Monthly Archives: جوان 2016

Reading from an Insurance Perspective of Noaman Muna’s Foundations of Project Management

قراءة تأمينية لكتاب نعمان منى:

الأسس العملية لإدارة المشاريع والعمل الهندسي[1]

 

 

مصباح كمال

 

 

“إن حجم العلوم التي يتعين على العاملين في قطاع الإنشاء التعامل معها في تخصصاتهم المختلفة، كبير إلى درجة تجعلهم يحجمون عن زيادة التعمق في مواضيع مثل التأمين والقانون وهي مواضيع تتميز بدرجة عالية من العمق والغنى في حد ذاتها.

 

لكن التأمين والقانون يدخلان في نسيج الإجراءات الأساسية المتبعة في صناعة الإنشاء من أجل القيام بالعمل سواء أكان في مجال التصميم أو الإنشاء أو الإشراف أو التشغيل أو أي توليفة من المهام المذكورة.”

 

د. نائل بنّي

الخطر والتأمين في صناعة الإنشاء

 

وصف عام للكتاب

 

يتكون الكتاب من تقديم ومدخل وجزئين. الجزء الأول يحمل عنوان بيئة العمل المعماري والهندسي في العراق، ويضم ثمانية فصول. الجزء الثاني يحمل عنوان مجالات المعرفة الإدارية ويضم تسعة فصول. ويضم الكتاب أيضاً ستة ملاحق وثبتاً بالمصادر.

 

يغطي الكتاب العمل الهندسي عموماً وفي العراق على وجه التخصيص في الجزء الأول، ويقوم بالتعريف بالممارسات العالمية في هذا المجال (بيئة العمل المعماري والهندسي في العراق، نقابة المهندسين العراقية، المكاتب الهندسية، التعاقد مع رب العمل، التوثيق والأرشفة، مراحل العمل الهندسي، وإدارة المشاريع-مفاهيم عامة).

 

ويكرس الجزء الثاني لإدارة المشاريع بالمعنى الضيق. وكان من المناسب أن يضم فصل إدارة المشاريع-مفاهيم عامة إلى الجزء الثاني باعتبار هذا الفصل تمهيد لمطالب الجزء الثاني. ويضم الجزء الثاني الفصول التالية: مدخل لتحديد مجالات المعرفة في إدارة المشاريع، الإدارة التكاملية للمشروع، إدارة متطلبات المشروع، إدارة البرنامج الزمني للمشروع، إدارة كلفة المشروع، إدارة جودة المشروع، إدارة الموارد البشرية للمشروع، إدارة عملية التواصل في المشروع، إدارة المخاطر في المشروع، إدارة مشتريات المشروع.

 

ويستعين المؤلف في الشرح النظري والتطبيقي بالجداول والمخططات والعقود المعتمدة في صناعة الإنشاء والممارسات الدولية المرتبطة بها، ويذكر المقابل الإنجليزي للعديد من المصطلحات.

 

يوفر هذا الكتاب مرجعاً عاماً لكل من له مصلحة مباشرة وغير مباشرة بإدارة المشاريع الهندسية.

 

سنمر سريعاً في هذا العرض، وبانتقائية، على بعض محتويات الكتاب، ونكرّس اهتمامنا على مكانة التأمين في التصميم الهندسي وصناعة الإنشاء التي لم تلقَ اهتماماً في الكتاب مع بعض الإشارة إلى إدارة الخطر. أثناء العرض والتعليق سنقوم بالاقتباس من نص الكتاب مطولاً لتقريب المادة من ذهن القارئ الذي لا يتوفر على الكتاب.

 

مهنة العمارة والهندسة: جهد جماعي

 

يكتب د. هادي جاسم في تقديمه للكتاب أن العمل الهندسي وإدارة المشاريع يقوم على جهد جماعي:

 

“قد يمتلك الفرد خبرة وبراعة وكفاءة في أي مجال من مجالات الحياة ولكن سوف لن يقدم لنفسه وللآخرين ما هو بمستوى الطموح ما لم تكن مساهماته ضمن فريق يفهم ما يصبو إليه الشخص في مجال عمله، وما لم يكن ذلك الفريق متحمس[اً] لتحقيق أهدافه وأحلامه في ذلك المجال.” (ص21)

 

ويضيف إلى ذلك:

 

“أن جوهر العمل ضمن فريق ما هو خلق مناخ يتيح لعشرات أو مئات وربما أكثر من أعضاء الفريق أن يعيشوا حلماً مشتركاً يمكنهم من تبادل الآراء في أجواء سليمة وذلك للوصول إلى الهدف أو الأهداف المنشودة التي يطمح إليها ذلك الفريق.” (ص21)

 

فكرة الجهد الجماعي هي ما يبدأ به المؤلف كتابه، ففي المدخل يشدُّ اهتمام القراء بنقل خبر:

 

“يتم الآن إنجاز مشروع عملاق في لندن، يعتبر أكبر مشروع ينجز في أوروبا حالياً. والمشروع المعني هو الخط الجديد للقطارات London Crossrail Project[2]، والذي سيكون 40% منه تحت الأرض في مركز مدينة لندن. هذا المشروع يشتمل على حفر 42 كيلومتر من الأنفاق تحت أسس المباني الشاهقة والشوارع المكتضة [المكتظة]، وأماكن العبادة، والمباني التراثية التي قد تتأثر بأقل هزّة … ويعمل في المشروع 10,000 مهندس وعامل، من النساء والرجال، منخرطون في هذا العمل اليومي في أربعين موقعاً من دون أن تتوقف الحياة الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الترفيهية إلا ما ندر … ” (ص23)

 

حالة المهنة في العراق

 

وهو بذلك يُقربنا من طبيعة العمل الهندسي ومقارنتها مع ما هو قائم في العراق حيث يسأل: “وماذا عن العراق؟” بعد استعراض سريع لبعض الحقائق منذ حرب الثماني سنوات مع إيران يقول:

 

“في ضروف [ظروف] ما بعد 1991 انعزل العراق كلياً عن العالم الخارجي، وفقد الكثير من كوادره إما قتلاً أو نزوحاً خارج الوطن. ولم يراوح العراق مكانه خلال كل هذه الفترة الطويلة، بل تراجع في إمكانياته التقنية والعلمية والفنية، وأصبح العالم في وادٍ والعراق في وادٍ آخر. النزيف الفكري والفني والوضع الداخلي ترك بصامته [بصماته] على الحركة العمرانية العراقية نتحسسها إلى الآن.” (ص24)

 

إن المدخل يستحق قراءة متأنية لأنه يضع الإطار الذي ينتظم فصول الكتاب ويلخص هذه الفصول. فهو يشير إلى البيئة الحضرية (التي تشمل التخطيط الحضري وتصميم المشاريع وتنفيذها) التي خضعت لقرارات عشوائية.[3] كما يربط بين الحياة الأكاديمية والتجربة العملية إذ يقول بأن “ما يميز مهنة العمارة والهندسة هو أسلوب عملها الجماعي، أي حرفيتها، وهذا بحد ذاته يستوجب أساليب عمل متميزة.” (ص25) وكأن الكاتب يُلمِّح بأن الحرفية صارت مفقودة وفي أحسن الحالات ضعيفة في العراق. هكذا نفهم عرضه عندما يقول في نفس الصفحة ان الترابط بين الحياة الأكاديمية والتجربة العملية “مؤطر بإمكانيات إدارية لعملية لا تخلو من التعقيد. وفي البدء لا بد من التأكيد على أن العملية المعرفية لا تتوقف بالخروج من البيئة الأكاديمية بل تستمر المعرفة بالتراكم مدى الحياة.” مثل هذا التراكم لم يتحقق في العراق.

 

ومن رأينا أن حال العراق يستحق المزيد من البحث ولعل المؤلف، بفضل اهتمامه الدقيق، يقدم المزيد في دراسة لاحقة، ويضيف بعض الإشارات التاريخية. على سبيل المثل تطور المكاتب الهندسية في العراق إذ اكتفي المؤلف بفقرة واحدة عنها (ص43) ذكر فيها بالاسم مكاتب محمد مكية ورفعة الجادرجي وهشام منير ومعاذ الألوسي وقحطان عوني وقحطان المدفعي.[4]

 

الهدف من تأليف الكتاب

 

أعرف بأن المؤلف كان مهموماً بوضع العمارة والهندسة في العراق منذ سنوات عدة، وكان مراقباً دقيقاً للأوضاع قبل وبعد الاحتلال الأمريكي، وكان يختصر الوضع، بعد تعاقده مع البنك المركزي العراقي لإدارة مشروع المبنى الجديد للبنك من تصميم زها حديد، بالقول إن العراق ومنذ عقود لم يشهد تشييد بناء شاهق، وإن معظم العاملين في مجال إدارة المشاريع ينقصهم العديد من المهارات والمعارف المناسبة. وفي ظني أن هذا الوضع هو الذي دفعه لتأليف الكتاب لسد فراغ في مكتبة إدارة المشاريع وتوفير دليل مدرسي. وبهذا الشأن يذكر في المدخل بأن

 

“هذه الدراسة هي خطوة أولى لإثارة النقاش حول جملة من المفاهيم والأساليب الإدارية والفنية لتغطية ومعالجة العجز الذي تعاني منه الحركة العمرانية العراقية بسبب تركة السنين السابقة. والدراسة موجهة إلى كل المعماريين والمهندسين، خصوصاً الشباب منهم، لأنهم سيكونون أصحاب الثقافة المهنية الجديدة التي يجب أن يخلقوها بالتوازي مع العملية العمرانية التي يقودونها.” (ص26)

 

ويضيف إلى ذلك طموحه أن “تكون مواد الكتاب مفيدة إلى أصحاب القرار أيضاً، وذلك بتفهم طبيعة العمل العمراني ومتطلباته، حتى تكون قراراتهم مناسبة وبعيدة عن الذاتية والعشوائية.” [التأكيد من عندي]. وكذلك تفاؤله بأن “يساهم هذا الكتاب بوضع أسس لحركة عمرانية تعيدنا إلى الانتعاش الفكري الذي شهدناه في منتصف القرن الماضي.” لكن هذا التفاؤل يصطدم بواقع الفكر والممارسة والامتيازات الطائفية السائدة.

 

التأمين في صناعة الإنشاء

 

في عرضه لمفهوم إدارة المشاريع، ص116-117، يقول المؤلف بأن المؤسسات والشركات تقوم باستحداث المشاريع عندما تواجه تحدياتٍ خارج نطاق النشاط الاعتيادي لها. “وفيما يتعلق بالعمل الهندسي والمعماري فهناك جانبان لموضوعة المشاريع.” أحد الجانبين هو حاجة المؤسسة أو الشركة للقيام “بعمل عمراني هندسي أو معماري وهو من خارج نشاطها المعتاد (وزارة تحتاج إلى مبنى جديد أو محل تجاري يحتاج فرع آخر). الجانب الآخر هو عمل المكاتب الهندسية والمعمارية والتي تكون المشاريع هي نشاطها المعتاد.” ويستنتج من ذلك اختلاف المشاريع عن الأنشطة التجارية والمهنية الأخرى: فرادتها، وخضوعها لجداول زمنية للوصول إلى النتائج المخطط لها، وميزانياتها المحددة، وموارد ومعدات محدودة، واحتوائها على عناصر المخاطرة، وتحقيقها لتغيير مفيد. وما يهمنا من هذه هو احتواء المشاريع على عناصر المخاطرة. والمؤلف يحصر هذه العناصر بالمخاطر التجارية:

 

“كل مشروع يمتلك عدداً من المخاطر التي يجب أن تؤخذ بعين النظر. مثلاً، ماذا لو تغير وضع السوق قبل الانتهاء من مشروع تكوين المحل التجاري؟ ماذا لو لم يحصل تصميم المعمل على إجازة بناء في ذلك الموقع؟ ماذا لو ارتفع سعر الطابوق أثناء البناء؟ وغيرها من الأسئلة التي تمثل شكلاً من أشكال المخاطر التي تواجه المشروع والتي يجب أن تؤخذ بالحسبان.”

 

هذه المخاطر التجارية trading risks غير قابلة للتأمين رغم انطوائها على صفة الاحتمالية (الموضوع يحتاج إلى مناقشة منفصلة). لكن هناك مخاطر مادية يمكن أن تؤثر سلبياً على إكمال المشروع في وقته المحدد وهذه قابلة للتأمين، ومنها أخطار الطبيعة كالفيضان والزلازل، أو أخطار أخرى ناشئة عن الإهمال أو الخطأ في تنفيذ العمل، أو التصميم المعيوب والمواد المعيوبة المستعملة في الإنشاء وعيوب المصنعية defective design, material and workmanship، أو الحريق أو الانفجار في موقع الإنشاء وغيرها. وهذه المخاطر تشكّلُ محلاً للتأمين ويتوقع من رب العمل، أو المهندس أو المقاول وغيرهم، أخذها بنظر الاعتبار وضمان توفير الحماية التأمينية، بأشكالها المختلفة (التأمين البحري، تأمين جميع أخطار المقاولين، تأمين جميع أخطار النصب، تأمين المسؤولية المدنية، تأمين إصابات العمال، تأمين المسؤولية المهنية … الخ) للتحوط من آثارها.

 

كنت أتوقع ذكراً للتأمين في الفصل الثامن، الجزء الثاني، الذي يحمل عنوان “إدارة المخاطر في المشروع،” ص 181-184 إذ أن إحدى أدوات إدارة ومعالجة المخاطر هي التأمين. فالتأمين هو وسيلة للتخفيف من نتائج الأحداث غير المؤكدة، أي الأحداث الاحتمالية. يقول المؤلف إن “المخاطر Risks هي حالة مرتبطة بأحداث غير مؤكدة. بمعنى ان إدارة المشروع لا تعلم إن كانت هذه الأحداث أو المتطلبات ستظهر أثناء العمل بالمشروع أم لا.” ويمضي بالقول:

 

“والخبرة تؤكد دائماً من أن هنالك حالات غير متوقعة قد تبرز أثناء العمل بالمشروع والتي لا يمكن التكهن بها. ولكن على إدارة المشروع، وبالخصوص مدير المشروع، النظر بعمق ومحاولة تحديد وجدولة الاحتمالات ودراسة نتائجها إذا برزت، وإيجاد الوسائل والحلول لمنع حدوثها أو التقليل من تأثيرها.” [التأكيد من عندي].

 

وذكر قبل ذلك في الفصل الأول، إدارة تكامل المشروع، في الجزء الثاني من الكتاب، ص121-122، ان خطط المشروع تضم خطة الموارد، الخطة المالية، خطة الجودة، خطة المخاطر المحتملة، خطة الحصول على الموافقات، خطة التواصل والاتصالات وخطة المشتريات. وبيّن أن خطة المخاطر المحتملة والإجراءات المحتملة للتخفيف منها تشمل:

 

  • “تحدي مخاطر المشروع المنظورة.
  • تحديد الإجراءات التي يجب اتخاذها لمنع المخاطر من الحدوث والحد من تأثيرها إذا حدثت.”

 

لكنه لم يأتي على ذكر التأمين كآلية للحد من تأثير المخاطر بعد وقوعها من خلال التعويض عن الخسائر والأضرار، من قبل شركات التأمين، التي تترتب على وقوع هذه المخاطر. إن مؤسسة التأمين لا تستطيع منع حدوث حالات الحوادث غير المتوقعة ولكنها تستطيع (1) تحسين إدارة الخطر للمشروع من خلال الكشف الميداني من قبل مهندسين مختصين وتقديم توصيات لتحسين إدارة الخطر risk improvement recommendations مثلما تستطيع (2) التقليل من آثار الحوادث العرضية، أي الخسائر والأضرار الناشئة عنها، بتعويض رب العمل أو المقاول أو المصمم أو الطرف المتضرر عن التكلفة المالية للخسائر والأضرار بمقتضى شروط وأحكام وثيقة التأمين المعنية.

 

يرد أول ذكر للتأمين في الكتاب في ص135-136 تحت العنوان الفرعي” محتويات ميزانية المشروع” إذ يذكر المؤلف الأقسام التي يجب تخصيص ميزانية لها، ويحددها بأحد عشر قسماً من بينها القسم الأخير المتعلق بالتأمين: “الضرائب والفوائد المصرفية على التمويل والتأمين (خصوصاً للمشاريع التجارية).” ولا يخضع هذا القسم للعرض والتحليل.

 

 

لا أعتقد بأن التأمين يقتصر على المشاريع التجارية على وجه التحديد بل يجد حضوره في المشاريع كافة إذ أن شرط التأمين يرد في شروط المقاولة لأعمال الهندسة المدنية والكهربائية والميكانيكية والكيمياوية في العراق،[5] مثلما يشكل عنصراً أساسياً في عقود الاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين FIDIC وغيرها من عقود الإنشاء البريطانية والأمريكية. ويعرف المؤلف بأن للاتحاد نموذج للتعاقد معتمد في العديد من البلدان، وقد أشار إلى ذلك بالقول ان الاتحاد يصدر “صيغة للتعاقد الاستشاري في المشاريع الهندسية” وتحتوي على ملاحق منها “اعتبار رسالة الموافقة من رب العمل، وشروط التعاقد، الخاصة والعامة، والتي يتفق عليها من قبل الطرفين، جزءاً من العقد.” (ص61). ومعروف أن شروط التعاقد تضم بنوداً عن التعويض والتأمين.[6]

 

ويرد ذكر التأمين في الكتاب مرة ثانية تحت العنوان الفرعي “مقاولات الإنشاء والتنفيذ، الفصل التاسع، إدارة مشتريات المشروع، الجزء الثاني (ص187). فتحت هذا العنوان ذكر ان وجود خطة استراتيجية وواضحة ضرورية لنجاح عملية المناقصة (إرساء المشروع على مقاول). وتشمل هذه الخطة من بين ثماني نقاط “تقديم المشورة بشأن الضمانات ومتطلبات التأمين التي يجب أن يشتمل عليها العقد.” وهذه الضمانات ومتطلبات التأمين indemnity and insurance clauses of the contract يمكن أن تقتبس من الصيغ النموذجية للعقود المعتمدة في صناعة الإنشاء أو تخضع للتعديل باتفاق الطرفين المتعاقدين، أي رب العمل والمقاول.

 

ملاحظة سريعة عل أهمية التأمين للمشاريع: جوانب انتقائية

 

وأنا أقتبس هذه العبارات من كتاب المعمار نعمان منى التي تضم إشارات للمخاطر، بعضها قابل للتأمين، وللعقود الإنشائية المحلية والعالمية، طرأ على بالي أن مؤلف الكتاب يعرف قيمة التأمين ولكنه ينظر إليه على أنه تحصيل حاصل لا يستوجب التوضيح أو التعليق ولا إبراز دوره في توفير الحماية المالية للمصمم والمقاول المنفذ والمقاولين الثانويين ورب العمل وتعويض الأطراف الثالثة المتضررة بفعل الأعمال الإنشائية في مختلف مراحل المشروع.

 

لا يقتصر دور الحماية التأمينية بموجب غطاء التأمين الهندسي[7] على فترة الإنشاء construction period بل تمتد لتشمل فترة الصيانة maintenance period وكذلك المسؤولية المدنية تجاه الأطراف الثالثة التي قد تتعرض أرواحها وممتلكاتها بالضرر نتيجة لتنفيذ أعمال العقد الإنشائي في موقع العمل. وقد بيّنَ المؤلف أهمية الكشف عن العيوب أثناء فترة الصيانة (ص99) لكنه لم يُشر إلى أن وثيقة كافة أخطار المقاولين (المتخصصة بالتأمين على مشاريع الهندسة المدنية) أو كافة أخطار النصب (المتخصصة بالتأمين على مشاريع الهندسة الكهربائية والميكانيكية والكيمياوية) توفر مستويات مختلفة من الحماية التأمينية خلال فترة الصيانة بدءاً من تأمين الأضرار التي تنشأ خلال زيارة المقاول للموقع لمعالجة العيوب التي اكتشفها الفريق الاستشاري المشرف على تدقيق الأعمال أثناء التنفيذ، وهو ما يعرف بتأمين الزيارة لأغراض الصيانة visits maintenance (زيارة صيانة للموقع)، مروراً بالتأمين الموسع لفترة الصيانة extended maintenance (الصيانة الموسعة) وهو الذي يشمل الزيارة لأغراض الصيانة زائداً معالجة/تصليح العيوب التي يعود أسبابها إلى فترة الإنشاء، وانتهاءاً بـ(صيانة الضمان) guarantee maintenance الذي يشمل نوعي الصيانة السابقين إضافة إلى تأمين العيوب التي تعود إلى فترة ما قبل بدء تنفيذ الأعمال في الموقع.

 

وتشمل الحماية التأمينية أيضاً أوامر التغيير variation orders التي يسميها المؤلف “إدارة عملية تطبيق الغيار” ضمن مهام إدارة المشروع، ص105-107، لكنه هنا أيضاً لم يُشر إلى دور التأمين في تغطية هذه الأوامر.

 

هناك مسؤوليات ينص عليها القانون لم تلقَ عناية المؤلف ومنها المادة 870 من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 وتعديلاته. وتنص هذه المادة على ما يلي:

 

1 – يضمن المهندس المعماري والمقاول ما يحدث خلال عشر سنوات من تهدم كلي او جزئي فيما شيده من مبان او اقاموه من منشآت ثابتة اخرى، وذلك حتى لو كان التهدم ناشئاً من عيب في الارض ذاتها او كان رب العمل قد اجاز اقامة المنشآت المعيبة، ما لم يكن المتعاقدان قد ارادا ان تبقى هذه المنشآت مدة اقل من عشر سنوات وتبدأ مدة السنوات العشر من وقت اتمام العمل وتسليمه ويكون باطلاً كل شرط يقصد به الاعفاء او الحد من هذا الضمان (الغي نص الفقرة 1 من المادة 870 من (القانون المدني) رقم 40 لسنة 1951 وحل محله النص الحالي بموجب القانون رقم 48 لسنة 1973 قانون التعديل الاول للقانون المجني ونص القانون على انه تسري احكام المادة الاولى من هذا القانون على كافة المقاولات والعقود المبرمة قبل نفاذه ما لم تكن مدة الضمان الخاصة قد انتهت قبل العمل به).

 

هذه المسؤولية التي تعرف اصطلاحاً في أوساط التأمين بالمسؤولية العشرية decennial liability قائمة بقوة القانون لكن القانون لا يلزم المهندس المعماري أو المقاول بالتأمين عليها مثلما هو الحال في الولايات القضائية لبعض الدول. ضعف أو بالأحرى انعدام الاهتمام بهذه المسؤولية، التي يمكن أن تترتب على قيامها مبالغ كبيرة ضد المعماري والمقاول، يعكس حالة عامة.[8] على سبيل المثل، فإن قانون المكاتب الاستشارية غير الحكومية رقم (16) لسنة 2000 يذكر في المادة 8 ما يلي:

“يكون مؤسسو المكتب الاستشاري مسؤولين مسؤولية شخصية وتضامنية عن جميع التزامات وأعمال المكتب.”

 

لكن المعلومات المتوفرة لدينا لا تفيد بقيام المكاتب هذه بشراء وثيقة تأمين المسؤولية العشرية أو غيرها من وثائق التأمين. كما أن الوثيقة ليست معروفة ومتداولة في سوق التأمين العراقي.

 

يضاف إلى ذلك أن المهندسين الاستشاريين لا يشترون وثائق لتأمين مسؤوليتهم المهنية professional liability insurance وليس هناك إلزام قانوني بذلك. هناك تحرك أولي نحو تطبيق إلزامية التأمين على المسؤولية المهنية كما ورد في برنامج الحكومة الذي نشر في أيلول 2014 في جريدة الصباح.[9] وقد كتبت عنه مقالة[10] اقتبس منها ما يفيد قراءتنا لكتاب المعمار نعمان منى:

 

“ها أنا أرى أن التأمين الإجباري على المسؤولية المهنية يقترب من إحدى تمنياتي. ويصبُّ الإعلان عن هذا المشروع، متى ما تحقق، لصالح تطوير سوق التأمين العراقي. والمطلوب أن تتقدم الحكومة أولاً بمشروع قانون عن المسؤولية المهنية يُعرض على مجلس النواب ويكون أساساً لأجراء التأمين من قبل أصحاب المهن (من العراقيين والأجانب العاملين في العراق). ونفترض أن مشروع القانون سيحدد المهن التي ستخضع للتأمين، كالأطباء، والمحامين، والمحاسبين، والمهندسين المعماريين وغيرهم.

 

من المطلوب أن تقوم جمعية التأمين العراقية بتقديم ورقة موقف تجاه هذه السياسة المعلنة في المنهاج، وتقوم بصياغة وثيقة/وثائق تأمين نموذجية تمثل الحدود الدنيا للغطاء التأميني للمسؤولية، ويترك لشركات التأمين حرية التوسع في الغطاء بالاتفاق مع أصحاب المهن. ومن المفيد أيضاً أن تقوم الجمعية، كإجراء آني، بتوزيع بعض الدراسات عن المسؤولية المهنية على أعضائها. وكذلك استمزاج رأي أصحاب المهن المنضوين في نقابة أو جمعية إذ أن بإمكان هذه النقابات إدارة صندوق تأمين لتغطية مسؤوليات أعضائها من مطالبات الأطراف الثالثة المتضررة من خرق الواجب المهني أو سوء التطبيق.

 

سيساهم جعل هذا التأمين إجبارياً في تعظيم أقساط شركات التأمين العراقية والتي يفترض أن تقوم بالاكتتاب به لوحدها أو بالتعاون مع معيدي التأمين أو ضمن ترتيبات خاصة مع النقابات والجمعيات المهنية العراقية.”

 

وخلاف ذلك نجد أن نقابة المهندسين تنص في “عقد استخدام المهندس 1982” ملحق رقم 5، ص 235) في الفقرة 8 على الآتي:

 

“على الفريق الأول [رب العمل] التأمين من الحوادث والأضرار التي يمكن أن تصيب الفريق الثاني [المهندس] من خلال تواجده في ساحات العمل.”

 

لاحظ أن التأمين ينصب على الحوادث والأضرار التي تصيب المهندس، وهو ما يعرف بالتأمين من الحوادث الشخصية personal accident insurance وليس التأمين على أعمال المقاولة.[11]

 

 

الفائدة العامة للكتاب لغير المختصين

 

قد يجد بعض القراء من غير المعماريين والمهندسين أن محتوى الكتاب لا يعنيهم، وهو كذلك حين يتعلق الأمر بقضايا معمارية وهندسية محددة وجوانبها القانونية والتنظيمية. لكن الكتاب يضم مدخلاً ذو بعد تاريخي ويضم مفاهيم مهمة، رغم إيقاعه السريع كما نبهنا إليه، كما يضم فصولاً عن الإدارة ومفاهيمها وتطبيقاتها يمكن أن تضيف لمعرفتهم أو قل لبعضٍ منهم. ونجد في معظم فصول الجزء الثاني، مجالات المعرفة الإدارية، أفكاراً وتطبيقات تمتد خارج مجال إدارة المشاريع. أنظر، على سبيل المثل، “خطة تدريب الموارد البشرية” و”خصائص القيادة،” ص 155-161. وكذلك الفصل السابع، “إدارة عملية التواصل في المشروع،” ص 163 وما بعدها، و”إدارة الاجتماعات،” ص177-178.

 

لنأخذ على سبيل المثل حالة خاصة تتعلق بـ “مفهوم المهنة،” ص 32، حيث يعرض المؤلف تعريف المهنة. اعتمد المؤلف على تعريف سيدني وبياتريس ويب يعود إلى عام 1917: “المهنة هي عمل يعتمد على التدريب والدراسة المتخصصة.” ويضيف المؤلف أن “لها شقان، الدراسة الأكاديمية والتدريب العملي. وما زالت معظم المهن تعتمد على الشهادة العلمية والتدريب العملي بإشراف المتمرسين بالمهنة قبل الممارسة الفعلية.” ويتوسع المؤلف بالقول إن نقابة المهندسين العراقية، المشرفة على المهنة الهندسية في العراق، لاحظت “الترابط بين التعليم الأكاديمي والخبرة العملية.”

 

لقد شغلت مواصفات المهنة اهتمام علماء الاجتماع ويكفي القول هنا أن العديد من المهن كانت “مفتوحة” ثم صارت “مغلقة” أي أنه لا يمكن في زماننا لطبيب أو مهندس أو محامي، مثلاً، أن يحمل صفته قبل أن يكمل عدداً من السنوات في الدراسة والتدريب. ومن هنا منشأ التوجه نحو الحرفية professionalisation. وقد جاء ما يفيد ذلك في الأحكام التنظيمية، المادة 37،، قانون نقابة المهندسين العراقيين رقم (51) لسنة 1979 (الملحق رقم 6، ص 253 من الكتاب) نقتبس منها التالي:

 

“أولاً – لا يجوز لغير أعضاء النقابة ولا للأعضاء الذين لم يوفوا بالتزاماتهم، بموجب هذا القانون مزاولة المهنة.

 

ثانياً – لا يجوز للدوائر الرسمية وشبه الرسمية والمؤسسات، توظيف أو استخدام أي شخص في وظيفة هندسية ما لم يكن منتسباً إلى النقابة.”

 

ترى هل أن التوجه نحو الحرفية في العراق ما يزال شكلياً، ولو لم يكن كذلك لم تعاني العملية العمرانية والتخطيطية في العراق من السلبيات، خارج إطار الفساد المالي والإداري الذي ينتظم الحياة العامة في مختلف مجالاتها في العراق؟ لعل مؤلفنا يتوسع في تحليله لتأثير القرارات العشوائية على هذه العملية، ومناهج المراقبة عليها.

 

تعليق ختامي

 

هذا هو أول كتاب منشور للمعمار نعمان منى، ويعكس جهداً كبيراً في التأليف كما تكشف فصول الكتاب. وأتوقع منه الاستمرار في البحث والكتابة عن ممارسة العمل الهندسي وإدارة المشاريع في العراق. وأتمنى عليه أن يتوسع في ما كتبه في مدخل الكتاب ليقدم كشفاً أوفر لحالة العراق في مجال صناعة الإنشاء والتصميم الهندسي وإدارة المشاريع الهندسية على أنواعها. وقد يكون مفيداً الإشارة إلى الوضع في كردستان العراق الذي شهد توسعاً عمرانياً وحضرياً أكبر بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، إذ ربما يوفر ذلك فرصةً لمقارنةٍ نقدية. كما أتمنى على المؤلف الاهتمام بمكانة التأمين في إدارة المشاريع، ومن المفضل تكريس فصل قصير لعرض موضوع التأمين في مجال التصميم والعمل الهندسي وإدارة المشاريع.

 

في الوقت الذي نثمن فيه تبنّي هذا الكتاب من قبل مركز البيان للدراسات والتخطيط ونشره كان على المركز الاهتمام بصحة الطبع ذلك لأن الكتاب يزخر بالأخطاء المطبعية والاملائية وغيرها مما يُفسد متعة القراءة كان بالإمكان تجنبها. ربما لم تخضع مسودة الكتاب لمراجعة فاحصة. ومما يثير الانتباه والتساؤل وضع اسم المركز في أعلى وأسفل كل صفحة في الكتاب بدلاً من الاكتفاء بوضع عنوان الكتاب والأفضل عنوان كل فصل. وكان الأولى أن يُصرف جهدٌ على وضع فهرس بالموضوعات والأعلام لتسهيل الرجوع إلى المتن، وكذلك التعاون مع المؤلف على وضع مسرد إنجليزي-عربي بالمصطلحات. كل ذلك يزيد من قيمة النص ككتاب منهجي مرجعي. ونتمنى عند إصدار طبعة ثانية للكتاب الاستفادة من هذه الملاحظات.

 

 

12 حزيران/يونيو 2016

[1] نعمان منى، الأسس العملية لإدارة المشاريع والعمل الهندسي. بغداد: مركز البيان للدراسات والتخطيط، 2016. عدد الصفحات 270، ردمك: 978-0-9964254-2-1.

[2] للتعرف على تفاصيل إضافية عن هذا المشروع العملاق (بدأ العمل به عام 2012)، الذي تساهم في تمويله الحكومة البريطانية، وبلدية لندن، ومؤسسات الأعمال والصناعة في لندن، راجع الموقع الرسمي للمشروع:

http://www.crossrail.co.uk/about-us/funding

وبالنسبة للجوانب التأمينية وإدارة خطر المشروع هناك العديد من المقالات والدراسات متوفرة إلكترونياً. أنظر مثلاً: Insurance Times 10 April 2015

http://www.insurancetimes.co.uk/why-crossrail-is-a-triumph-for-risk-management/1413499.article

تضم الإدارات المختلفة للمشروع قسماً متخصصاً بشؤون التأمين. ويتولى هذا القسم شراء وثائق الإنشاء الأساسية، أي ان رب العمل هو الذي يقوم بشراء الأغطية التأمينية وليس المقاولون، وهو ما يعرف بالإنجليزية باسم: owner-controlled insurance programme كما يقوم بالتنسيق مع مسوّي الخسائر والمقاولين الرئيسيين والمقاولين من الباطن؛ أي ان القسم مسؤول عن إدارة البرنامج التأميني للمشروع في كل جوانبه.

[3] للتعرف على موقف المؤلف بشكل أفضل حول هذا الموضوع، أنظر الملحق رقم 7، البيئة الحضرية – مداخلة في مؤتمر إعمار العراق، بغداد 2013، ص 259-262.

[4] يذكر رفعة الجادرجي في كتابه الأخيضر والقصر البلوري: نشوء النظرية الجدلية في العمارة (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، ط 1، 1991)، ص 40، أن نيازي داود فتو (1909-1976) كان “أول مهندس عراقي أسس مكتباً هندسياً منتظماً، بأسلوب مهني معتبر. كان الرجل دقيقاً ومهنياً في أسلوب العمل والمراجعة والمراسلة وحفظ الأوراق والجداول التقنية والتجارية، وكذلك في التتبع العلمي عن طريق الكتب والمجلات، وفي تهيئة المواصفات وشروط التعهد. وكل هذا بأسلوب لما يزل بسيطاً وبدائياً ولكن يتسم بروح الإخلاص والاتقان. ويذكر الجادرجي أيضاً، ص 34: “من اعماله الهندسية البناية الرئيسية لمصرف الرافدين وبناية مركز الاتصالات في السنك مع المعمار رفعة الجادرجي.”

 

[5] أنظر: وزارة التخطيط، بغداد، شروط المقاولة لأعمال الهندسة المدنية، المادة الخامسة والعشرون “عدم قيام “المقاول” بالتأمين،” ص 198-199. وكذلك وزارة التخطيط، بغداد، شروط المقاولة لأعمال الهندسة الكهربائية والميكانيكية والكيمياوية، المادة السادسة عشرة، “العناية “بالأعمال” والتأمين والتعويضات،” ص 261-264.

 

وبالنسبة للاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين أنظر:

Nael G Bunni, Risk and Insurance in Construction (London & New York: Spon Press, 2nd Ed 2011, 1st Ed 1986), Ch 8, The Insurance Clauses in Standard Forms of Contract, pp 221-279 and Ch 12, Insurances Required under the FIDIC Agreements, pp 339-358.

من المؤمل أن تصدر الترجمة العربية لكتاب الدكتور نائل بُنّي خلال عام 2016 عن منتدى المعارف في بيروت، ترجمة: تيسير التريكي ومصباح كمال.

[6] Bunni, op cit

[7] يشمل تعبير التأمين الهندسي في سوق التأمين العراقي وثيقة تأمين كافة أخطار المقاولين Contractors All Risks Insurance (CAR)، وثيقة كافة أخطار النصب Erection All Risks Insurance (EAR)، وثيقة تأمين عطب المكائن Machinery Breakdown (MB)، وثيقة تأمين تلف المواد في المخازن المبردة Deterioration of Stock in Cold Storage، ووثيقة تأمين مخاطر أعمال الهندسة المدنية المنجزة Civil Engineering Completed Risks Insurance إلا أن وثيقة التأمين الأخيرة سوية مع وثيقة تأمين عطب المكائن وتلف المواد في المخازن المبردة ليست متداولة لأن الطلب عليها يكاد أن يكون معدوماً.

[8] أنظر على سبيل المثل:

مصباح كمال، مشروع قانون شركة النفط الوطنية وغياب التأمين في التشكيلات الإدارية للشركة، شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/2016/03/23/

مصباح كمال، غياب التأمين في مشروع قانون صندوق الإعمار والتنمية العراقي، شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/2016/03/23/

مصباح كمال، شركة عامة لا تؤمن على عقودها، شبكة الاقتصاديين العراقيين:

http://iraqieconomists.net/ar/2016/03/07/

[9] جريدة الصباح، “أولويات الستراتيجية للبرنامج الحكومي … توفير السكن والخدمات والضمان الاجتماعي”، 9 أيلول 2014.

http://www.alsabaah.iq/ArticleShow.aspx?ID=77523

[10] مصباح كمال، “التأمين في المنهاج الحكومي: قراءة أولية،” الثقافة الجديدة، العدد 370، تشرين الثاني 2014، ص 51-63. نشر أيضاً في موقع مجلة التأمين العراقي:

http://misbahkamal.blogspot.co.uk/2014/12/370-2014-51-63.html

[11] الملاحظات السريعة التي أوردتها عن التأمين هي ملاحظات أولية عرضتها من باب التنبيه إليها، وهي لا تغطي الأشكل المختلفة لتأمين المشاريع الهندسية وإشكالياتها في مراحلها المختلفة.

Yahia Al-Safwani: My Working Experience in the Saudi Insurance Sector

تجربتي في العمل في قطاع التأمين السعودي

 

 

ما قبل السعودية: تأسيس المعرفة والخبرة التأمينية في العراق

 

عندما قررت الانتقال للعمل في المملكة العربية السعودية في عام 1987 كنت مُحملاً بتدريب وخبرة طيبة من فترة عملي في وكالة المرحوم الدكتور عبد الحميد الهلالي للتأمين في بغداد ولمدة 3 سنوات كمساعد ملاحظ assistant supervisor. وكنت أعمل فيها بعد ساعات دراستي في الجامعة. ثم شاءت الصدف ان كانت وحدتي العسكرية التي كنت أقضي فيها فترة خدمتي العسكرية تتحرك عائدة إلى بغداد إذ رأيت عدداً من زملاء الدراسة الجامعية والمعفيين من الخدمة العسكرية مجتمعين عند ساحة الخلاني حيث توقف الرتل ودار حديث سريع بيننا علمت منه انهم بصدد التقديم لوظائف شاغرة في شركة التأمين الوطنية. ومن باب المزاح دعوني للإنضمام إليهم لأنها فرصة خصوصاً وأنا على وشك التسرح حال عودتنا للمقر، واننا في زمن التقشف المعلن آنذاك وشد الأحزمة على البطون، وفرص الحصول على وظيفة نادرة، وكانت الدولة هي المشغل الأكبر للشرائح التي تمثل طاقة العمل في العراق.

 

طلبت من آمر وحدتي أن يسمح لي بالتخلف والالتحاق بهم بمجرد الانتهاء من تقديم طلبي بعد أن شرحت له كل ما سبق ذكره من الملابسات بعجالة، فكان من المروءة بمكان أن سمح لي بذلك. عند الاقتراب من مدخل عمارة الشركة فوجئت بوجود مظاهرة أكثر منها إجراءات تقديم لطلبات تعيين، حيث كان هناك ما يقارب المائة من الذكور والإناث من حديثي التخرج. ولحسن الحظ كان الأمر مقتصراً على ملء استمارة طلب التعيين على أن يقدم من يستقر عليه الاختيار بقية المستندات في وقت لاحق.

 

استقر الأمر على 9 أشخاص من ذكور وإناث، وكان هناك مقابلة شخصية وأنتهى الأمر إلى 3 أشخاص، ذكرين وأنثى، كنت واحداً منهم. وهكذا أصبحت موظفاً في هذه الشركة العملاقة بطاقم موظفيها وتاريخها الجميل، فأصبحت وأنا أحمل عنوان معاون ملاحظ في قسم إعادة التأمين بصحبة أنطوان سليم، مدير القسم، وسيروب كيروب، معاونه، وثناء كنونه وسهاك جزفيان والذي عملت معه في إعادة الحريق وتعلمت منه الكثير في العمل المكتبي والكشف الموقعي على الأخطار والمصانع التي كانت قائمة آنذاك وخانات الشورجة، وتوزيع الأخطار بالشكل الصحيح. وكنا نستمتع سوياً بتناول قيمر السدّة عند إجراء الكشوف هناك أو عند الذهاب إلى مصنع النسيج الناعم في الحلة. وسعدتُ بصحبة بقية فريق العمل كسركيس ونيفير، سكرتيرة القسم، ومن أعقبهم بعد ذلك من الأصدقاء.

 

كان عملي ذاك مصحوباً بسيلٍ من الدورات التدريبية المتوالية بدءاً بالتأمينات العامة ومبادئ التامين مروراً بالدورة الثالثة عشر في التأمينات العامة في سويسرا 13th Course in General Insurance, Swiss Insurance Training Centre, Zurich (SITC) وانتهاءاً بالدورة التأمينية الأفريقية/الآسيوية Afro-Asian Training Course.

 

في نهاية الخمس سنوات التي قضيتها في شركة التأمين الوطنية تحت إدارة مديرها العام الأستاذ عبد الباقي رضا، بدأت أفكر بالانتقال للعمل خارج العراق. وكنت قد تزوجت وكان طفلي الأول قد حلَّ ضيفاً، ولم يكن هناك مجال للترفيع وبالتالي تحسنٌ في المركز الوظيفي والمالي بالتبعية لأنه، وكما كان سيروب يقول، إن القاعدة في شركة التأمين الوطنية انك لن تتقدم ما لم يتوفى الذي أمامك في المركز الوظيفي بسبب ازدحام التأمين الوطنية بالخبرات والتي لم تزل شابة وأمامها عطاء طويل. وكان يضرب مثلاً بحالته وأنطوان سليم.

 

بدء العمل في السعودية وبدايات تطور قطاع التأمين السعودي

 

لم يكن مفهوم التأمين لدى العامة من الناس في عام 1978، عام بدء عملي في السعودية، قد نضج ولا حتى عند قطاع الأعمال عدا أولئك المقاولين الذين يعملون مع شركة أرامكو والتي كانت تسمى شركة الزيت العربية الأمريكية، وكانت مُشغلاً كبيراً في المنطقة الشرقية على وجه الخصوص والمملكة على وجه العموم، والتي كانت تشترط على مقاوليها التأمين على مركباتهم وعمالهم ومقاولاتهم معها.

 

كان يقف في وجه انتشار الوعي التأميني لدى العامة من الناس عدم قبول المؤسسة الدينية للتأمين شرعاً والإيمان بالقدرية كمظهر للإيمان. لم يكن هناك مثلاً تأمين إلزامي على المركبات ولا حتى قطاع الأعمال أو المقاولات لتغطية المسؤوليات المصاحبة لها. وكان التأمين البحري هو الأكثر تداولاً وذلك لإصرار البنوك على ذلك كشرط لفتح الاعتمادات Letter of Credit (LC).

 

كان منتصف السبعينيات من القرن العشرين قد شهد ارتفاعاً في أسعار النفط على إثر معارك حرب أكتوبر 1973 وإغلاق قناة السويس مما وفر فوائض مالية للملكة العربية السعودية أعادت توظيفها في مشاريع عملاقة كبناء مدينتين صناعيتين، الجبيل في المنطقة الشرقية وينبع في المنطقة الغربية، وبناء مطار الرياض الدولي أو ما يعرف بمطار (عبد العزيز)، وكذلك مطار جدة الدولي الخاص بالحجاج، وتوسيع ميناء الدمام البحري، وميناء جدة الدولي البحري، ومشاريع منافذ تصدير النفط في كل من الجبيل وينبع. وقد تم تنفيذ هذه المشاريع على يد شركات أمريكية عملاقة متخصصة مثل بكتيل وهاليبيرتون وشركات كورية ويابانية. وهذه الشركات ما كانت تعمل إلا بعد أن تتأكد أن المقاولين الثانويين لديهم غطاء تأميني لكل حقل من نشاطاتهم (سيارات، بحري-بضائع، بحري-هياكل، حريق، هندسي، مسؤولية مدنية … الخ). واعتقد بأن ذلك دفع شركات التأمين العالمية للاهتمام بالسوق السعودي، وبالتالي العمل على التواجد الفعلي في السوق من خلال الوكلاء أو مباشرة تحت مظلة الكُفلاء (جمع كفيل وهو شخص معنوي أو طبيعي سعودي الجنسية حصراً)، وفي مرحلة لاحقة من خلال رجال أعمال مدفوعين بالمكاسب المالية المتحققة في هذا السوق لتأسيس شركات تأمين، مستفيدين أيضاً من بداية انطلاق امتيازات مجلس الاتحاد الخليجي أو ما عرف ابتداءً بمجلس التعاون الخليجي. وهكذا ظهرت شركات عديدة مثل شركة اتحاد الخليج للتأمين برأسمال كويتي-بحريني-سعودي وقد عملت فيها في وقت لاحق عند تأسيسها.

 

العمل في الشركة السعودية المتحدة للتأمين

 

انتقلت للعمل في المملكة العربية السعودية بعد 5 سنوات في التأمين الوطنية، واستقر بي المقام أولاً في الشركة السعودية المتحدة للتأمين Saudi United أو ما كان يعرف بين العامة بشركة تأمين القصيبي. وهي شركة يساهم في رأسمالها آل القصيبي، وهي عائلة تجارية عريقة في المنطقة الشرقية، وشركة إعادة التأمين السويسرية، وشركة بالواز السويسرية، وشركة كوميرشال يونيون البريطانية. كانت عائلة القصيبي تملك ما يسمى مجموعة شركات القصيبي والتي تضم تحت مظلتها فندقاً سياحياً 5 نجوم وشركة لتعبئة المياه الغازية (بيبسي كولا) وشركة للخدمات البحرية … الخ.

 

كان مدير عام الشركة السيد أحمد الصباغ، يعاونه في الجانب الفني مدير القسم الفني المنتدب من شركة كوميرشال يونيون. وحيث أن قسم إعادة التأمين كان قيد الإنشاء فقد أوكلت إدارته لي ليبدأ بالاستقلال عن القسم الفني.

 

كانت أعمال الكفيل ونشاطاته الاقتصادية تمثل الجزء الأكبر من محفظة الشركة، وكان التأمين البحري يمثل الحجم الأكبر من الأعمال المسندة إلى شركة التأمين. وعند حلول موعد تجديد اتفاقيات إعادة التأمين ظهر ما يسمى بمسألة تحديد مقدار أو نسبة الاحتفاظ retention وهل هو على أساس per policy أو per bottom (بالنسبة لمحفظة التأمين البحري). وبإجراء إحصاء لوثائق التأمين وأقيامها وجدت أن النسبة الأكبر من هذه الوثائق في المحفظة هي لشحنات صغيرة القيمة والأقل هي لتلك العالية القيمة، وأن من المناسب للشركة، وهي مازالت حديثة العمر، أن نعمل بمبدأ الاحتفاظ على أساس per policy لتنمية الاحتفاظ وبالتالي تعزيز قدرة الشركة على الاكتتاب بأخطار أكبر وهو ما كان يتعارض مع نص الاتفاقية treaty wording الذي صاغته شركة الكومرشيال يونيون. هذا الاقتراح أثار حفيظة المدير الفني والذي كان منتدباً من هذه الشركة لمراقبة شروط وثائق التأمين، ووضعت ذلك في تقرير للمدير العام. أُرسل المدير الفني للاجتماع بالمعيد القائد Swiss Re ومعيدين آخرين وأقرَّ رأيه في الموضوع. كنت أرى أن اقتراحي سيعمل بشكل أفضل لمصلحة الشركة في ظل نظرية الاحتمالات probability theory خصوصاً وأن الوثائق الصغيرة، كما اتضح، قلما تجتمع في سفينة واحدة. قدمت استقالتي رغم أن الشيخ أحمد القصيبي استدعاني لاستيضاح الموضوع، وذكرت له اني في ذلك كنت أرى مصلحة الشركة ككل ويمكنه مراجعة التقرير.

 

خلال فترة عملي تعلمت أن السوق السعودية للتأمين مختلفة كلياً عن النموذج العراقي، فالسوق حرة، والشركات تتنافس على أصغر الوثائق وأكبرها، وفيها شيء كبير من المرونة في الحركة، وفي داخل الشركة كانت الاتصالات بين طواقم العاملين أسهل وأسرع منه في شركة كبيرة كالتأمين الوطنية العراقية، وان تسويق وثائق التأمين معول عليه رغم أن أعمال الكفيل تمثل العمود الفقري. ولكن مازالت هناك حاجة إلى الوثائق الصغيرة والمتوسطة والتي تمثل العضلات ولجعل محفظة الشركة متوازنة.

 

العمل في شركة المشاريع التجارية العربية

 

انتقلت بعد أكثر من عام من العمل مع الشركة السعودية المتحدة للتأمين في الخُبر للعمل في شركة المشاريع التجارية العربية Arab Commercial Enterprises (ACE) كانت الشركة، كسابقتها، تعمل تحت مظلة مجموعة أعمال كبيرة أخرى وهي مجموعة العليان والتي كان يقال أن صاحبها يملك 7% من أسهم شركة إكسون للنفط Exxon – والتي هي إحدى الشركات المساهمة في شركة الزيت السعودي الأمريكي (أرامكو) – مدعوماً بشكل ما من الحكومة السعودية أو أن هذا كله كان مقدمة لسعودة أرامكو بشراء باقي الحصص ليصبح اسمها فيما بعد (أرامكو السعودية)، لتكون إضافة مهمة إلى جانب العديد من النشاطات الاقتصادية في سوق الاقتصاد الحر.

 

كان يرأس الشركة المدير الإقليمي جي. ألفا ومديرها الفني ألبير غطّاس، ويجمعان بينهما النشاط والخبرة. كانت الشركة تتمتع بكونها شركة تأمين وشركة وساطة brokerage firm وبفضل الجمع بين الاثنين كان بالإمكان اختيار ما يسند إلى شركة التأمين المساهمة من أخطار كبيرة وتحويل ما يفوق على القدرة الاكتتابية للشركة إلى شركة الوساطة لتقوم بتوفير الحماية الإعادية المطلوبة في الأسواق الدولية.

 

إن العليان ومجموعة شركاته كانت توفر حجماً جيداً من الأقساط مشفوعاً بتوزيع جغرافي لفروع الشركة في الدمام حيث الميناء التجاري الرئيس في المنطقة الشرقية والذي يغطي استيرادات العاصمة الرياض كذلك، والتي كانت في طور نمو كبير وبفضل توسطها المملكة. كان هذا الميناء يحتاج لتوسعة فظهر مشروع لبناء 32 رصيف استخدم عدد منها حصراً من قبل العراق خلال الحرب العراقية/الإيرانية لتغطية احتياجاته بعد توقف موانئ البصرة عن العمل. وكان للشركة فرع في الخبر التي تبعد عن الدمام 20 كيلومتر. ورغم ذلك كان هناك طاقم يغطي نشاط الشركة في الخبر والظهران.

 

بعد فترة من العمل في الإدارة العامة في الخبر ظهرت الحاجة إلى مساعد مدير لفرع الدمام، وكان مدير الفرع ينوي التقاعد في وقت لاحق، فتم تنسيبي إلى هذا الفرع.

 

العمل في شركة اتحاد الخليج للتأمين

 

بعد ما يزيد عن عام وفي بداية عام 1980 ظهرت شركة اتحاد الخليج للتأمين Gulf Union Insurance Co وكان بيرسي سكويرا، رجل التأمين العراقي المتمرس، قد اختير مديراً عاماً لها، فتقدم إلى الشركة التي أعمل فيها للسماح لي بالانتقال إلى الشركة الجديدة ولم يكن قد مضى على عملي معها 14 شهراً. وهكذا كان رغم صعوبة نقل الكفالة ولكن وبفضل نفوذ كفيل الشركة الشيخ منصور بن جمعة، وهو بدوره وكيل الملكة زوجة الملك خالد، فقد تم ذلك.

 

ظهرت شركة اتحاد الخليج للتأمين (كشركة مساهمة بحرينية مُعفاة) برأس مال يصل إلى 6,000,000 دينار بحريني. وكنت أول من عمل في الشركة حتى أن ذلك كان يستدعي أن ألبس أكثر من قبعة ولم يكن برسي سكويرا قد وصل بعد. كانت الشركة تشغل طابقاً كاملاً في عمارة الملكة الحديثة الإنشاء، وكنت أنتظر وصول الأثاث من الكويت، وعند وصوله ظهرت الحاجة إلى نصبه وتوزيعه. وبعد أيام قليلة ظهر أن العمارة التي نحن بعض شاغليها لم تكن مؤمنة فدار حديث حول هذا الموضوع مع الشيخ منصور بن جمعة فلم يمانع من إسناد التأمين إلينا ولكنه أثار مسألة أن ليس هناك مكاتب بعد ولا موظفين سوى شخصي ولا يريد المخاطرة حتى تستقر أمورنا فأكدت له انه بإمكاننا ذلك. ورغم أني كنت معيناً كمدير لقسم إعادة التأمين فقد استعنت بموظف سوداني كان يعمل لدى منصور بن جمعة ككاتب طابعة وعمل في وقت لاحق في الشركة كثاني موظف. وباستخدام مطبوعات وثائق تأمين وصلت للشركة خلال هذه الفترة بالبريد، وبعد إجراء كشف مفصل على البناية أصدرنا الوثيقة رقم واحد ووقعتها أنا بعد الاتصال بالسيد برسي سكويرا وموافقة منصور بن جمعة على أن يوقعها توقيع ثانٍ برسي سكويرا وتختم الوثيقة بخاتم الشركة بمجرد إصدارها.

 

كانت تجربة العمل هذه مختلفة عن غيرها لأنها كانت في طور تأسيس شركة من الخطوة الأولى، وقد أعطيتها الكثير من وقتي، فكان عليَّ أن ارتدي أكثر من قبعة لحين اكتمال نصاب الموظفين، فأنا مطالب بأن أجد مسكناً للموظفين العزاب القادمين من خارج المملكة. وهكذا كان فوجدنا عمارة جديدة تصلح لذلك، وتحوّل حارس العمارة للعمل في الشركة كفراش فأصبح بذلك ثالث اثنين، وقمنا بنصب الطاولات والكراسي والدواليب ولو بشكل مؤقت لنجد ما نجلس عليه، ثم نجمع المخلفات من أغلفة الطاولات وغيرها من الأثاث. وكان العمل اليومي 12 ساعة وكأنه المألوف. ثم بدأ البحث عن عمارة أخرى لسكن الموظفين المتزوجين وكان استقامة هذا الموضوع مع الوقت اللازم لتغطية احتياجات عائلتك من الأمور الصعبة جداً.

 

توسعت الشركة في فترة قصيرة لتغطية رقعة جغرافية كبيرة فتم تأسيس فرع في الرياض ثم لحقه آخر في جدة، لكن ذلك كان على حساب استنزاف طواقم الموظفين في المركز في الخبر الذي كان يغطي مدينة الدمام أيضاً. مثلاً، تم فرز محاسب الشركة ليصبح مديراً لفرع الرياض. وهكذا أصبح المركز في حاجة إلى عاملين فيه لتغطية عمله وهو القلب. انضم إلى طاقم العاملين في الشركة السيد منيب خسرو، وهو من أحد خبرات شركة التأمين الوطنية في بغداد، كمعاون مدير عام لكنه لم يبق طويلاً وترك الشركة للعمل في قطر.

 

في اعتقادي ان الشركة كانت معنية بهذا الجانب، وأقصد به عدد الفروع، ليتلائم مع رأس المال الكبير وتحقيق أقساط تأمين ترضي المساهمين فيها دون النظر إلى الإمكانيات البشرية المتوفرة لإدارة هذه الفروع.

 

استمر عملي في شركة اتحاد الخليج للتأمين لمدة عامين كانت خلالها الحرب العراقية الإيرانية قد ابتدأت. وعندما تركتها للعمل في مكان آخر كانت الحرب في ذروتها، وكنت حتى ذلك الحين أحمل جواز سفر عراقي كان يُصعّب مهمة حامله ولا يسهلها كما يرد في نص مذكور على الصفحة الداخلية للغلاف.

 

انفصال مؤقت عن التأمين: العمل في شركة البابطين لصناعة البراميل البلاستيكية

 

بعد عامين من العمل في شركة اتحاد الخليج للتأمين وبعد أربع سنوات من عملي في سوق التأمين السعودي انتقلت للعمل في مجال آخر مختلف كلياً عن سنوات عملي وخبرتي في التأمين إذ انتقلت للعمل في شركة البابطين لصناعة البراميل البلاستيكية كمساعد للمدير العام للاستفادة من خلفيتي الأكاديمية في الاقتصاد والإدارة. وكانت هذه الشركة هي إحدى الشركات التي تؤمن أصولها لدى شركة اتحاد الخليج للتأمين.

 

كانت تجربة جديدة وجميلة للتعرف على الجانب العملي في الإنتاج المادي والتسويق. كانت هذه البراميل تباع أساساً إلى شركة الصناعات الكيمياوية في المجمع الصناعي في مدينة الجبيل الصناعية والتي كانت قد بدأت تعمل كمدينة صناعية لمنتجات بترولية والصناعات المساندة وهي تبعد ما يقارب 120 كيلومتر عن الخبر و 100 كيلومتر عن مدينة الدمام حيث مصنع البابطين للبراميل البلاستيكية في المدينة الصناعية في الدمام.

 

تعلمت الكثير عن هذه الصناعة واعتقد بأنها كانت مفيدة لي في التعرف على الجوانب الفنية في العملية الإنتاجية بدءاً من إدخال حبيبات البولي بروبلين ثم مزجها بالألوان المطلوبة ثم المادة التي تجعلها مقاومة لتأثير حرارة الشمس خاصة وأنها تحفظ في أماكن مكشوفة. وكذلك معالجة المسائل المتعلقة بالعمالة في المصنع بكافة مستوياتها (موظفين وعمال ومهنيين وسواق). وكالعادة في هذه الفعالية الاقتصادية في السعودية نجد أن العاملين هم من جنسيات وثقافات ومستويات علمية مختلفة ومتباينة كما في حالة المدير العام وهو عراقي وكان أحد العاملين السابقين في مجمع البتروكيمياويات في البصرة، وانتهاءاً بسواق مركبات نقل المنتجات إلى الشركات المختلفة الصومالي الجنسية.

 

العودة إلى التأمين: العمل في شركة التأمين الأهلية

 

بعد عام، أحسست بانني أغرد خارج السرب فقررت العودة إلى أحضان الصناعة التي أحببتها ووجدتها تأخذ كل اهتمامي وهي التأمين، فانضممت إلى شركة التأمين الأهلية، وهي شركة بحرينية يعمل فرعها الإقليمي في السعودية تحت مظلة مجموعة شركات الزامل. وهذه المجموعة تغطي نشاطات تجارية وصناعية (الزامل للمكيفات) و (الزامل للزجاج) و (الزامل للحديد-لصناعة الهياكل الحديدية للأبنية) و (الزامل للصناعات الغذائية) وكذلك النشاطات الخدمية (الزامل للخدمات البحرية) و (الزامل لخدمات عمال الموانئ والتفريغ). كانت كل واحدة من شركات المجموعة تحت قيادة واحد من الأخوة، وهم جميعاً ذو تحصيل علمي عالٍ جداً وكان من بينهم وزير الصناعة في حينه.

 

عملت مديراً لهذا الفرع، وكما في الحالات السابقة فإن الشركة كانت تتمتع بالاكتتاب بأعمال معظم شركات المجموعة، وبذلك كانت المحفظة أكثر تنوعاً فقد كانت تضم تأمين هياكل السفن لشركة الزامل للخدمات البحرية والتي كانت تملك عدداً من القاطرات البحرية tugboats وسفن الخدمة، وهو ما لم أخْبَره من قبل، وكانت تمارس أعمال التحميل والتفريغ stevedoring مروراً بالأنواع التقليدية للتأمين مثل الحريق والبحري-بضائع ومسؤولية رب العمل عن حوادث العمل والسيارات والمسؤولية الناتجة عن المنتجات المصنعة products liability.

 

كانت فترة عملي في شركة التأمين الأهلية الأكثر إثراء لخبراتي وأطولها زمناً، واتيحت لي فيها أكثر من فرصة تدريبية في مجال التأمين (كندوة التأمين البحري/البحرين) حيث التقيت بزملاء من التأمين الوطنية مثل موفق ألكسندر غازي وفؤاد عبدالله وشهاب العنبكي، والأخيران كانا يمثلان التأمين الوطنية وكان يفترض أن يحضر هشام بابان أيضاً لكنه تخلف عن الحضور.

 

كان السفر إلى البحرين للإلتقاء بالسادة أعضاء مجلس الإدارة، السيد تقي البحارنه، رجل الأعمال والأديب والدبلوماسي السابق، والسيد علي صالح الصالح، الذي أصبح وزيراً فيما بعد، والسيد قاسم فخرو، والمدير العام جميل حجّار، وعصام زينهم، المدير المالي للشركة وزميل الدراسة الثانوية في القاهرة، والزملاء البحرينيين الذين لم يألوا جهداً لاصطحابي في جولات في المنامة لتناول حلوى شويطر المشهورة مع فنجان قهوة عربية. كانت زيارتي للبحرين تمثل فسحة حقيقية وجواً اجتماعياً مختلفاً، وكانت تستغرق مني عشرة دقائق بالطائرة، وعندما تم إنجاز الجسر الرابط بين الخبر والبحرين أصبح الذهاب بالسيارة أكثر من مناسب ومريحاً يسمح لك باستعمال سيارتك هناك وبحرية.

 

التطوير المهني من خلال الدورات التدريبية

 

لقد أتيحت لي فرصة الاستفادة من المزيد من الدورات التدريبية وأنا أعمل في شركة التأمين الأهلية كدورة الاتحاد العام العربي للتأمين البحري (GAIF) General Arab Insurance Federation Marine Insurance Seminar ثم حلقة دراسية في المنامة أيضاً حول التأمين العام، ثم الحلقة الدراسية التي أقامتها المجموعة العربية لإعادة التأمين (ARIG) ARIG Reinsurance Seminar في البحرين أيضاً حول تصميم برنامج إعادة تأمين لشركات التأمين العربية Designing a Reinsurance Programme for an Arab Insurance Company.

 

ومن خلال مجموعة شركات الزامل التي حرصت على تطوير مهارات موظفي شركاتها والتي كانت شركة التأمين الأهلية إحداها أتيحت لي فرصة لحضور دورة في التنظيم والإدارة قدمتها المجموعة من خلال محاضرين أجانب Al Zamil Management Course. وفي عام 1985 كانت لي مشاركة أخرى من خلال اتحاد الغرف التجارية العربية حول الاحتيال في التأمين البحري، وكان هذا الموضوع يحظى باهتمام رئيس الاتحاد الأستاذ محمد الملا ونائبه المرحوم الأستاذ إحسان عيسى الخلف لأن تلك الفترة كانت مليئة بحوادث الاحتيال البحري والاحتيال في التوصيف في وثائق التأمين. ومن أشهر تلك الحالات كانت لأحد التجار الذي استورد دراجات هوائية بدون تثبيت أي مواصفات أخرى لتصل فيجدها عبارة عن نماذج مصغرة للدراجات الهوائية توضع على المكاتب!

 

وتعززت معارفي بحلقة دراسية عام 1988 حول تفسير الجوانب المختلفة للبيانات المالية للشركات والتي أقامتها شركة ويني مَري Whinny Murray & Co: Financial Statements and their Interpretation. وكان ذلك مفيداً لي جداً خصوصاً وأنني كنت أمثل شركة التأمين الأهلية في اجتماعات مجلس المساهمين في شركة الإسمنت السعودي/البحريني والتي كانت التأمين الأهلية مساهمة في رأسمالها.

 

الاقتراب من التأمين من موقف التراث

 

كان هناك دورة أقامها اتحاد الغرف التجارية والصناعية السعودي حول الالتزامات القانونية في عقد التأمين Legal Obligations in Insurance Contracts. لكن دوري هذه المرة كان كمحاضر. وفي عام 1989 أصبح التأمين، وفي فترة قصيرة نسبياً، موضع اهتمام المؤسسات الراعية للنشاطات التجارية والصناعية كما هو الحال في هذه المحاضرة.

 

إن أكثر الأمور إثارة كانت دعوتي لأكون محاضراً في معهد الإدارة في الدمام، بدعوة من د. رياض الرياحي، لمجموعة من الطلاب والذين هم في الحقيقة موظفين منتدبين من دائرة الزكاة والدخل (الضريبة). والإثارة تكمن في أن عليك أن تقنع بالحجة في بيئة عمل كالسعودية حيث كان لا يوجد قانون ينظم او يعترف بالتأمين رغم وجوده قيد الممارسة، وفي بيئة يسود فيها الانطباع أن التأمين حرام وتشوبه صبغة الربا وشبهة الغرر، وفي قول آخر أنه نوع من القمار.

 

كان علي أن استعد بما أعرف من التخريجات الشرعية لمواجهة ما توقعته من أسئلة الطلاب، وكان ذلك فعلاً ما حدث. ابتدأت المحاضرة بإلقاء قطعة نقود معدنية في الهواء لالتقطها بيدي وأقول ما كنا نمارسه في طفولتنا في العراق (طُرّة لو كتْبَه؟) وبالنسبة لهم (ملِك لو كتابة؟). وكان رد فعل الطلاب بين من يستغرب ما يفعله المحاضر البهلوان وآخر يقول ملك أو كتابة على استحياء، فكان ذلك المفتاح لأشرح من خلاله لهم نظرية الاحتمالات probability theory ثم الدخول إلى الجانب الديني الفقهي بالإشارة إلى مقولة ابن تيمية، الذي يُعمل بفقهه في المملكة، والذي يقول (إن كل العقود حلال إلا ما حُرّم بنصٍ صريح أو قياسٍ صريح). وحيث أنه لا يوجد في القرآن نص صريح أو حتى غير صحيح، وحيث أن التأمين عقد بين طرفين (المؤمِن والمؤمن له) فهو صحيح. ثم عودة إلى القياس الصحيح، ذكرت لهم رحلات قريش التجارية (رحلة الشتاء والصيف) حيث كان يطبق شرعة (قانون) متعارف عليه وهو أن من فقد ناقة وما تحمل، وهو ما كان يحدث حيث ينفك خطام الناقة أو الجمل والذي يربط بذيل الذي يسبقه في قافلة كبيرة (تصل إلى المائة أو ما فوقها)، يتعاهد المشاركون في الرحلة بتعويضه عن خسارته. وكذلك قول منسوب للرسول عليه الصلاة والسلام (من كان له فضُل ظَهرٍ فليعُدْ به على من لا ظهر له). وكانت النتيجة مُرضية للجميع.

 

الغزو العراقي للكويت وبعض آثاره التأمينية

 

كان عام 1990 عام دخول القوات العراقية إلى الكويت، وكان لهذا الحدث تأثيراً كالزلزال في المنطقة ككل. فبعد يومين من وصولي إلى السعودية عائداً من سويسرا دخل الجيش العراقي في 2 آب/أغسطس 1990 الكويت. أذكر أن أحد المدراء الأجانب من العاملين في إحدى شركات الزامل، وكان بريطاني الجنسية، أخبرني بأن العراقيين قد دخلوا الكويت ولم يكن ذلك قد أعلن بعد في الراديو أو التلفزيون، وذكر أنه سيغادر مساء ذلك اليوم في طائرة مخصصة لتفويج الرعايا الأجانب. كنت استمع له وأنا في ذهول فعندما كنت أقرأ عن تحشد عراقي على الحدود مع الكويت في الصحف السويسرية كنت أسارع فأشتري الجرائد العربية التي كانت تباع هناك والتي لم تكن تذكر أي شئ من هذا القبيل ولكنه الآن أصبح حقيقة مع أنه لم يكن قد تحقق بعد. لقد جاء هذا الرجل محاولاً استشفاف رد فعلي كوني عراقي، وطافت إلى السطح كل الأفكار التي تدفع بعدم الثقة بهذا الرجل. ولكن خلال الساعة التالية كان الشارع قد أمتلأ بعمال من الشركات التابعة لمجموعة الزامل قادمين إلى حيث يوجد في نفس العمارة التي نشغلها، والتي تخص آل الزامل، مكتب الشيخ حمد الزامل، الرئيس التنفيذي للمجموعة آملين أن يكون في يده حل لتسوية أمورهم والرغبة في المغادرة. ولكن الرجل كان ما يزال في سويسرا حيث التقيته هناك قبل عودتي، وبقية الأخوة كان معظمهم خارج المملكة فهي فترة العطلات. كان وجود العمال في الشارع قد تحول إلى ما يشبه المظاهرة. وبدأ الناس في المسارعة إلى مكائن الصرف النقدي خصوصاً وأننا في مركز مدينة الخبر تحيط بنا مراكز البنك السعودي الأمريكي، والسعودي الفرنسي، والسعودي البريطاني، والراجحي للصرافة، والبنك العربي. ولا أستطيع أن أصف كيف تحول الموقف خلال دقائق إلى شكلٍ من الفزع الذي خرج عن السيطرة. خلال الأيام التالية وبعد أن تأكد الخبر وبدأت شائعات بان قوات عراقية تتجه نحو الخفجي، وهي منطقة نفطية داخل السعودية وتبعد ما يقارب 120 كم عن الخبر، زاد الأمر سوءاً خصوصاً وان إجلاء الجاليات الأجنبية كان مستمراً. وتحولت هذه المدن إلى مدن أشباح، وانتقل عدد كبير إلى داخل المملكة كالرياض أو المدن المقدسة مثل مكة أو المدينة. خيّرتُ موظفي شركة التأمين الأهلية العاملين معي في أن يغادروا أو البقاء. أما أنا فكنت من الباقين. وبدأنا ببرنامج للسيطرة على ما يمكن من الأحداث المؤثرة في عملنا كالمسارعة إلى تحصيل أكبر قدر ممكن من الأقساط التي لم تدفع بعد، ووضع أخطار الحرب كتغطية إضافية في بعض وثائق التأمين البحري وبأقساط مناسبة للأحداث.

 

كان الحدث مؤثراً في النشاط الاقتصادي الذي كاد أن يكون شللاً تماماً كالذي يصيب الإنسان. وكنت من المدراء القلائل الذين بقوا على رأس عملهم في المجموعة، ولم يكن في هذه الشركات صناع قرار للاستمرار في رفد العمل بوثائق تأمين جديدة. ونفس الوضع كان ينطبق على الصغار أيضاً والذين كانوا يتطلعون إلى الأسماء الكبيرة في سوق الأعمال. كان الانخفاض الحاد في أقساط التأمين في نهاية شهر آب/أغسطس لا تخطئه العين، واستمر ذلك حتى بدأت قوات التحالف بالتدفق على الخبر وظهران استعداداً لإجلاء القوات العراقية من الكويت، واقترن ذلك بالإنفاق على المشتريات المباشرة من السوق، وبدأ الناس يلاحظون تواجد للجنود (والمجندات الأمريكيات) والذي كان شيئاً جديداً عليهم فالمجندات يقدن العربات العسكرية ويشترين بعض التذكارات والأكلات الشعبية المحلية وعلى رأسها الكَبْسَه (رز ودجاج أو رز ولحم). بدأ التسابق بين الشركات التي لم يزل العاملون فيها موجودين على الأرض في التنافس على الأعمال الصغيرة للبقاء على قيد الحياة إذا جاز التعبير. واستطعنا الفوز بأعمال بعض مصانع المياه المعبئة ومصانع الثلج والتي كانت موضع طلب كبيرٍ جداً في حر الصحراء السعودية، وكذلك تأمين بعض التجار المجهزين لعمارات سكنية كانت فارغة تنتظر قرار الحكومة بتسليمها والتي أسكنت الحكومة فيها اللاجئين الكويتيين بعد تأثيث الشقق فيها بسرعة لاستيعاب القادمين الجدد. وكانت مجموعة الزامل تملك قسماً تجارياً لتجارة الأثاث باسم (الزامل للأثاث) وكذلك (شركة المطلق للأثاث). وبذلك كان لثباتنا على الأرض نتائج لا بأس بها.

 

بدأ النشاط الاقتصادي يستعيد عافيته بعد الانسحاب العراقي وظهور حاجة الكويت إلى توفير الكثير من احتياجاتها السريعة وكانت السعودية هي الأقرب، وكان في ذلك شئ من رد الجميل.

 

مع دخولنا في عام 1992 أخذ الكومبيوتر يأخذ حيزاً في أعمال الشركات، وظهرت حاجتي إلى تعزيز معرفتي بالبرمجيات وتحديثها لأن معرفتي بالبرمجة تعود إلى عام 1973 لكن هذه المعرفة لم تعد مناسبة لاستعمال وتطبيقات عام 1992. وتوفر لي دورة تدريبية في مركز صخر، وصخر هي شركة كويتية للبرمجيات.

 

تجربتي مع شركة التأمين السعودي/البحريني ودور العوائل والمجموعات المرتبطة بها

 

كانت سنوات عملي في شركة التأمين الأهلية مليئة بفرص التطور النظري والعملي، تزامن ذلك مع تأسيس شركة منبثقة من الشركة الأم (التأمين الأهلية) سُمّيت التأمين السعودي/البحريني، شركة معفاة ولا تعمل في البحرين حيث الشركة الأم، وتعمل فقط خارج البحرين، ويكون الشيخ حمد الزامل، وهو أحد الأخوان من مجموعة الزامل، كأحد المساهمين فيها وليس ككفيل – كما هو الحال مع التأمين الأهلية – وعلى أن تنقل لها أعمال التأمين الأهلية في الخارج، والمقصود هنا السعودية على وجه التحديد حيث لم يكن للأهلية نشاطات خارجية في دول غير السعودية، كبداية للتوسع في دول أخرى. وتم تأسيس فرع للشركة الجديدة في جدة لأنها تمثل أكبر كتلة أعمال من القطاع الحكومي والأهلي وتغطي مكة والمدينة وينبع والتي كانت تشهد نمواً. وظل الفرع يمارس أعماله لمدة سنة ونصف تقريباً ويرتبط بالإدارة العامة في البحرين. ولكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر – كما يقول المثل الشعبي.

 

كما هو الحال في تجارب الكثير من الشركات التي تعتمد أساساً على أعمال الكفيل وحيث أن الحجم الأكبر من أعمال مجموعة شركات الزامل والتي تتوزع في المنطقة الشرقية من المملكة وتليها الرياض ثم جدة، وحيث أن جدة مدينة كبيرة وفيها صناعات كثيرة وقريبة من المدن المقدسة وميناء ينبع ومدينته الصناعية، وهي الثانية للبتروكيمياويات بعد الأولى في الجبيل في المنطقة الشرقية ولوجود عوائل تجارية عملاقة تمارس كل ما يخطر على البال من النشاطات الاقتصادية (تجارية وصناعية وحتى زراعية) فمن المتوقع ان يكون لها نشاط في قطاع التأمين تظهر فيه اسماء لشركات ألمانية عريقة (ميونيخ ري) وأخرى فرنسية وبريطانية. وكانت هذه العوائل تدعم شركاتها فلم يكن أمام هذا الفرع فرص كبيرة لحيازة أعمال كبيرة تشكل العمود الفقري للمحفظة. فلم يكن وارداً أن مجموعة شركات الجفالي (تصنيع مكيفات الهواء، وكلاء مارسيدس، ونشاطات في تصنيع الإسمنت كما في شركة الإسمنت السعودي البحريني التي ذكرتها من قبل) التي ارتبطت بشركة (ميونيخ ري) من خلال شركتها الوطنية National، أن تتخلى عن شركاتها والأقساط الناتجة عنها للآخرين. وقل مثل ذلك عن مجموعة شركات الراجحي، وهم أخوين يعملان في الصرافة قاما بتنميتها لتكون مصرف الراجحي الإسلامي وتوسعا لتشكيل مجموعة كبيرة من الشركات ومنها الراجحي للتأمين الإسلامي (وهي ظاهرة بدأت تنتشر وتعرف بالتأمين الإسلامي). أو قيام شركة التأمين التعاوني برأسمال عملاق تساهم فيها هيئة الضمان الاجتماعي الحكومية فهذه الشركة استفادت من وجود الجين الوراثي الحكومي فيها لتمد نشاطها لتغطية الأعمال الحكومية والأخطار التي تخص الدولة. إزاء هذا التطورات أكتفى الفرع بالأعمال الصغيرة التي لم تكن كافية لتغطية مصاريف الفرع، فتم تصفية أعماله.

 

كان ذلك فرصة لي للإلتقاء ببعض الأخوان الذين التقيتهم وزاملتهم في المعهد السويسري للتأمين في زيوريخ مثل الأخ عبالوهاب أبو حراز الذي كان يعمل في فرع شركة التأمين السودانية وهو من السودان، والأخ عبد المنعم إمام من مصر والذي كان يعمل في الشركة الناشئة التأمين التعاوني، وآخرين من زملاء الدراسة الجامعية في العراق مثل الأخ فارس عبد الوهاب أمين الذي كان يعمل في شركة الراجحي للتأمين.

 

الانتقال إلى وساطة التأمين: العمل مع شركة الوسطاء السعوديون

 

في نهاية عام 1991 انتقلت للعمل مع شركة الوسطاء السعوديون Saudi Brokers وهي شركة وساطة تعمل من مقرها في الخبر ويشارك في ملكيتها ويقود الاكتتاب فيها كل من السيد عامر الأرناؤط والسيد عماد الحسيني بوظيفة المدير الفني.

 

وبملاحظة السنوات الأخيرة نجد أنها كانت سنوات عجاف في المنطقة وأن تأثيرات الحرب العراقية/الأمريكية كانت بادية للعيان وظهرت أثناء عملي في شركة الوسطاء السعوديون فكرة إنشاء فرع في نجران أو جيزان في الجنوب الغربي من المملكة قريباً من الحدود مع اليمن. وذهبت لدراسة الموضوع واتصلت بأصحاب الأعمال هناك وبالغرف التجارية الصناعية لهاتين المدينتين فكان الاستنتاج أن ذلك غير مجدي اقتصادياً، وأن هناك شركات تأمين في جدة تغطي نشاطات هذه المدن لقربها نسبياً من جدة، وأن حجم العمل يمكن تغطيته بسفر أحد مندوبي الشركة إليها مرة كل 3 أشهر حتى تتبلور رؤية واضحة للسوق هناك.

 

استمر عملي مع شركة الوسطاء السعوديون إلى عام 1994 وكان موضوع الأولاد الذين انقطعوا عن الدراسة لفترة طويلة بسبب الحرب والعمل في ظل ظروف الحرب الضاغطة دفعني للتفكير بالهجرة للمرة الأولى واستقر الرأي على نيوزيلندا لأنها في آخر العالم وأنا أسميها (حكاكة الكرة الأرضية) كما هي حكاكة قدر الأرز، وبعيدة عن مناطق الصراع، وليس لدي حساسية منها كما هو الحال مع بريطانيا أو أمريكا. وكانت البدائل الأخرى ككندا وأستراليا تمثل احتمالات واردة.

 

للحديث بقية

 

كانت فترة عملي في السعودية خليطاً من خبرات مختلفة في الجانب الفني من صناعة التأمين، أو في تطوير مهاراتي في التعامل مع العنصر البشري والذي يمثل، نظرياً، 60% من عملية الإنتاج. وهذا العنصر لا يتمتع جزء كبير منه (العمالة) بحرية الحركة والانتقال بسبب قيود قانونية تمنع نقل الكفالات إلا للضرورات أو بالواسطة. وهذا العنصر مكون من مجموعات عرقية مختلفة وأديان مختلفة وثقافات مختلفة. وكل ذلك يؤثر في القرارات والنتائج. وكان مدير شركة نيو إنديا New India واسمه سيد عبدالقادر يحدثني أن كثيراً من أولئك الذين يتصل بهم لترويج أعمال شركته يترددون في تمرير أعمالهم للشركة عند معرفتهم بالاسم الذي يمثل ما يدعى هناك (بابا هنوود). ورغم أنه كان يوضح لهم أن هذه الشركة ذات ملاءة مالية كبيرة وحجم أعمالها هائل إلا أن الارتباط الشرطي في أذهانهم كان يمثل معضلة يلتف عليها بكونه مسلماً وبثقافته الدينية.

 

آمل أن أكون قد وفقت في ذكر الأهم من معالم التأمين في المملكة العربية السعودية مقروناً بتجربتي الشخصية، محاولاً استبعاد انطباعات الخاصة جداً في المعالم التي عرضتها وتجربة عمل ثمانية عشر عاماً متنوعة في مصادرها ونتائجها.

 

كرايست تشيرتش، نيوزيلندا

أيار/مايو 2016