم الاستشارة الصحيحة او لم يقدمها.

 

بالإضافة إلى مطالبات المسؤولية المدنية CGL المرفوعة ضد الشركات نفسها، قد يتعرض مديرو الشركة لدعاوى قضائية من قبل المساهمين بدعوى أن أفعال الادارة لم تكن معقولة او لم يتخذوا اجراءات استجابة للوضع الذي فرضه انتشار الفيروس كورونا أو غيره من أوبئة الأمراض المعدية والتي تسببت في الخسارة الاقتصادية للشركة.

 

وعلى وجه الخصوص، قد يزعم المساهمون في الشركة أن الإدارة فشلت في وضع خطط طوارئ كافية، او أن الشركة فشلت في تطبيق البروتوكولات التي أوصت بها أو تطلبها السلطات الحكومية، او ان الشركة فشلت في الكشف بشكل صحيح وواضح عن مخاطر انتشار الفيروس كورونا على أعمال الشركة وأدائها المالي.  توفر وثائق تأمين المديرين والمسؤولين Director & Officers تغطية للتكاليف والمسؤوليات الناشئة عن دعاوى المساهمين.

 

أن ما سبق هو عرض لأنواع التأمين المختلفة التي قد تستجيب لتغطية الخسائر والضرر من تفشي وباء كورونا وغيرها من خسائر الأمراض المعدية.  إن نطاق التغطية سيعتمد في النهاية على اللغة المحددة لكل بوثيقة تأمين.  وبناءً على ذلك، فإن الشركات التي تنتهج استراتيجية الإدارة الاستباقية لمواجهة المخاطر مثل تفشي الأوبئة ستتمكن من تقييم مدى كفاية التغطية لبرامج التأمين التي تحملها قبل البدء المحتمل لمثل هذه الخسائر.  يحتاج حاملو الوثائق إلى العمل مع وسطاء التأمين ومستشاري المطالبات لمراجعة تغطيتهم والتأكد من بنود ولغة عقد التأمين.

 

ان تأثير تفشي فيروس كورونا المستجد على شركات التأمين سيكون واضحا أكثر على عوائد الاستثمار وبدرجه أكبر على حجم المطالبات.  حيث ستتعرض محافظهم الاستثمارية الى انخفاض في ارباحها نتيجة للشل الذي اصاب الاقتصاد العالمي وانخفاض اسعار الفائدة وبالتالي تنخفض عائدات المحفظة بشكل عام وسيكون من الصعب في الربع الأول من 2020 البحث عن الاستثمارات البديلة.

 

وقد تنخفض مطالبات تأمين السيارات نتيجة للحظر المنزلي وحظر التجول نظرا لانخفاض حركة المرور وبروز فكرة العمل من البيت ولكن من جهة اخرى تزداد مطالبات وثائق تأمين “الاحداث الطارئة / الغاء المناسبات” وهي وثائق توفّر التأمين اللازم ضد إلغاء المؤتمرات أو حفلات الزفاف أو الندوات أو أي مناسبة شخصية بسبب الكوارث الطبيعية مثلاً أو وفاة حاكم أو شخصيات مهمة أخرى، حيث يمكن أن يتعرض منظمي مثل هذه الفعاليات لخسائر مالية ضخمة في حالة الإلغاء، وهذا النوع من وثائق التأمين يوفّر تعويض المنظم عن تلك الخسائر وفقًا للشروط المذكورة في الوثيقة.  تشارك عدة شركات عالمية حاليا في توفير تامين الغاء الدورة الاولمبية التي كانت ستعقد في طوكيو.  ويتوقع مليارات الدولارات من مطالبات إلغاء الأحداث المحتملة المتعلقة بأولمبياد طوكيو.

 

يرغب مجرمو المجال السبراني Cybercriminals استغلال عامة الناس عندما يكونون في أشد حالات الضعف والارتباك ويستخدمون الأحداث الدرامية مثل تفشي الاوبئة التي تجعل الناس عاطفيين أو يخشون تأثر اعمالهم وأرباحهم.  وفي الاوقات التي تشهد احداث عالمية والتي تتصدر الاخبار الرئيسية حول موضوع يثير ردة فعل قوية، لن يكون مرتكبو الجرائم الإلكترونية متخلفين عن الركب.  لقد استغل مجرمو الإنترنت قضية فيروس Coronavirus خلال هذه الفترة، وتم تحديد عدد هائل من المواقع الالكترونية والتي تتضمن قاعدة بيانات العملاء وقد اُستغلت وثم تم خداع المستخدمين ليصبحوا ضحايا بسبب زيادة محاولات التصيد الاحتيالي باستخدام موضوعات مثل “COVID-19 Message Notification” أو “COVID-19 MEMO”

 

27 آذار 2020

 

(*) محمد القره غولي

خبير في شؤون التأمين

وسيط لويدز

عضو المعهد القانوني للتأمين في لندن