رمضان والتأمين
مصباح كمال
مع حلول شهر رمضان استلمت عدداً من البطاقات الإلكترونية مهنئة به وداعية له ليظلل حياتنا بكل ما هو جميل ويحقق لنا أمنيات، أو تتحقق فيه أمنيات لنا ولجميع الناس، والبعض يخص هذه الأمنيات بالمسلمين فقط، بدون تدخل الإرادة البشرية بل بالابتهال إلى الله. هي ذات العبارات وذات الصور والخطوط تتكرر سنوياً، وقليل من هذه الصور يثير الذائقة الفنية. وقد ساء أحد زملائي تشخيصي هذا، وكأنه يمس ما هو مقدس، فقرر أن يلغي اسمي من قائمته البريدية! لعلنا ننسى في الكثير من الأحيان مقولة “لكم دينكم ولي دين” التي تُقرُّ مبدأ الاختلاف والوجه المقابل لها مبدأ التسامح، وأن الاعتقاد الديني ليس حكراً لأحد أو يجب أن لا يكون محتكراً.
أثارت فيَّ بطاقات رمضان هذه المرة بعض التداعيات أحاول هنا ربطها بالتأمين وفتح باب، ربما يكون جديداً، في دراسة التداخل والتأثير بين البيئة الاجتماعية والنشاط التأميني في العراق، وهو موضوع ربما لم يلق الاهتمام. ما يعنيني تحديداً هنا التداخل والتأثير بين “أعباء” شهر رمضان وقطاع التأمين.
يرتبط شهر رمضان بالكثير من العادات والطقوس، ربما كُتب الكثير عنها في مطبوعات الأدب الشعبي والتراثي، وربما قام البعض بتوثيقها في رسائل جامعية. هناك من يحتفي برمضان لكونه يوفر فرصة لترويض النفس والبدن وامتحان الإرادة البشرية والتقرب من الله و”استغلال الموسم” للتكفير عن الذنوب والمعاصي. وهناك من يقبل بهذا الشهر على مضض لأنه لا يمتلك وسيلة للهروب منه إلا إذا كان موسراً ويتجه إلى بلاد أخرى.
البعض الآخر، من ذوي الاهتمام باقتصاديات الشهر “الفضيل” يتجه صوب الإشارة إلى الآثار الاقتصادية لرمضان من زيادة الطلب الفعّال على المواد الغذائية (تشجيع تجارة الجملة والمفرق) وزيادة استهلاكه، مروراً بإبطاء أو تعطيل الأعمال، وانتهاءً بتخفيض الإنتاجية التي هي أصلاً ضعيفة بسبب الوسائل القديمة في العمل والتنظيم وتقليل ساعات العمل وضعف الحوافز وغيرها من الآثار السلبية. إضافة هذه الآثار إلى آثار العطل الرسمية والعطل الدينية، القديمة والمستحدثة في عراق ما بعد 2003، موضوع يستحق الدراسة المستقلة وهو ما لا نستطيع القيام بها. وباختصار، وكما يرشح من الفضائيات العربية، فإن رمضان هو “موسم التسوق الأعظم” الذي يتخذا أشكالاً عديدة.
في العلوم الطبيعية، باستثناء علم الفلك، يجري اختبار الفرضيات في المختبر للتأكد من صحتها. مثل هذا الاختبار صعب التطبيق في العلوم الاجتماعية رغم أن المحاولات مستمرة في ميدان علم النفس، والاقتصاد، وحتى التأمين حيث تجري التجارب لقياس الموقف من الخطر مثلاً. وفي غياب التجربة المختبرية يتم اللجوء إلى الرصد والمراقبة والتأمل للتوصل إلى تفسير للظاهرة الاجتماعية.[1]
اعتماداً على هذا التوصيف المبسط للمنهج العلمي يوفر شهر رمضان مختبراً اجتماعياً كبيراً لرصد العديد من الظواهر ذات العلاقة بالإنتاجية وبالتأمين وهو موضوع هذه الورقة.
في تقييم الخطر القابل للتأمين لأغراض اكتتابية نستخدم مصطلحي الخطر المادي والخطر المعنوي. الخطر المادي، وهو ما يعرف أيضاً بالحقيقة الجوهرية، هو كل ما يتعلق بموضوع التأمين من عوامل طبيعية وغيرها يؤثر على قرار المكتتب بقبول أو رفض طلب التأمين أو تحديد الشروط المناسبة للتأمين بما فيها سعر التأمين. والخطر المعنوي يضم صفات في شخص طالب التأمين كالإهمال أو سوء التدبير أو ضعف الشعور بالمسؤولية أو المبالغة في المطالبات التي تقترب من الغش، وهو ما قد يمكن الكشف عنه من خلال تحليل مطالبات التعويض السابقة لطالب التأمين أو من خلال الاهتمام بدقة تقرير التفاصيل في استمارة طلب التأمين. وهذا الخطر قد يكون موجوداً قبل وخلال سريان وثيقة التأمين.[2]
الملاحظ أن هناك علاقة بين الأخطار المعنوية والأوضاع الاقتصادية ففي أوقات الكساد تزداد حدة الخطر المعنوي متمثلة بالميل في المبالغة بالمطالبات والغش مثلما تزداد حالات السرقة.[3]
نزعم أن حدة الأخطار المادية والمعنوية تزداد في شهر رمضان في بعض فروع التأمين. هذه فرضية يمكن التحقق منها من خلال رصد المطالبات المبلغ عنها خلال هذا الشهر، وتبويبها حسب أسبابها، ونوع وثيقة التأمين، وتقدير أقيامها، وتوزيعها الجغرافي.
كيف يمكن للأخطار المادية مثلاً أن تزداد خلال هذا الشهر. قد لا يمكن للمؤمن له رد العوامل الطبيعية من فيضان وعواصف وغيرها رغم أنه يستطيع التقليل من آثارها باعتماد وسائل هندسية لاحتوائها. يمكن أن يكون زيادة الخطر بسبب قلة تركيز العاملين والعاملات، بسبب الجوع والعطش، على تشغيل المكائن والمركبات والتمهل في التطبيق السليم للتعليمات. لنتذكر أن ما يفاقم الوضع في الموسم الحالي هو حر الصيف الشديد، وخاصة في بغداد، ومحدودية توفر الكهرباء، الذي يزيد من شدة الحر بسبب استخدام المولدات، والتشديد في تطبيق الطقوس المصطنعة.
وماذا عن الأخطار المعنوية؟ بسبب الخوف من المعصية ربما تخف حالات الغش والتزوير، وهذه أيضاً فرضية يمكن التأكد من صحتها من خلال تحليل طلبات التأمين والمطالبات بالتعويض. ولكن قد تزداد الأخطار المعنوية بسبب تفاقم الإهمال غير المتعمد بتأثير الجوع والعطش والصداع واضطراب روتين النوم واليقظة وحتى التنفيس عن الضغوط من خلال التفوه بعبارات معينة.
هل تزداد حالات الوفاة والحوادث الشخصية في هذا الشهر؟ ربما، لكننا لن نتأكد منها بدون دراسة معطيات التعويض خلال هذا الشهر. وهنا أيضاً من المفيد تبويب البيانات حسب الأسباب، ونوع التأمين، وقيمة المطالبة، والتوزيع الجغرافي. وبالطبع يمكن تحليل كامل محفظة المطالبات بالتعويض في كل فروع التأمين.[4]
يوفر شهر رمضان فرصة فريدة لتجميع المعلومات والبيانات وتحليلها والخروج بتوصيات محددة ضمن إطار إدارة الخطر – أي تحليل عناصر الخطر، وقياسه والسيطرة عليه باعتماد وسائل السلامة. وهذه الخطوات سابقة على إجراء التأمين كوسيلة لتحويل عبء الخطر على شركة التأمين (شراء وثائق التأمين المناسبة) أو تخصيص أموال لمواجهة ما يترتب على تحقق الخطر من أضرار وخسائر ومسؤوليات تجاه الغير (صندوق طوارئ) أو التحوط للمستقبل من قبل الأفراد (حسن التدبر).
قد تكون الفرضية الأساسية لهذه الورقة – وجود علاقة ما بين رمضان والتأمين – ليست صحيحة لكنها تظل قائمة لحين البحث عنها من خلال رصد مُنظم لسلوك طالبي التأمين والمؤمن عليهم. إذا كانت هذه الفرضية صحيحة من المناسب عندها أن تقوم الجمعية العراقية للتأمين بتوجيه نداء للنشر في الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى لاتخاذ الاحتياطات المناسبة خلال هذا الشهر. أرجو أن لا تكون هذه الدعوة موضوعاً للاستغراب فقانون العمل العراقي ينص على تعطيل الدوام الرسمي في حال ارتفاع درجات الحرارة عن المعدل غير الطبيعي.
ويمكن التوسع في البحث ليشمل مستوى النشاط خلال هذا الشهر داخل شركات التأمين.[5]
أطروحة هذه الورقة بحاجة إلى مناقشة وقد تكون صياغتي لها خاطئة من أساسها. أتمنى أن تقوم إحدى طالبات أو أحد طلاب الدراسات العليا البحث في هذه الأطروحة.
لندن 28 تموز 201
[1]نعتذر من القارئ على هذا التبسيط بأصول البحث والتبرير العلمي وبناء النماذج النظرية لفهم وشرح الظواهر.
[2]للمزيد من الشرح يمكن الرجوع إلى الكتب التي تعالج مبادئ التأمين وتحليل الخطر. أنظر مثلاً: د. عبدالباقي عنبر فالح، فاروق حبيب الملاك، عبدالرحمن مصطفى طه، إدارة التأمين (جامعة البصرة، 1990)، ص 23-25.
[3] للتدليل على ذلك نقتبس ملخصاً لخبر نشرته مجلة Insurance Age | 28 Jul 2011 التي تصدر في لندن:
وفقا للأرقام الصادرة عن (ABI) رابطة شركات التأمين البريطانية (Association of British Insurers) تضاعف مستوى الاحتيال في مجال التأمين إلى أكثر من الضعف خلال السنوات الخمس الماضية.
فقد شهدت السنة الماضية 133,000 مطالبة احتيالية بمعدل 2500 كل أسبوع. وبلغت قيمة هذه المطالبات 919 مليون جنيه استرليني، بزيادة 9 ٪ عن عام 2009.
أنصبت أكثر المطالبات القائمة على الاحتيال على تأمين المساكن (66,000 مطالبة زائفة أو مبالغ فيها) تليها مطالبات الاحتيال في التأمين على السيارات (40,000 مطالبة).
وأفادت الرابطة أن تكاليف المطالبات القائمة على الغش والتزوير تقدر بـ 2 بليون جنيه.
[4] يمكن أن تقوم كل شركة تأمين بمثل هذه الدراسة لوحدها ومن ثم تقوم جمعية شركات التأمين العراقية بتجميعها ما لم تتولى الجمعية بنفسها تنفيذ المقترح أو يقوم ديوان التأمين بذلك رغم عدم تفاؤلي بدور الديوان إذ أنه، ومنذ تأسيسه، لم يقم بإصدار تقريره السنوي عن حالة السوق كما تقضي بذلك المادة 11 من قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005. أرجو أن لا يكون هذا المقترح بحثاً في الرماد.
[5]تنصب مثل هذه الدراسة على تحديد عدد ساعات العمل الضائعة، التغيب عن العمل، انخفاض الإنتاجية (وهو موضوع صعب القياس ولكن بالإمكان مقارنة عدد الوثائق المنتجة خلال شهر رمضان مع بقية شهور السنة)، التأخر في التجاوب مع معيدي التأمين وتدني مستوى التعامل مع المؤمن لهم، إرجاء التعامل مع بعض المهام بعد انقضاء رمضان. التعامل مع المؤمن لهم مهم في كل الفصول وحسب علمي فإنه لم يكن موضوعاً للتدريب أو البحث. يمكن للقارئ المهتم بهذا الموضوع والتعرف على بعض جوانبه الرجوع إلى:
Willis Park Rokes, Human Relations in Handling Insurance Claims (Homewood, Illinois: Irwin, 2nd ed 1981. 1st ed 1967)